تناظر

بقلم
أ.د. ناصر أحمد سنه
الأمراض: علماً، وشعراً (4-4)
 الأورام (Cancers)
   الأورام مشاكل جراحيّة متنوّعة يحدث فيها تكاثر وانقسام غير طبيعي لخلايا متموضعة في مكانها (أورام حميدة). وقد تغزو وتنتشر وتدمر أنسجة/ أعضاء أخرى (أورام خبيثة). وأحياناً، قد يتطوّر الورم «الحميد» إلى «خبيث». ويحفل الشّعر الحديث (شعر التّفعيلة) بتجربة الشّاعر المصري «أمل دنقل» (1940-1983)، الذي نظّم أربع قصائد وهو على فراش الموت يعاني السّرطان لنحو أربع سنوات. وتتضح شاعريّته في ديوانه السّادس والأخير «أوراق الغرفة 8». وهو رقم غرفته (آخر غرف مرضه) في المعهد القومي للأورام بالقاهرة. وظلّ «أمل» متشبّثاً بوهجه المشرق وهو على أعتاب الموت. فكتب على علب الثّقاب، وهوامش الجرائد الخ. وكأنّ صراعاً دائراً بين موت يتسلّح بالمرض، وبين شاعر يتسلّح بالشّعر في تجربة إنسانيّة فريدة. ويضمّ «أوراق الغرفة 8» الذي نشرته زوجته الكاتبة «عبلة الرّويني»، بعد أربعين يوماً من وفاته، قصائده الأخيرة، وشملت: «زهور» (مايو 1982م)، و«ضدّ من» (مايو 1982م)، و«لعبة النّهاية» (يونيو 1982م)، و«السّرير» (نوفمبر 1982م)، وأخيراً «الجنوبي» (فبراير 1983م). فهذا المريض المتكوّم فوق السّرير، تستلفته، زهور حملها إليه الزّائرون، إنّها تتحدّث إليه؛ وتتمنّى له طول العمر، وهي تجود بأنفاسها الأخيرة، إنّه يشعر بها، ثمّة تشابه بينهما:
«فكلُّ باقهْ.. بينَ إغمــاءةٍ وإفاقــهْ
تتنفسُ مِثلِىَ - بالكادِ - ثانيةً.. ثانيهْ
وعلى صدرِهـــا حمَلتْ - راضيـــهْ
اسمَ قاتِلها في بطـــــــاقهْ!»
وها هو سرير المرض، وعليه بطاقة بياناته صار رقماً بلا اسمٍ. سرير أوهموه أنّه طريق نجاته فتوحّد معه: «صرت أنا والسّرير.. جسداً واحداً.. في انتظار المصير».
وفي قصيدة (ضد مَن) يتناول «أمل» الألوان:
في غرف العمليّات كان نقاب الأطبّاء أبيض.
لونُ المعاطف أبيض، تاج الحكيمات أبيض، أردية الرّاهبات،
الملاءات، لون الأسرة، أربطة الشّاش والقطن،
قرص المنوّم، أنبوبة المصل، كوب اللّبن، كلّ هذا يشيع بقلبي الوهن.
كل هذا البياض يذكّرني بالكفن!، فلماذا إذا متّ.. يأتي المعزّون متّشحين بشارات لون الحداد؟
هل لأنّ السّواد..هو لون النّجاة من الموت ِ، لون التّميمة ضدّ..الزّمن.
  ولمّا أصيب الشّاعر «غازي القصيبي» بسرطان المعدة قال:
أغالب‭ ‬اللّيل‭ ‬الحزين‭ ‬الطّويـل ** ‬أغالب‭ ‬الدّاء‭ ‬المقيم‭ ‬الوبيـــل‭ ‬
أغالب‭ ‬الآلام‭ ‬مهمـا‭ ‬طغــت ** بحسبي‭ ‬اللّه‭ ‬ونعم‭ ‬الوكيــل‭
الجروح:
جروح الجلد: أمّا مغلقة (يبقى سُمكه سليماً) ويسبّبها احتكاك أو اصطدام بجسم غير حادّ يؤدّي لسحجات، وكدمات، وأنزفة قد تصل لتكيس دموي تحت الجلد، الخ... أمّا الجروح المفتوحة فغالباً ما ترتبط ـ شكلا وخطورةـ بمسبّبها، ومنها: الجروح القطعيّة (أكثرها نزفا خارجيّا)، والوخذيّة، والنّافذة، والثّاقبة، والتّهتكيّة، والنّزعيّة، والتّقرحيّة، والتّسمّميّة، الخ... ويحدث التئام الجروح الأوّلي، والثّانوي/ المتأخر تبعاً للتّدخل العلاجي. ويجب تنظيف الجروح وتطهيرها تطهيراً جيّداً، فإنّ في بقاء القيح هلاك للنّفس، يقول «البحتري»(821 - 898 م):
إذا ما الجرح رُمَّ على فسادٍ ** تبيّن فيه إهمالُ الطّبيبِ !
 ويقول «المتنبّي»:
فَإِنَّ الجُرحَ يَنفِرُ بَعدَ حينٍ ** إِذا كانَ البِناءُ عَلى فَسادِ
الأمراض‭ ‬النّفسيّة‭ ‬‮«الهمّ، والأرق، و‬الاكتئاب‮»‬‭ ‬
يشير المرض النّفسي، الذي يُطلَق عليه أيضًا اضطرابات الصّحّة العقليّة، إلى مجموعة كبيرة من أمراض الصّحّة النّفسيّة. وهي اضطرابات تؤثّر على المزاج والتّفكير والسّلوك، منها: الاكتئاب، واضطرابات القلق، والفصام، واضطراب الشّهيّة والسّلوكيّات التي تسبِّب الإدمان. ومع أنّ هذه الأمراض حديثة نسبيّا، إلاّ أنّ الشّاعر العربي القديم كان أسبق في تشخيصها والحديث عنها. 
والهمّ‭ ‬يخترم‭ ‬الجسيم‭ ‬نحافة  ** ويشيب‭ ‬ناصية‭ ‬الصّبيُ‭ ‬ويهرم‭.‬
وقال آخر:
أناخ عليّ الهمّ من كلّ جـانــب  ** بياض عذاري في سواد المطالـب 
وما راعني شيب الذّوائب بعـده  ** وعندي هموم قبل خلق الذّوائب
ولكنّه وافي وما أطلق الصّبــــا ** عناني ولا قضى الشّباب مآربي
ورغم أنّ «الأرق» وفقدان القدرة على النّوم الطّبيعي مصطلح طبّي حديث نسبيا، إلاّ أنّ الشّاعر العربي«المتنبي» قد تطرّق إليه بقوله:
أَرَقٌ عَلــى أَرَقٍ وَمِثلـِيَ يَـــأرَقُ  ** وَجَوىً يَزيــدُ وَعَبرَةٌ تَتَرَقـــرَقُ
جُهدُ الصَبابَةِ أَن تَكونَ كَمـا أَرى  ** عَينٌ مُسَهّـَدَةٌ وَقَلــبٌ يَخفِـــقُ
ما لاحَ بَـرقٌ أَو تَرَنَّــمَ طائـــِرٌ   ** إِلّا اِنثَنَيـتُ وَلي فُـــؤادٌ شَيِّـــقُ
أدواء لا يعلم سببها
    عديدة هي الأدواء التي لم يعرف الطّبّ سببها المُحدّد، ومن ثمّ يتفاوت وصف العلاج لها. وللشّعراء حساسيّة مفرطة تنطوي عليها أرواحهم، وتوهّجهم الدّاخلي يجعل خيالهم يستجيب لما يناوش الجسد أو يعتري أولادهم وأقرباءهم. فهذه الشّاعرة «عائشة التّيمورية» (1840-1903م) تنسج قصيدةً في بنتها  «توحيدة» التي بلغت ثماني عشرة سنة فتزوّجتْ. فما مرَّ على عرسها شهرٌ حتّى أصابها مرضٌ «مفاجئٌ» فماتت. فوصفُت لسان حال ابنْتها :
لما رأتْ يأسَ الطبيبِ وعجـْزه  ** قالت ودمـعُ المقلتين غـزيــرُ
أمّاهُ قد كلَّ الطبيبُ وفاتنـي   ** مما أؤمّـِل في الحيـاة نــصيرُ
أماهُ قد عزَّ اللقـاءُ وفي غـــدٍ  **  سترينَ نعشي كالعروس يسيرُ
  وأشركنا «مطران خليل مطران» (1872-1949) معه في معاناته من داء (غريب) ألمَّ به، فطفق في غربة علّها تكون دواءه. ففي عام 1902 أُصيب بمرض انتقل بسببه إلى الإسكندريّة للاستشفاء، يقول في قصيدته «المساء»:
إِنِّي أَقَمْــتُ عَلَى التَّعِلَّــةِ بالمُنَــى ** في غُرْبَةٍ قَالُوا: تَكُــــونُ دَوَائــي
إِنْ يَشْفِ هَذَا الجسْمَ طِيبُ هَوَائِهَا ** أَيُلَطِّــفُ النِّيرَانَ طِيـبُ هــَـوَاءِ؟
أَوْ يُمْسِكِ الحَوْبَاءَ حُسْنُ مُقَامِهَـا ** هَلْ مَسْكَةٌ في البُعْدِ لِلْحَوْبـَـــاءِ؟
عَــبَثٌ طَوَافِي في البـلاَدِ، وَعِلَّـــةٌ ** في عِــــــلَّةٍ مَنْفَايَ لاسْتِشْفـَاءِ
   وكانت السّنوات الثّلاث الأخيرة من حياة الشّاعر «بدر شاكر السّياب» (1926-1964) عصيبة وتعيسة. إذ كانت أعراض الشّلل وضمور الجسم والأقدام بادية عليه، وبعد عدّة فحوصات في بيروت ولندن وباريس أثبتت أنّ لدى الشّاعر العراقي مرض (لو جرنج). وسمّي المرض باسم نجم كرة (البيس بول) الذي مات بنفس الأعراض. مرض «نادر» لا تعرف أسبابه المحدّدة ولا طرق علاجه النّاجعة. تتحلّل خلايا الدّماغ المسؤولة عن حركة العضلات، فيحدث بها ضعف وضمور وشلل في الأطراف. وخلال ثلاث أو خمس سنوات تحدث صعوبة في النّطق وبلع الطّعام والتّنفّس وإلتهابات رئويّة. أمّا التّفكير والسّمع والبصر فيبقي على حاله. ولم تنجح محاولات علاج «السّياب»، وزامن وضعه الصّحي السّيئ مشاكل مادّية، وتفكيره بزوجته وأبنائه الثّلاثة (غيداء، وغيلان، وآلاء). ولمّا غادر مشفى الجامعة الأميريكيّة ببيروت عام 1962، وجه نداءه إلى زوجته «اقبال»:
«اقبال» يا زوجتي الحبيبهْ، لا تعذليني، ما المنايا بيدي
ولست، لو نجوت، بالمخلّد، كوني لغيلان رضى وطيبهْ..
كوني له أباً وأمّاً وارحمي نحيبهْ.
ومن فقرات قصيدته «سفر أيّوب» يقول «السّياب»:
لكَ الحَمدُ مهما استطالَ البلاء، ومهما استبـدٌ الألـــــم
لكَ الحمدُ إنّ الرّزايا عطاء، وإنّ المَصيبات بعض الكـَــرَم
***
شهور طوال وهذى الجـِـــراح، تمزّق جنبى مثل المـــدى
ولا يهدأ الدّاء عند الصّباح، ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالرّدى.
ولكنّ أيّوب إن صاح صــــــاح، لك الحمد، إنّ الرّزايا ندى
***
وإن صاح «أيوب» كان النّداء،  لك الحمد يا رامياً بالقدر، ويا كاتبا بعد ذاكَ الشّفاء.
وسافر إلى الكويت للمرّة الثّانية في تمّوز عام 1964. وبقي في المشفى حتّى وفاته عن 38 عاما.  وفي قصيدته «غريب على الخليج» صوّر معاناته الحقيقيّة مع المرض. ويرجّح أنّها آخر ما نظمه، فكشفت عن رؤية تمور بشوق عارم لوطنه العراق وخشيته الموت مغترباً عنه، يقول في مقطع منها:
«مازلت أحسب يانقود، أعدكن وأستزيد
مازلت أنقص، يانقود، بكن من مدد اغترابي
مازلت أوقد بالتماعتكن نافذتي وبابي
في الضّفة الأخرى هناك فحدثيني يانقود
متى أعود، متى أعود، واحسرتاه… فلن أعود إلى العراق».
الألزهايمر
   «الألزهايمر» (Alzheimer›s): «مرض مستعص وانحلالى ناتج عن تلف، أو موت تدريجي لخلايا الدماغ (النيرون)»، ومُسبب رئيس «للخرف الشّيخوخى». وسُمّي المرض نسبة للطّبيب النّفسى والعصبى الألمانى «ألويس ألزهايمر»  «Alois Alzheimer» ـ( -1864 1915م) الذي وصفه وشخّصه عام 1906م. لم يتم التّوصّل حتّى الآن لمعرفة الأسباب الحقيقيّة وراء حدوثه. لكن بالكشف على أدمغة المرضى وجد ترسّب/ تجمّد/ تخثّر نوع من البروتين يدعى «بيتا أملويد». ويكون على شكل صفائح تتجمّع في الفراغات الموجودة بين النّيرونات، وبشكل غير منتظم داخل خلايا الدّماغ مسبّبة خللاً أو انهياراً في نظام «النّقل العصبي» ممّا يؤدّي إلى موت الخلايا العصبيّة، وفقدان النّسيج الدّماغي.  وبمرور الزّمن، ينكمش الدّماغ بصورة كبيرة، مؤثّراً، تقريباً، على كافة وظائفه. ممّا يعرض المريض لفقدان (متدرّج) للذّاكرة والإحساس بالمكان والزّمان. ثمّ عدم التّحكّم في مجريات حياته اليوميّة العادية، ويصبح بحاجة إلى رعاية شاملة. يقول الشّاعر «صالح الكواز الحلّي»:
قلبى‭ ‬خزانة‭ ‬كل‭ ‬علـم‭ ‬ ** كان‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الشبــاب
وأتى‭ ‬المشيبُ‭ ‬فكــدتُ‭ **  ‬أنسى‭ ‬فيه‭ ‬فاتحة‭ ‬الكتابِ‭.‬
   وسيطول بنا المُقام لو أردنا حصر كلّ الأمراض وكلّ الأشعار التي جاءت في وصفها وتشخيصها وعلاجاتها. ولعلّ في ما ذكرناه من نماذج يفي بالغرض، ويبقي أنّ ألم الأمراض بما يفعله بالجسد والرّوح من أفاعيل يؤدّي إلى صقل نفسيّة الموهوب، فيحاول قهر الألم وتفجير الأوجاع بالتّحليق في سماوات الإبداع الرّحبة، وتوظيف قدراته الخاصّة بطريقة فنّية تستوعب الحزن وتجسّد المعاناة. فينزف القلم المحروم، ويبحث القلب المكلوم عن الملاذ الشّعري الآمن حتّى يفرغ ما يدور بذاته من هموم وعذابات. متّع اللّه الجميع بالصّحة والعافية ودوام العطاء.