الافتتاحية

بقلم
فيصل العش
افتتاحيّة العدد 36

 بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله

أصبح الحديث هذه الأيام عن الديمقراطية مقرفا . فما حدث في مصر ويخطط لحدوثه في تونس بعثر كل أوراق الدعاة إليها وزلزل الأرض تحت أقدامهم. وتحوّل شك البعض إلى يقين باستحالة الاستفادة من هذا المنتوج الغربي واعتماده لبناء دولة ما بعد الثورات العربية. وإلا فكيف نفسّر استنجاد «دعاة الديمقراطية» بالعسكر لإسقاط حاكم جاء عبر صناديق الاقتراع والتضحية بالشرعية لتصفية خصم سياسي؟ من كان يصدّق أن يتحول جزء كبير من الشباب المصري الذي كان رمزا لحركة تطالب بتغيير ديمقراطي في ثورة 25 يناير تحت شعار «يسقط يسقط حكم العسكر» إلى فيلق يهتف للانقلاب العسكري ويرفع صورا لجنرال جديد؟. وفي تونس، تطالعنا الأخبار كل يوم على حرص كبير لقوى تدّعي الديمقراطية لحل المجلس التأسيسي وإسقاط الحكومة بكل الطرق الممكنة لأنها ترى أن الإسلاميين لا يصلحون للحكم ولا يفقهون تسيير دواليب الدول. بالأمس كان هؤلاء يصرخون في وجه البوليس «يسقط حزب الدستور ... يسقط جلاّد الشعب» واليوم يهرعون إلى بقايا التجمع المنحل ليتحالفوا معه في محاولة لحسم المعركة بعيدا عن صندوق الإقتراع.  فهل هو الفهم الخاطئ للديمقراطية أم أن الديمقراطية غير صالحة للاستعمال في ربوع العالم العربي؟
اعتقد الجميع أنه بمجرد التخلص من الحكام المستبدين ستختفي معالم الكبت والظلم  ويصبح الطريق مفتوحا للولوج إلى  عالم الديمقراطية ومنه إلى التنمية والتقدم. لكن اتضح أن طيفا كبيرا من السياسيين نادوا بالديمقراطية كشعار وليس كمضمون. وذلك لغياب الثقافة الديمقراطية لديهم وفي الذهن المجتمعي عامّة ويتجلّى ذلك من خلال انعدام ثقافة قبول الاختلاف وتعدد الرأي وضعف قابلية التعايش وغياب مفهوم التداول على السلطة ورفض الخاسرين نتائج الصندوق مقابل تفرّد الرابحين بمقاليد الحكم والتسيير. فالجميع يرى نفسه المؤهل الوحيد للمسك بزمام الأمور وقيادة الشعوب وهي سلوكيات تكرّست في طبيعة المواطن العربي وبامتياز في المثقفين والسياسيين نتيجة عشريات الكبت والحرمان التي تسببت فيها الأنظمة الدكتاتورية السابقة. والتصفيق للإنقلاب في مصر والدعوة إلى تكرار نفس السيناريو في تونس لهو دليل لقابلية هؤلاء المصفقين للدكتاتورية وتشبعهم بثقافتها .
فهل حان موسم الهجرة إلى الدكتاتورية من جديد؟ أم أن ما حدث ويحدث هو بمثابة «الصدمة الإيجابية» وأمر ضروري للبحث في أعماق الأزمة والتوجه نحو البناء الديمقراطي الحقيقي ولو بعد حين؟
ولأن لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين ولا ديمقراطيين بدون ثقافة ديمقراطية، فإن المطلوب الآن الدفع وبكل ما أوتينا من قوّة نحو ثورة جديدة قد تتطلب منا جهدا كبيرا ووقتا طويلا للقضاء على ما تبقى من ثقافة دكتاتورية تسلطية وبث ثقافة الديمقراطية. ولا يتسنى ذلك إلا من خلال ضمانات ثلاث أولها الحرية للجميع وثانيها البحث العميق في مخزوننا الثقافي والحضاري والدّيني للمبادئ والقيم التي يمكن أن تؤسس عليها ديمقراطيتنا وبثها بين الناس وآخرها سدّ المنافذ أمام الثورة المضادّة للعودة من جديد.