الافتتاحية

بقلم
فيصل العش
افتتاحيّة العدد 40

 من الشعارات التي رفعت إبان الثورة التونسية من طرف طيف كبير من السياسيين والمثقفين، شعار الدولة المدنية الديمقراطية التي تحترم حقوق الإنسان وتجعل من المواطن اللبنة الأساسية لبنائها والغاية التي من أجلها تعمل الحكومات ومختلف السلط المنبثقة عنها . إلا أن هذا الشعار بقي حبرا على ورق ولم يتحقق منه شيء بعد ثلاث سنوات كاملة. فما تحقق على أرض الواقع لا يتعدّى ممارسة التونسيين لحقّهم الانتخابي لأول مرّة في حريّة وشفافية واختيارهم لنوابهم المكلفين بكتابة الدستور الجديد للبلاد وهو حقّ تسعى عدّة أطراف في قلوبها مرض إلى وأده والقضاء عليه. 

إن تأسيس الدولة المدنية الديمقراطية له شروط أهمّها وجود وعي ديمقراطي لدى النخبة التي من مهامها قيادة عملية البناء وهو ما بان ضعيفا بل مفقودا لدى غالبية واسعة من مكوناتها. ويرى البعض أن غياب الثقافة الديمقراطية لدى هؤلاء لم يكن بإرادتهم ذلك أنهم نشأوا في مجتمع استبدادي قام على حكم الفرد الواحد والحزب الواحد، ولم يتعلّموا منذ صغرهم قيم المواطنة ومعاني الحرية وحق الاختلاف بل ترعرعوا في بيئة تقدّس «المجاهد الأكبر» و تناشد «صانع التغيير» ولا ترى مستقبلا للبلاد خارج الإطار الذي حدده لها الزعيم الأوحد . لقد عاش هؤلاء في ظل حكومات تعسفية تحكمت في إرادة الجماهير وجعلت منها قطعانا مطيعة وأبعدتها عن المساهمة الفعّالة  في الحياة العامّة. ولقد حاول عدد من هؤلاء التمرّد على هذه الثقافة وفتح ثغرة في جدار الاستبداد، فكان مصيرهم القمع والسجن والتعذيب والتهجير والملاحقة.   
لم تكن الديمقراطية في عهد «الصنمين» سوى شعارا تتداوله وسائل الإعلام وثوبا فصّله مفكرو السلطة على قياس الزعيم ولم تكن التعددية سوى ديكورا للمشهد العام فرضته موضة العصر ويافطة دعائيّة للتسويق الخارجي.
إن ما نشاهده اليوم من ممارسات لا ديمقراطية بين مختلف الفرقاء السياسيين وما نعيشه من غياب للحوار وما نسمعه من شعارات، هو نتاج لغياب الثقافة الديمقراطية. فهل يعني ذلك أن مشروع الدولة المدنية الديمقراطية غير قابل للتحقيق في بلادنا ؟ وإذا سلمّنا جدلا أن النخبة الحالية لا تستطيع بين ليلة وضحاها أن تتحول إلى قوى ديمقراطية تتنافس من اجل خدمة الوطن والمواطنين، فهل سننتظر فناء هذا الجيل من السياسيين والمثقفين حتّى نحلم بتغيير حقيقي في بنية العقل السياسي التونسي كما يقول البعض ومن ثمّ نستطيع أن نحلم بالدولة الديمقراطية ؟
لا اعتقد أن الإجابة على هذين السؤالين ستكون بنعم . فالانتظار لن ينفع مادامت الأجيال القادمة ستتربى في أحضان هذا الجيل ومادامت الطبقة السياسية الجديدة تتعلّم في ورشات تديرها وتحتضنها الطبقة السياسية القديمة. إن واقعنا الاجتماعي علمّنا أنه من الممكن أن ينتج والدان أميّان فقيران لم يعرفا مقاعد الدراسة مهندسا أو طبيبا أو أستاذا أو رجل أعمال ناجحا وبالتالي فإنه من الممكن أن تنجح نخبة عجزت عن الخروج من جبّة الثقافة الدكتاتورية في ولادة نخبة جديدة متشبّعة بالثقافة الديمقراطية ومؤمنة بأهمية الحوار كوسيلة وحيدة للالتقاء مع الآخرين وبذلك نكون قد خطونا مسافة في بناء الدولة الديمقراطية المدنية التي يحلم بها الجميع .
إن معرفة الدّاء نصف الشفاء والاعتراف بالخطأ مدخلا للكمال وبالتالي فإن اعترافنا كنخبة بعدم قدرتنا على التخلّص من براثن الثقافة الدكتاتورية سيجعلنا نجتهد أكثر لنجنّب أبناءنا الاكتواء بنارها . وبما أن الثقافة الديمقراطية تنمو بشكل تدريجي بالفكر والتجربة والتطبيق والمقارنة مع التجارب الأخرى فعلينا بشيء من الجهد والمثابرة والكفاح أن نبدأ وندفع نحو التحرر من التراث الثقافي لعصر الاستبداد ونعمل على مساعدة أبنائنا وأبنائهم على الولوج في عالم الديمقراطية بما نستطيع. أمّا إذا بقينا نراوح مكاننا ونرفض قبول الآخرين ومحاورتهم بتعلّة أنهم أعداء الثورة وأنهم إمّا رجعيّون أو كفار، فسنجني حتما على ثورتنا وسنتبوأ مقعدا بين الدول المتخلفة ونحرم جيلنا والأجيال التي تلينا من تحقيق حلم راود الجميع وهو بناء دولة مدنية أساسها المواطن وديدنها الديمقراطية.