الإفتتاحيّة

بقلم
فيصل العش
افتتاحية العدد 44
 عندما تسترق السمع  لمعرفة ما يقوله الجالسون من حولك من رواد المقهى الذي تعوّدت الجلوس فيه لترشّف قهوتك الصباحيّة  وتحاول أن تتعرف إلى مشاغلهم أو عندما تخالطهم في الأسواق والدكاكين أثناء اقتنائهم لحاجياتهم وحاجيات عيالهم،  تشعر بتململ كبير في صفوف هؤلاء وبعدم رضاهم بما يحصل في البلد نتيجة فشل النخبة في قيادة مركب الوطن إلى برّ الأمان موجهين وابلا من الاتهامات إلى رجال السياسة الذين حسب هذه الجموع أو أغلبها هم سبب البليّة وأصل الدّاء. وقد أصبح البعض منهم يعلنها صراحة من دون خوف ولا وجل أنه يتمنّى عودة الحاكم القديم إلى سدّة الحكم حتّى ولو سرق مال الشعب ونهب خيراته وقمع الناس وتعدّى على حقوقهم وحرياتهم، فهو حسب ما يقولون كان بدكتاتوريته ضامنا لأمنهم وأمن عيالهم. أما في عصر الثورة،  فالأمن أصبح مفقودا والاقتصاد مخنوقا والفقير ازداد فقرا ولم يجن عامّة الشعب من ثورته غير عدم الاستقرار و الخوف من المصير المشؤوم. 
 وابل من الأسئلة تطرح نفسها بإلحاح وأنت تستمع إلى مثل هذه التحاليل والمواقف. كيف صارت البلاد إلى هذا الوضع ولماذا قلق الناس من ثورتهم سريعا؟ ومن المسؤول حقيقة عنه؟ هل هم الساسة الجدد أم البعض منهم أم هو النظام القديم الذي يريد البعض أن يحيي عظامه ؟ هل تتحمل النخبة لوحدها نتائج الوضع الذي نحن عليه؟ أم يشاركها الصامتون من المثقفين ومن عامّة المواطنين الذين لا يحركون ساكنا؟ وأي مستقبل ينتظر انتفاضتنا ؟ ليس من السهل الإجابة على مثل هذه الأسئلة في بضعة أسطر ولكن دعوني أشير إلى بعض الملاحظات لعلّها تحرك في الباحثين والنخبة الحائرة نعرة البحث والتنقيب وتساعدهم في تشخيص واقعنا وربط حاضره بماضيه حتّى نستطيع جميعا أن نبني مستقبلنا بناءا صحيحا لا لبس فيه.
لا ينتظر عاقل أن يحصد في الصيف قمحا وقد زرع في الخريف شعيرا أو أن يغرس صنوبرا وينتظر أن يجني تفاحا أو تينا.. فقوانين الطبيعة تأبى ذلك وكذلك قوانين علم الاجتماع، فما نعيشه اليوم هو نتاج لما فعله بن علي في المجتمع التونسي من تخريب ممنهج في الثقافة والسياسة والاقتصاد طيلة عقدين كاملين. والنتائج لا تظهر بسرعة وقد تتطلب جيلا أو جيلين. ثم ماذا يمكن أن ننتظر من نخبة همّش بعضها وطورد وعذّب وكتمت أنفاسه وعاش جزءا من حياته بين جدران السجون والمنافي وبعضها عاش عقدين كاملين من الزمن بين نفاق الحاكم ومجاراته أو العمل تحت عباءته والتّمعش من عطاياه؟ فلا بدّ إذا من فترة من الزمن تتدافع فيها النخب وتتفاعل فيما بينها حتّى يميز الله الخبيث من الطبيب. تلك هي نخبتنا فهل نستورد نخبة من بلاد العجم لتتسلّم قيادة المركب ؟
من أسباب تفاقم الأزمة، عدم القطع مع آليات وأدوات النظام القديم في تسيير دواليب الدولة. فكيف يمكن تحقيق أهداف الثورة والنجاح في الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية بالاعتماد على نفس المنظومات الإعلاميّة والتربويّة والثقافية والأمنية والقضائيّة التي كان يعتمد عليها بن علي في حكمه؟ وحتّى لو قبلنا جدلا أن خيار التونسيين كان إصلاحيّا حتّى لا تنهار مؤسسات الدولة فإن العمليّة الإصلاحيّة لمثل هذه المنظومات لا يمكن أن تحدث قبل إنجاز مصالحة وطنيّة شاملة تمرّ عبر إرساء منظومة للعدالة الانتقالية تفتح فيها الملّفات وتعالج فيها القضايا بشفافية ويعتذر من خلالها المخطئون ويسترجع الضحايا بعضا من حقوقهم حتّى تذوب الأحقاد وتتلاشى رغبة الانتقام من جهة والخوف من جهة أخرى. عندها يمكن أن ينصرف التونسيون إلى البناء والعمل. لكن البلاد لم تسر في هذا الاتجاه فضاعت الفرصة. فهل بالإمكان إنقاذ الموقف؟
 لقد عمل النظام القديم على إرساء ثقافة تقوم على تقديم المصلحة الشخصية على المصلحة العامّة والبحث عن كسب المال بجميع الطرق المشروعة وغير المشروعة وطمس الروح الوطنية لدى التونسيين وتشجيع التديّن في صيغته الكهنوتية التي لا تخرج عن العبادات وأحكام المسجد ونواقض الوضوء وأحكام الحيض والنفاس بعد أن قام بمحاولة طمس الجانب القيمي للإسلام وتغييب أبعاده الحياتية عبر تطبيق سياسة تجفيف المنابع. كما عمل جاهدا على خلق جوّ من التصحّر الفكري بتضييق مساحة الفكر والعقل وثقافة التسامح ليحلّ محلها التقديس والنفاق وثقافة الحقد والكراهية. نحن نعاني من أزمة ثقافية وقيميّة حادّة ولا مجال للحديث عن واقع أفضل للتونسيين إلاّ بعد إرساء ثقافة بديلة تغيّر العقول وتمحو منها ما كان سائدا من مفاهيم لتملأها بمفاهيم جديدة ترفع من مستوى وعي الناس وترتقي بهم إلى رتبة المواطنة.فهل نحن فاعلون؟