تأملات

بقلم
أشرف شعبان أبو أحمد
سَكَتَ الكلام
 سأل سائل: «أين علماء المسلمين ممّا يحدث في غزّة وأهلها منذ عامين؟»، فجاءت الإجابة على لسان أحدهم: «إنهم دعوا دولا عربيّة لكي تتّخذ مواقف غير تلك المواقف التي هي عليها الآن». وأكمل حديثه بالقول: «إن العلماء لا يملكون إلاّ الدّعوة والتّوجيه والحشد والضّغط الأدبي والمعنوي على الحكّام والشّعوب». ثم ختم قائلا: «لا الحكّام استجابوا ولا الشّعوب استجابت».
حينئذ وردت في ذهني قصّة رسول اللّه ﷺَ مع أصحابه في صلح الحديبيّة، فعندما خرج رسول اللّه ﷺَ، في شهر ذي القعدة من السّنة السّادسة للهجرة، لأداء العمرة، خرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة، ليعلم النّاس أنّه خرج زائرا للبيت الحرام ومعظّما له، لا يريد حربا. وعندما سمعت قريش بمسيرته عزمت على منعه من دخول مكّة، ثمّ  حدث اتفاق سلام بين النّبي ﷺَ وقريش سمّي بصلح الحديبية، بموجبه  يرجع رسول اللّه ﷺَ ومن معه عامهم ذاك عن دخول مكّة على أن يعودوا إليها العام المقبل، وبالتّالي ألغيت العمرة ممّا أوجب التحلّل من الإحرام، بإهراق دم (هديٌ)، ثمّ الحلق أو التّقصير. فنادى رسول اللّه ﷺَ  في أصحابه: «قوموا فانحروا ثمّ احلقوا». فما قام منهم رجل، حتّى قال ذلك ثلاث مرّات، ولم يستجب له أحد. 
رسول اللّه ﷺَ يأمر، فلا يُطاع، وممّن؟ من الصّحابة الذين بايعوه على السّمع والطّاعة. فعن أبي الوليد عبادة بن الصّامت، قال: «بَايَعْنَا رَسولَ اللهِ ﷺَ علَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ في العُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرهِ، وعلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وعلَى أَنْ لا نُنَازِعَ الأمْرَ أَهْلَهُ، وعلَى أَنْ نَقُولَ بالحَقِّ أَيْنَما كُنَّا، لا نَخَافُ في اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ»(1).
في مثل هذا الموقف لا جدوى للكلام ولا للأحاديث والمواعظ والتّذكير بالبطولات والمواقف، فكان لابدّ من من منهج أخر أكثر إيجابيّة وفعاليّة تحتاجه المرحلة، وهو العمل بلا كلام. وهو ما أشارت عليه زوجته أم سلمة بعد أن دخل عليها، وَذَكَرَ لَهَا ما لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، بقولها : «يا نَبِيَّ اللَّهِ،اخْرُجْ ثُمَّ لا تُكَلِّمْ أحَدًا منهمْ كَلِمَةً، حتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ»، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أحَدًا منهمْ حتَّى فَعَلَ ذلكَ؛ نَحَرَ بُدْنَهُ، ودَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذلكَ قَامُوا، فَنَحَرُوا، وجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا»(2)
فماذا بعد ما رأى هؤلاء الأفاضل من العلماء، عدم استجابة النّاس لهم، هل تأسّوا برسول اللّه ﷺَ وبدؤوا بأنفسهم، فتجمّعوا في أيّ بقعة من بقاع العالم الإسلامي، وانطلقوا في مسيرة إلى غزّة، لمناصرة  أهلها ومساندتهم وإمدادهم بما يحتاجونه من أغذية وأدوية وأغطية وخلافه من مستلزمات حياتهم المعيشية؟. ألن يكون للإعلان عن هذه الخطوة خاصّة إذا ترأسها فضيلة الأمام الأكبر شيخ الأزهر وأئمّة الحرمين الشّريفين ومفتي الدّيار الإسلاميّة وقادة الدّول والمنظّمات المناصرين لغزّة وأهلها وعمداء الجماعات والهيئات الدّينيّة، ألن يكون لها أثر واسع في جذب غيرهم من أبناء سائر الملل والنّحل ومن كافة المؤيّدين لغزّة وأهلها؟، ألن يكون لهذا التّحرّك أثر أكبر على سائر المسلمين في كافّة أنحاء العالم من أثر سائر الخطب والمناشدات أو المطبوعات والمنشورات. 
لماذا لا يقوم علماؤنا الأفاضل بما قام به غيرهم على غرار ما حدث خلال العقدين الأخيرين من هذا القرن، ويحدث اليوم من قوافل بحريّة وبريّة لكسر الحصار على غزّة شاركت فيها شخصيّات مؤثّرة من عدّة دول مختلفة(3)، بالرغم من الاعتداءات المتكرّرة عليها من طرف جيش الكيان الصّهيوني لمنعها من الاقتراب من سواحل غزّة وحدودها. 
ليس هناك أي مانع لعلماء المسلمين أن يكون لهم دور في أيّ حراك أو عمل يبتغي وجه اللّه ونصرة الإسلام والمسلمين بصفة خاصّة، وإرساء الحقّ وإنصاف المظلوم بصفة عامّة، وإن لم يكن فمن ذا الذي سيأخذ بيد النّاس ليخرجهم من سلبياتهم وتقاعسهم ولهثهم وراء لقمة العيش ليضعهم على طريق التّعاضد والتّآلف والإيثار والاصطفاف مع أخوة لهم في غزّة. أليس من واجب علماء المسلمين الجهاد بالمال والنّفس كسائر المسلمين؟، خاصّة وأنّ تاريخ الإسلام والمسلمين مليء بعلماء دين مجاهدين، كشيخ الإسلام ابن تيمية الذي جمع بين السّيف والقلم، والإمام الجليل عبد اللّه بن المبارك الذي كان يحجّ سنة ويجاهد سنة، والعزّ بن عبد السّلام الملقب بسلطان العلماء وبائع الملوك وشيخ الإسلام، ودوره  في عين جالوت معروف للقاصي والدّاني.
وماذا لو طلب من علمائنا الأفاضل تقدّم صفوف مسيرة أو قافلة أو المشاركة في أسطول إلى غزّة ينظّمها العامّة أو بعض الهيئات والمنظمات؟ هل سيؤثرون السّلامة والبقاء على ما هم عليه، ويتّخذون من الحجج والذّرائع ما يمنعهم عن ذلك؟ هل يمكن تحت الإلحاح وتزايد مشاعر الغضب لدى عامة المسلمين أن يستجيبوا لهم؟.
أيخشون أن يصيبهم مكروه فيفقد الإسلام صفوة علمائه؟ هل هم خير من العدد الكبير من الصّحابة الكرام الذين سقطوا شهداء في فجر الإسلام وهم يجاهدون في سبيل الله وقد كانوا من الصّفوة (حفّاظ كتاب الله) (4)؟ هل قرأنا أنّ رسول اللّه ﷺَ قد أمر العلماء منهم بعدم المشاركة في الجهاد خوفا أن يفقد الإسلام صفوته؟ 
أليس من واجب عامّة المسلمين الاقتداء بعلمائهم؟ وكيف يقتدون بهم وهم يرون بعضا منهم عبر أجهزة الإعلام والاتصال، لا يفعلون شيئا غير الكلام؟. إلاّ أن يتكلمون مثلهم، ولن يصدر عنهم غير الكلام، وتصير مكلمة هم يتكلمون والعامة يتكلمون، ولا أحد يستمع لأحد ولا أحد ينصت لأحد، ولا أحد من هؤلاء ولا من هؤلاء يفعل شيئا. 
ومن الملاحظ أيضا أن بعضا من علماء الدّين والمجتهدين والدّعاة والأئمة ورجال الفكر والمثقّفين يتدارسون ويتباحثون ويتناقشون ويتحاورون سواء في لقاءات عامّة أو مؤتمرات أو محاضرات أو برامج إعلاميّة أو ندوات تلفزيونيّة، ويشعلون الفضاء ويشغلونه بأمور منها، ما هو شديد التّخصّص لأهل العلم، ومنها الغثّ الذي لا يفيد العامّة في أمور حياتهم، ومنها ما لا يمتّ بواقع المسلمين من قريب أو بعيد إلاّ فيما ندر، وكأنّهم في بروج عاجية عالية لا يشعرون بما يلمّ بالمسلمين وما يحدث لهم. 
ذكّرني هؤلاء بفترة من التّاريخ الإسلامي عندما وصل بعض فقهاء الإسلام إلى مرحلة متقدّمة في الفتاوى، ولم يكن للنّاس حاجة إلاّ وقد أفتوا فيها، بعد أن أغرقوها بحثا، وقد سدّوا وسدّدوا جلّ المسائل التي تعرض عليهم، فلجؤوا إلى مسائل بعيدة عن الواقع يستحيل حدوثها ليفتوا فيها، مسائل كتلك التي نسمّيها في عصرنا بالخيال العلمي ولكنّها كانت خيالا ذهنيّا، ولذا سمّي هؤلاء بالآرائيّين. 
كيف يستجيب الشّعب لهولاء الفئة من العلماء الذين يتلذّذون بكلّ ما لذّ وطاب، وينعمون بكلّ وسائل رفاهيّة الحياة بينما تعاني الشّعوب الأمرّين؟ وكيف يستجيب الشّعب للعلماء وأغلبهم يسير في ركب الحكومات المؤيّدة للاحتلال الإسرائيلي يبرّرون أفعاله ويمجّدون كلّ ما يصدر عنه ويشرّعونه؟.
ولمن يزعمون بأن لا طاقة لنا بمواجهة العدوّ الإسرائيلي، تحضرنا واقعة من نصحوا المعتصم باللّه الخليفة العباسي بألاّ يسارع إلى فتح عموريّة، حتّى لا يمنى بهزيمة. ووقعت معركة عموريّة بين الخلافة العباسيّة والإمبراطورية البيزنطية في رمضان من عام 223 هـ الموافق لآب من عام 838 م، وانتصر فيها العرب المسلمون نصرا مؤزّرا، وفتحت عموريّة، فأنشد أبو تمام قصيدته التي مطلعها:             
«السّيف أصدق إنباء من الكتب *** في حده الحدّ بين الجدّ واللّعب»
أخيرا أذكّر نفسي وإخواني في الدّين أنّ القرآن الكريم ينبّهنا إلى خطورة الكلام الطّيب غير المصحوب بالأفعال الصّالحة، فيقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾(الصف: 2-3). هذه الآية تعكس أهمّية مطابقة الأقوال بالأفعال، وتؤكّد أنّ الوعد بدون تنفيذ هو أمر غير محمود عند اللّه. وفي آية أخرى قال تعالى: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾(البقرة: 44). وهذه الآية وإن كانت نزلت في بني إسرائيل لكنّها عامّة لكلّ أحد، أتطلبون من النّاس فعل كذا وكذا وتنسون أنفسكم؟ أتأمرون النّاس بالخروج لمناصرة إخوانهم في غزّة وتتركون أنفسكم فلا تأمرونها بمثل ما تأمرون غيركم؟. وقال تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾(التوبة: 105). هذه الآية توضّح أنّ الأفعال هي التي يراها النّاس، وعليها يبنون تقييمهم على من يقوّم بها وهي الدّليل الحقيقي على صدق الأقاويل. والقول وحده لا يكفي، بل يجب أن يكون مدعوماً بالفعل، كما جاء في قوله تعالى: ﴿ ..فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ..﴾(الكهف: 110)، وقوله تعالى: ﴿ ...فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(آل عمران: 159). وهذه دعوة واضحة إلى ضرورة القيام بالأفعال بعد اتخاذ القرار. وقال تعالى: ﴿.. إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ..﴾(الرعد: 11). هذه الآية تؤكّد أنّ العمل والتّغيير الذّاتي هو السّبيل إلى تحسين أوضاع المجتمعات والدّول.
الهوامش
(1) أخرجه مسلم  في صحيحه، 1709، وأخرجه البخاري (7199، 7200) باختلاف يسير
(2) صحيح البخاري 2731
(3) من بينها اسطول الحريّة سنة 2010 الذي قادته حركة غزّة الحرّة بالشراكة مع منظمات تركيّة وأوروبيّة، تألف من عدّة سفن في مقدمتها سفينة «مرمرة» وقد اعتدى عليه الكيان الصهيوني  مما تسبب في استشهاد عشرة ناشطين أتراك وجرح العشرات، ثمّ أسطول الحرّية 2 (2011) الذي ضمّ سفنا أوروبيّة على متنها ناشطون دوليّون، ثمّ أسطول الحرّية لسنة 2015 الذي تألّف من عدّة سفن من بينها سفينة «ماريان»، وأسطول «نساء لكسر الحصار على غزّة» المتكوّن من سفينتين كان على متنها ناشطات غربيّات وعربيّات، وأسطول الحرّية لسنة 2018 الذي ضمّ أيضا سفنا أوروبيّة على متنها ناشطون دوليّون، ثمّ محاولة سفينة «مادلين» (جوان 2025) التي انطلقت من ميناء كاتانيا الإيطالي وعلى متنها 12 ناشطا من جنسيات متعدّدة، وأخيرا وليس آخرا «أسطول الصمود العالمي» الذي انطلق في سبتمبر 2025، من عدّة مواني في أوروبا وشمال إفريقيا وآسيا ويوصف بأنه الأوسع منذ بدء محاولة كسر الحصار على غزّة الذي بدأ سنة 2007.
ولا ننسى أيضا قافلة «الصمود الإنسانيّة» البرّية التي نظّمتها تنسيقيّة العمل المشترك من أجل فلسطين انطلاقا من تونس (جوان2025)
(4) حرص الرّسول ﷺَ في صدر الإسلام الأوّل على تربية جيل من الصّحابة من حفّاظ القرآن الكريم والعاملين بأحكامه والمهتدين بسنته ﷺَ، ورغم قلّة أعداد المسلمين وقتذاك قتل منهم سبعون صحابيّا في غزوة أحد، ولم يمض على هذه المعركة شهران حتى تهيّأت بنو أسد للإغارة على المدينة، ثمّ قامت قبائل عضل وقارة بمكيدة تسبّبت في قتل عشرة من الصّحابة، وفي الشّهر نفسه قام عامر بن الطّفيل بتحريض بعض القبائل حتّى قتلوا سبعين من الصّحابة، من خيار المسلمين وفضلائهم يقال لهم: القرّاء، وتعرف هذه الحادثة بحادثة بئر معونة .ومع ذلك لم يقف الإسلام عند هؤلاء بل استمر في إنتاج رجال حملوا الدّعوة إلى كلّ أرجاء المعمورة.