الافتتاحية

بقلم
فيصل العش
افتتاحية العدد السابع

 بسم الله الذي خلق الإنسان ، علّمه البيان ،وأنزل القرآن... بلسان عربي مبين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين...

 

عندما اراد المستعمر الغاشم ضمان تبعيّة المستعمرات له وبقائها تحت سيطرته ، عمد إلى عناصر قوّة الشعوب المستعمرة ليدمرها واستفرد بأهمّ هذه العناصر وهي اللغة أو بالمصطلح القرآني ”اللسان“. وهو ما حاولت الاستعمرار الفرنسي  جاهدا تحقيقه في تونس كما في الجزائر.

إن من مؤشرات الكرامة والعزّة  والاستقلال وحماية الشخصية الوطنية ، اعتزاز الشعوب بما سماه عالم الاجتماع الدكتور محمود الذوادي ”الرموز الثقافية“ وأهم تلك الرموز وقوامها ”اللغة الوطنية“.

لقد استبشرت مثل كل التونسيين بنجاح الثورة التي كان من بين شعاراتها ”الحرية والكرامة الوطنية“ وبعد الانتخابات اعتبرت أن القوى التي التي أفرزتها صناديق الاقتراع ستعمل جاهدة على تحقيق هذا الشعار باعطاء اللغة العربية وبقية الرموز الثقافية العناية التي تستحق ، خاصّة أن تلك القوى تبنّت شعار الدفاع عن الهوية العربية الاسلامية واعتمادها منطلقا لبناء المجتمع الجديد. وعلى هذا الاساس كان الأمل معقودا على أن يصبح شعبنا مثل  كل الشعوب ذات السيادة، يعتز بلغته ويدافع عنها ويعرّف بنفسه وهويته من خلالها . لكن يبدو أن الامور إلى حدّ الآن تسير عكس ذلك  وتكشف عن الفرق بين الشعارات المرفوعة والعمل الفعلي الميداني . فما يشد الانتباه أن رموز الحكم الجديد لم يختلفوا كثيرا عن عموم التونسيين في علاقتهم بلغتهم. فسلوكهم اللغوي لم يفصح عن غيرة عنها كرّس الاحساس بالدونية تجاه بقية اللغات  وبتبعية ثقافية مقيتة لا تنسجم مع روح الثورة والعمل على تحقيق أهدافها .

ولإن كانت الامثلة عديدة فإنني أتوقف عند إثنين منها يتعلق الأول برئيس جمهوريتنا والثاني برئيس حكومتنا لما لهذين الرمزين من أهميّة ودلالة.

ففي تاريخ 16 ماي 2012 ، حل الرئيس الإيطالي ضيفا مبجّلا على تونس وقد استقبله رئيس الجمهورية كأحسن ما يكون ، فمن شيمنا تكريم الضيوف، وهذا واجب . غير أن ما يهمنا في هذا السياق هو الخطاب الترحيبي لسيادة الرئيس الذي جاء باللغة الفرنسية وليس بالعربية لغتنا الوطنية . والعجيب أن حضر مترجم من الفرنسية إلى الإيطالية في حين تكلّم الرئيس الايطالي باللغة  الايطالية التي لا يتكلم غيرها في المناسبات الرسمية فهو رئيس ”شعب ذو سيادة“ يعتز بلغته ويعتبرها رمزا لسيادته .

أما المثال الثاني الذي كان الدافع المباشر للكتابة في هذا الموضوع فهو يتعلق بحوار رئيس الحكومة مع القناة الفرنسية ”tv5“ بتاريخ 26 جوان الجاري عندما أجاب على الأسئلة باللغة الفرنسية واضطرّ إلى مفردات عربية لم تخلو من تعاليق ساخرة في المواقع الاجتماعية. ولم أفهم دوافع رئيس الحكومة للتحدث باللسان الفرنسي وهو يعلم أنه يمثل دولة لغتها الرسمية هي العربية .

كل رؤساء الدول وممثلي حكوماتهم و حتّى المفكرين والمثقفين لا يتحدثون إلا بلغتهم الوطنية عندما يمثلون دولهم وشعوبهم بما في ذلك الخطابات بمؤسسات الامم المتحدة ما عدى نحن العرب إلا في ما ندر نجنح إلى التحدث بلغات أجنبية. فمتى سيستفيق أصحاب القرار في بلادنا ويعدّلون من سلوكاتهم اللغوية؟ وأي إصلاح ننتظر إذا كانت نخبتنا وخيرة مناضلينا يشعرون بدونية تجاه لغتهم ولا يشعرون بغيرة عليها ويبجلون لغة المستعمر عن لغتهم الام ؟ 

 قد يرى البعض مبالغة أو قساوة في ما أثرته ، ويذكرونني بأن ”الجماعة“ من خيرة المناضلين الذين ضحّوا من أجل حرية هذا الشعب مية لتونس ، ولهؤلاء أقول ما قاله المفكر السوداني ”أبوالقاسم الحاج حمد“ صاحب كتاب العالمية الاسلامية الثانية ردّا على من لاموه على نقده للأخوان المسلمين فقال : ” أنا صادق وهم صادقون ، ولكنني على حق وهم مخطؤون ، والله يجزي الصادقين“ .

أرجو أن تسهم هذه الاشارة في مراجعة القائمين على شؤون بلادنا في هذه المرحلة لتعاملهم مع لغتنا الوطنية ليعدّلوا  بوصلتهم على اهداف ثورتنا ويستكملون مهامها بـ ”ثورة ثقافية“ تعيد للرموز الوطنية هيبتها وتعطيها مكانتها التي تستحق فلا يمكن أن نحرر أنفسنا ونحقق أهدافنا إلا من خلال تغيير جذري في سلوكاتنا الثقافية خاصّة تجاه لغتنا العربية  حتّى نحقق معنى ما تمّ الإجماع عليه إبان الاستقلال وبعد الثورة وما تمّ تأكيده في الفصل الاول من الدستور على أن تونس دولة لغتها العربية ودينها الاسلام.