في الشأن الوطني

بقلم
فيصل العش
منذ البداية ... أخطأنا الطريق !!!

 تعيش بلادنا هذه الأيام على وقع «الحوار الوطني» الذي كثر الحديث عنه وتفرّقت الأحزاب والجماعات بين مدافع عنه ومعارض له بالرغم من أن الجميع يعبّرون عن إيمانهم بأن الحوار هو الطريق الوحيد لتجاوز الأزمة بأقل التكاليف والخسائر. انطلق أخيرا الحوار الوطني بعد مضي ثلاث أسابيع كاملة من تاريخ جلسته التمهيدية التاريخيّة وبعد «ماراطون» من الجلسات التمهيديّة ولم تكن الجلسة الأولى للحوار لترى النور لولا وصول وثيقة تعهّد رئيس الحكومة الحالية السيد علي العريض بالتنحي في الموعد المحدد لذلك ضمن خارطة الطريق الشهيرة. وقد خصصنا لهذا «الحوارالوطني» مقالا في العدد السابق وأبرزنا موقفنا وقراءتنا له وللظروف التي انطلق فيها وتطرقنا إلى العراقيل والمعوقات التي تجعله أقرب إلى الفشل منه إلى النجاح. لكننا ، وبقطع النظر عن الشخصية التي ستتفق عليها الأطراف المشاركة في الحوار لتولّي رئاسة الحكومة الجديدة التي ستأخذ المشعل عن حكومة الترويكا بعد ثلاثة أسابيع إذا ما تمّ تنفيذ خارطة الطريق كما خطط لها الرباعي، نجد أنفسنا مضطرين إلى أن نحوم بالحديث مرّة أخرى  حول هذا الحوار لنتساءل عن هذه الحكومة الجديدة ودورها في المرحلة القادمة وهل سيكتب لها النجاح أم سيكون مصيرها الفشل؟ وهل ستكون فعلا في مستوى تطلعات الشعب التونسي فتسعى إلى تأمين المسار الديمقراطي وتوصل البلاد إلى برّ الأمان بعد أن توفر الظروف الملائمة لإجراء انتخابات نزيهة وشفافة؟ أم ستكون أداة لأطراف بعضها معلن والآخر خفي تُنَفـّذ عبرها أجندة الانقلاب الناعم لتعود حليمة إلى عادتها القديمة ويعود «بوهم الحنين» ولو عبر شخصية أخرى إلى سدّة الحكم ونودّع الحلم الذي سقط من أجله العشرات من التونسيين والتونسيات شهداء وجرحى ؟

من المؤسف حقّا أن يكون كل المترشحين لرئاسة الحكومة الجديدة (بعد استبعاد السيد قيس سعيد) من المنظومة القديمة، عملوا مع بورقيبة وساندوا بن علي في مشروعه الاستئصالي  بالمشاركة أو بالصمت. ومن المؤسف أيضا أن يكون أصغرهم سنّا  تجاوز سنّ التقاعد الوجوبي بخمس سنوات كاملة. ألم تلد نساء تونس من الأكفاء غير هؤلاء ؟ اليس هذا في حدّ ذاته تعبيرا عن القطع مع من قاموا بالثورة وهم الشباب ونجاح الثورة المضادّة ؟ أتساءل كما يتساءل الكثيرون ما هو دور الحكومة الجديدة وماذا تستطيع انجازه في ستّة أو ثمانية أشهر من الحكم؟ أم أنها تنوي البقاء طويلا؟ هل هي حكومة انقاذ كما ينادي بها نداء تونس وحليفتها الجبهة الشعبية أم حكومة لتأمين الانتخابات كما تراها الترويكا والعديد من الأحزاب الأخرى؟ إن كانت حكومة إنقاذ فسيكون عمرها طويلا لتستطيع تنفيذ برنامجها. وبالتالي فإن الحديث عن الانتخابات في غضون ستة أشهر أو سنة أو حتّى سنتين ليس له أساسا من الصحّة . وفي هذه الحالة ألا يفترض اختيار رجل اقتصاد لم يبلغ من العمر عتيـّـا  لرئاستها؟  أمّا إن كانت حكومة تصريف أعمال لضمان حياد الإدارة وتقديم المساعدة لهيئة الانتخابات التي من المفترض انتخابها كما تقرّ بذلك خارطة الطريق ، فهل نتوقع منها إنجازات ضخمة في الجانب الاقتصادي ؟ وهل تقدر في الفترة المتبقية لإجراء الانتخابات أن تعيد النظر في جميع التعيينات تنفيذا لمطالب المعارضة ؟ ألم يكن من الأجدى أن  يتحاور الفرقاء السياسيون حول ماهية هذه الحكومة ودورها في المرحلة القادمة قبل اختيار من سيرأسها؟ 
إذا حصل مبدأ القبول بتشكيل حكومة كفاءات ترأسها شخصية وطنية مستقلة لا يترشح أعضاؤها للانتخابات القادمة تحلُّ محلّ الحكومة الحالية التي تعهدت كتابيا بتقديم استقالتها، فهل سيقبل نواب المجلس التأسيسي أن تكون الحكومة الجديدة خارج نطاق مراقبتهم بلا رقيب ولا حسيب وتكون لها الصلاحيات الكاملة لتسيير البلاد، ولا يمكن لهم حجب الثقة عنها إلاّ  بموافقة ثلثي أعضائه على الأقل؟
ذلك هو «الحوار الوطني». ولد قيصريّا من قبل أن ينضج بتعلّة أن البلاد في خطر وأن الأزمة استفحلت ولم يعد هناك مجال للانتظار ... الأحزاب التي اجتمعت برعاية الرباعي وتعاهدت على تنفيذ خارطة الطريق وبالتالي المصادقة على الدستور واختيار هيئة عليا للانتخابات في ظرف لا يتعدّى ثلاثة أسابيع هي نفسها التي اجتمعت طيلة سنتين كاملتين تحت قبّة المجلس التأسيسي للتخاصم وتبادل الاتهامات من دون أن تنجح في تحقيق المهام التي انتخبها الشعب من أجلها. اليس في الأمر غرابة ؟ هل هو سحر يمتلكه الرباعي الراعي للحوار أم هي خطّة لإذلال إرادة الشعب من خلال إعلان فشل المجلس التأسيسي المتكون من نوابه الذين اختارهم عن طواعية وبكامل الشفافية ؟ 
إن اسقاط حكومة اختارها المجلس التأسيسي المنتخب وتعويضها بحكومة يرأسها أحد وجوه المنظومة القديمة هو عودة إلى ما قبل 23  اكتوبر 2011 وتكرار فترة «القايد السبسي» . وهو انتكاسة حقيقية للمسار الإنتقالي الديمقراطي للبلاد . فهل ستتكرر بنفس الطريقة أم ستستوعب قوى الثورة المضادّة هذه المرّة الدرس فتقوم بما يجب القيام به لعدم تكرار ما حدث في انتخابات 23 أكتوبر وما أفرزته من نتائج عبّرت عن اختيارات الشعب وتطلعاته. 
لم نكن نتمنّى أن يصل المطاف بالثورة التونسية إلى محطّة يتم فيها «بالتوافق» اسقاط حكومة اختارها نواب الشعب وتغييرها بحكومة يرأسها أحد رجال المنظومة القديمة بغض النظر عن صدقه ونواياه ولم يكن أحد يتوقّع أن يصرّح الشيخ راشد الغنوشي رئيس أكبر حزب تحصّل على مقاعد بالمجلس التأسيسي بعد التوقيع على خارطة الطريق و عشية تقديم رئيس حكومة الترويكا تعهدا كتابيا بالاستقالة ، أن قطار الانتقال الديمقراطي أصبح على السكّة وسيسير في الاتجاه الصحيح  !!!! لن ألوم الرجل فقد تكون التنازلات المتكررة لحركته فرضها الوضع الراهن الحرج والخطير وتقديرا لدقّة وحساسيّة المرحلة التي تمرّ بها البلاد وأنها اختارت منهج التمشي التوافقي والحوار مع فرقائها السياسيين من أجل إنجاح الوفاق لقطع الطريق أمام كل المنزلقات التي قد تؤدّي إلى المجهول والابتعاد قدر الممكن عن منهج الصراع لما له من عواقب وخيمة على البلاد والعباد. 
لا يمكن لوم أحد الآن، فقد سلك قطار الثورة الطريق الخطأ مباشرة عشية يوم 14 جانفي عندما وافقت القوى السياسية على تسلّم السيد فؤاد المبزع الذي كان نائبا ثم رئيسا لبرلمان بن علي طيلة حكمه، رئاسة الجمهورية وتعيين السيد محمد الغنوشي رئيس حكومة بن علي وزيرا أول للحكومة الجديدة الأولى ثمّ الثانية خوفا من الفراغ الدستوري. وبالرغم من القصبة 1 و القصبة 2 إلاّ أن الخطأ تكرر مرّة أخرى عندما دعي السيد الباجي قائد السبسي لرئاسة الحكومة الانتقالية الثانية والتي تكفّلت بالإعداد للانتخابات الخاصّة بالمجلس التأسيسي. لقد توقف المسار الثوري آنذاك وتحولت البلاد إلى ما يسمّى بمسار الانتقال الديمقراطي السلمي الذي كان يتطلب الإسراع بتنفيذ برنامج العدالة الانتقالية لكن ذلك لم يحصل فبقي الوضع السياسي عليلا واستحال على من تسلّموا الحكم بعد الانتخابات علاج هذا الوضع الذي ازداد تأزما بعد بروز ظاهرة الارهاب والاغتيالات السياسية. 
ولأن تتحمل الترويكا وخاصة حركة النهضة جزءا من مسؤولية بلوغ البلاد هذا الوضع الحرج من خلال اتباعها سياسة الأيادي المرتعشة وانسياقها وراء الفعل وردّ الفعل في تعاملها مع المعارضة، واعتبار الشرعية الانتخابية كافية لحكم البلاد بالرغم من الصبغة الانتقالية لتلك الفترة، وفإن المطلوب الآن من كل القوى الحيّة في البلاد والمنتصرة للشعب أن تكتّل جهودها وتعمل من أجل محاولة إنقاذ  المسار الانتقال الديمقراطي وعدم السماح لبعض الأطراف، داخلية كانت أم خارجية ، بقلب الطاولة من جديد والعودة إلى نقطة الصفر، إلى حالة ما قبل الثورة. 
نختم فنقول أن مسار الانتقال الديمقراطي في خطر ولا يمكن أن يحميه إلا العقلاء من أبناء هذا الوطن وهم قليلون لكنّ الله معهم فالله مع الحق أينما كان وعليهم أن يشمّروا على سواعدهم والعمل على توحيد صفوفهم من أجل الحفاظ على مكتسب شعبنا الوحيد المتمثل في حق الاختيار عبر انتخابات حرّة وشفافة وتعدّدية. لا أحد يمتلك حقّ الانقلاب على شرعية الصناديق والعودة بتونس إلى ما قبل 14 جانفي ولا أحد يحقّ له ان يفرض خياراته على الناس.