شخصيات ملهمة

بقلم
فيصل العش
حنظلة... الشاهد الذي لا يموت

 عشقته وأنا تلميذ في الثانوي في أواخر السبعينات ، كنت مغرما برسم الكاريكاتور وكنت أنسخ بعناية كل رسم فيه حنظلة يقع بين يدي.  وكانت أوراق كراساتي وجدران غرفتي المتواضعة موشحة بحنظلة  ذلك الفتى الفلسطيني الموجود في رسوم ناجي العلي. لم أكن أعرف لماذا أدار ظهره وعقد يديه إلى الخلف لكنني كنت واثقا بأن ذلك يمثل موقفا رمزيا لحالة أغلب الأطفال الفلسطينيين «الغلابة» وهو أيضا تعبير عن كل طفل في الوطن العربي والعالم أجمع. اسمه «حنظلة»،  هكذا سمّاه الشهيد ناجي العلي عندما ابتدع شخصيته لتصاحب جميع رسومه الكاريكاتورية. ظهر رسم حنظلة في الكويت عام 1969م في جريدة السياسة الكويتية، وأصبح حنظلة بمثابة توقيع ناجي العلي على رسوماته. لقي هذا الرسم وصاحبه حب الجماهير العربية كلها وخاصة الفلسطينية لأن حنظلة هو رمز للفلسطيني المعذب والقوي رغم كل الصعاب التي توجهه فهو شاهد صادق على الاحداث ولا يخشى أحدا.

ولد ناجي العلي سنة 1937 م، في قرية الشجرة الواقعة بين طبريا والناصرة،هاجر من هناك وهو في العاشرة مع والديه إلى جنوب لبنان وعاش في مخيم عين الحلوة، ومن ذلك الحين لم يعرف الاستقرار أبدا. عرف زنزانات الجيش اللبناني والعدو الصهيوني منذ صباه وملأ جدرانها رسوما. نشر أول رسومه في مجلة «الحرية» في 25 سبتمبر 1961م. ثم انتقل إلى الكويت ليعمل محررا ورساما ومخرجا صحفيا.
لم تهادن ريشته أحدا، فقد كان نقده لاذعا ولذلك قتلوه. قال ذات مرّة «لو قطعتم يدي سأرسم بأصابع قدمي...» لذا كان لابد له أن يموت...   فالجميع باع... و هادن... لكن ناجي بقي صامدا لا يبيع. عُرف القاتل، لكن الجهة التي كانت وراء صدور قرار اغتياله بقيت مجهولة. قد تكون إسرائيل التي سلبته أرضه وعرضه، وقد تكون الأنظمة العربية التي باعت القضية من زمان وقد يكون طرفا فلسطينيا قَبِلَ مفاوضة العدو فأبى «العلي» وأمطره رسوما لاذعة. وقد تكون مصالح الجميع تقاطعت لتصفية خصما عنيدا لا يعرف الاستسلام.
ناجي العلي فنان قتله «كاريكاتيره»...لم يقبل أن يكون شاهد زور، بل على العكس تماما كان الشاهد الذي يدلي بشهادته على الفور والناقد الذي يبدي رأيه بلا خوف وبلا تردد أو حساب وعقاب. كان أبا للفقراء وناطقا باسم الجموع العربية الفقيرة والمقموعة والمخدوعة بأنظمة لم تجلب لهم سوى التخلف والتشرذم والتسلط والتبعية والقمع بكل معانيه. لم يساوم في أرضه ووطنه وهو يعلم علم اليقين أن الطريق محفوفة بالمخاطر و.... بالموت.
كان يقول: «اللي بدو يكتب عن فلسطين، وإللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حاله ميت، أنا مش ممكن أتخلى عن مبادئي ولو على قطع رقبتي». ويقول: «يسألونني عن الخطوط الحمر وأنا أجيب: أنا أعرف خطاً أحمر واحداً، إنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف واستسلام لإسرائيل»..!
و صدق أحمد مطر وهو يرثيه قائلا:
ناجي العلي لقد نجوت بقدرة 
 من عارنا، وعلوت للعلياء
إصعد، فموطنك السماء، وخلّنا 
في الأرض إن الأرض للجبناء
في يوم الأربعاء 22 جويلية 1987 وأمام المنزل رقم واحد بشارع «ايفز» في لندن أطلق مجهول النار على ناجي العلي فأصابه إصابة مباشرة في وجهه، نقل على أثرها إلى المستشفى وبقي في حالة غيبوبة إلى أن وافته المنية يوم 29 أوت 1987.
 رحل الرسام وبقيت رسومه شوكة في حلق المهادنين والظالمين وبقي حنظلة واقفا شامخا، شاهدا على فترة تاريخية هامّة عاشتها الأمّة، عاقدا يديه إلى الخلف، مديرا ظهره إلى الجميع حتّى تعود فلسطين، كل فلسطين إلى أهلها...