الإفتتاحيّة

بقلم
فيصل العش
افتتاحية العدد 43

 بسم الله الشّافي من كل داء والصلاة والسلام على من بعثه بالدواء

عندما يضطر مريض إلى إجراء عمليّة استئصال ورم خبيث من جسمه، يُحتفظ  به في العناية المركّزة إلى حين، ثم يدخل في فترة ما بعد العمليّة وهي فترة صعبة على المريض وعلى من حوله من أهل وأحباب لأنه سيكون فيها ضعيف المناعة، تهدده المخاطر من كل جانب، فقد يصاب جرحه بتعفّن أو يصعب على الجسم تحمّل الآلام فينهار المريض ويدخل في غيبوبة جديدة قد تقصر أو تطول وقد يصاب بمرض جانبي لم يكن موجودا لديه من قبل. ومن أهم أسباب الشفاء  وجود طبيب يراقبه باستمرار وممرض ينفّذ أوامر الطبيب بدقّة ويوفّر للمريض العناية التي يستحق كما يجب أن يصبر المريض ومن حوله وأن تتكتّل جهود أهله وأقربائه لتوفّر له الظروف الصحيّة الملائمة والسهر على خدمته واحترام أوقات تمكينه من الدواء. فإذا توفّرت كل هذه الأسباب فإن المريض يشفى ويتعافى ويعود بعد ذلك صحيحا قوي البنيان قادرا على العطاء وقد تخلّص نهائيّا من الورم الخبيث الذي كان يعيقه عن العمل وشفي تماما من آثار العملية الجراحيّة التي أجراها .
كذلك الوطن، مثله مثل المريض، تخلّص من ورم خبيث كان جاثما على صدره يعدّ عليه أنفاسه، حوّل حياته إلى شقاء وخوف متلازمين. فقد تخلّص من الطاغية بن علي بعد جهد جهيد وثورة وتمرّد مات فيها من مات وجرح فيها من جرح واضطربت على إثرها الحياة الاقتصادية والاجتماعية أيما اضطراب ولهذا كان لابدّ من فترة من الزمن هي صعبة بطبيعتها يبقى فيها الوطن باحثا عن الشفاء وعن الطريقة المثلى ليتعافى من مخلّفات ما حدث.  فكيف يتصور البعض أو يريد أن يسوّق فكرة أن البلد قادر خلال عامين أو ثلاثة على تجاوز ما حدث ويحلّ جميع المشاكل التي كانت سببا في اندلاع الثورة ويتجاوز جميع الصعوبات فيتحقق للشباب ما ثار من أجله  «الشغل والكرامة» ويُقضى على الفساد ويعمّ الأمن والأمان ويزدهر الاقتصاد وتبنى مؤسسات الدولة على أساس الولاء للوطن واستقلالية تامّة عن الأشخاص والأحزاب؟
إن ما تعيشه بلادنا اليوم أمرا عاديا وحتميا في بلد تخلّص من الدكتاتور ولم يتخلّص من المنظومة الدكتاتورية التي تتحكم في مفاصل جميع مجالات الحياة وأنه ليس من السهل تحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي من دون أن تعيش البلاد بعض الأزمات نتيجة صمود القوى المعادية للتغيير وعملها الدؤوب من أجل إفشال كل عملية تهدف إلى الإصلاح مستعينة بشبكة علاقات وهياكل متينة استعصى على الحكام الجدد تفكيكها أو عزلها وأهمها الإعلام الذي ما فتئ أغلبه يضخّم الصّغيـــر ويحقـّر الكبير ويغيّب في ما يقدّمه للمواطنين كل ما هو إيجابي وناجح هدفه في ذلك خلق جــــوّ من التوتّر وعدم الرضاء لدى عموم المواطنين وتأليب الرأي العام على قوى الثورة .
فالوطن كالمريض في حاجة إلى الوقت ليشفى وعندما يتعدّى فترة ما بعد العملية بنجاح و يلتئم الجرح فإنه سيصبح معافى وأقوى من ذي قبل  ولكن هل وفّرنا للوطن الطبيب الجيّد والممرض الذي يتقن عمله لكي يشفى كما يشفى المريض ؟ وهل كنّا يدا واحدة متعاونين كالعائلة وأهل المريض ساهرين على رعايته آخذين كل الاحتياطات والإجراءات لتوفير أسباب الشفاء العاجل والتامّ؟
ما شاهدناه خلال ثلاث سنوات وما نشاهده اليوم من ممارسات لا ديمقراطية وما نعيشه من غياب للحوار بين مختلف الأطراف، وما نراه من عدم اكتراث جزء كبير من الطبقة السياسية للصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي تمّر بها البلاد ومن مخاطر الإرهاب وتفشّى ظواهر الفساد الفردي والجماعي وغياب عقد اجتماعي يجعل مصلحة تونس فوق كل اعتبار، ما هو إلاّ دليل عن سوء اختيارنا للطبيب أو أن الطبيب الذي اخترناه لم يكن له الخبرة الكافية لعلاج مثل هذه الحالات ولم يكن الممرض في المستوى المطلوب بل كان معاديا للطبيب فإذا به يمنع الدواء عن المريض ليس كرها للمريض بل نكاية بالطبيب ولم نهيئ الإطار النظيف فتكالبت الجراثيم من داخل غرفة الإنعاش ومن خارجها على الجسم العليل فتعفّن الجرح ولم يندمل. فهل سيستفيق من بيده الدواء لينقذ ما يمكن إنقاذه ؟. وهل ستنجح النخبة ومن ورائها القوى الحيّة في البلاد في تصحيح المسار لنسير حقّا في الطريق الصحيح لتحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي أم أننا أخطأنا الطريق وسنواصل في خطئنا لنصبح قاب قوسين أو أدنى من العودة إلى نقطة الصفر أو ما تحتها أي أننا في طريقنا إلى العودة للنظام القديم بشكل جديد أتعس مما كان عليه؟؟