تاريخنا

بقلم
عمر الموريف
تاريخ المعرفة الفلكيّة في الحضارة الإسلاميّة
 تمهيد:
لقد مرّت الحياة البشريّة بمراحل مختلفة ومتتالية منذ القدم إلى اليوم، وتعتبر هذه المسيرة مترابطة من حيث سلسلتها الزّمانيّة والمكانيّة، ممّا جعل من التّطوّر الحاصل في العصر الحديث مبنيًّا على أدوار أمم مختلفة وثقافاتها وإسهاماتها، وهو ما يسعفنا في القول بأنّ التّطوّر الحاصل اليوم هو مكسب إنساني مشترك. ولكون المجال العلمي بدوره قد عرف هذه الطّفرة النّوعيّة، ذلك أنّ العلم على حدّ تعبير الفيلسوف «غاستون باشلار» ما هو إلّا «تاريخ تصحيح أخطاء العلم» ، فإنّ الوقوف على المستوى الذي هو عليه اليوم لا يمكن فصله عن المراحل التي مرّ بها على مدى العصور. والباحث في هذه النّقطة بالذّات سيقف لا محالة أمام الدّور الهام والأساسي الذي قامت به الحضارة العربيّة والإسلاميّة، وإن تمّ اعتبار أنّ دور هذه الحضارة يتمّ إهداره في الآونة الأخيرة، إلاّ أنّ التّاريخ يحفظ لنا أنّها احتلّت قصب السّبق منذ العصور الوسطى. لقد انفتحت على كلّ الحضارات السّابقة، وشكّلت أمّة تضمّ قوميّات ومللاً شتّى ساهموا جميعا في إنجازاتها الهامّة، فكان العرب -كما يقول مؤرّخ العلم كروثر- المؤسّسين لمفهوم عالميّة المعرفة، وهي إحدى السّمات البالغة لأهمّية العلم الحديث .
وهنا تبرز الإشكاليّة الرّئيسيّة لهذا المقال: ما مدى عمق الإسهامات الحضاريّة للمسلمين في مجال علم الفلك وتأثيرها؟.
ويتفرّع عن هذه الإشكاليّة جملة من الأسئلة الفرعيّة:
* كيف تطوّر مفهوم علم الفلك (علم الهيئة) لدى المسلمين، وما هي المصادر المعرفيّة التي اعتمدوا عليها في بناء هذا العلم وتطويره؟؛
* ما هي أبرز المقاصد الشّرعيّة التي حفّزت المسلمين على تطوير علوم الفلك، وكيف وظّفوا هذا العلم لخدمة متطلّبات عباداتهم ومعتقداتهم؟؛
* من هم أبرز روّاد علم الفلك في الحضارة الإسلاميّة، وما هي أهمّ إنجازاتهم التي تركت بصمة واضحة في هذا المجال؟.
يُعدّ «علم الفلك» أنموذجاً بارزاً لتلك الإسهامات، حيث حظي ببصمة إسلاميّة متميّزة. ولم يكن هذا الاهتمام مجرّد شغف معرفي، بل ارتبط بمكانة خاصّة في الشّريعة الإسلاميّة لارتباطه الوثيق ببعض العبادات الأساسيّة بالدّرجة الأولى. وللوقوف على بعض ملامح تاريخ المعرفة الفلكيّة لدى المسلمين، سيتناول هذا المقال الإجابة على هذه التّساؤلات من خلال التّقسيم التّالي:
أوّلا: علم الفلك عند العرب والمسلمين: تعريفه، مصادره وتطوّره؛
ثانيا: مقاصد علم الفلك في الشّريعة الإسلاميّة وأشهر رواده.  
1. علم الفلك عند العرب والمسلمين: تعريفه، مصادره وتطوّره
سنتناول في هذه النّقطة تعريف علم الفلك عند العرب والمسلمين، ثمّ أهمّ المصادر والموروثات التي اعتمدوها وتأثّروا بها حين اشتغالهم بهذا العلم:
1.1. تعريف علم الفلك
يعتبر علم الفلك من العلوم القديمة التي اشتغل بها اليونان والبابليّون والهنود والمصريّون والصّينيّون، وقد دوّنت ملاحظاتهم الفلكيّة، كما ساعد اكتشاف الأرقام الحجريّة كثيرا على تطوّر علم الفلك الحديث نظرا لما دوّنه الأقدمون من رصد لحركات الأفلاك في الأزمنة القديمة وهو ما يحتاجه عالم الفلك باستمرار، غير أنّ المعارف الفلكيّة القديمة كانت دائما ترتبط بالسّحر والشّعوذة والتّنجيم.
فعلم الفلك إذا ليس علما حديثا، وإنّما هو نتيجة قرون طويلة من الدّراسات وعمليّات الرّصد والمراقبة والحسابات التي واكب تطوّرها الدّراسات الفلكيّة، وأدّى إلى الولوج في ما يسمّى بعصر غزو الفضاء . 
ويسمّى علم الفلك عند المسلمين بـ «علم الهيئة»، ومعناه دراسة أحوال الكواكب وحركتها وأبعادها وأحجامها. وكانت علوم الهيئة تدرس في المساجد في عصر المجد الإسلامي، وكثيرا ما كان علماء الشّريعة والمفسّرون ينبغون في علم الهيئة (الفلك) بدافع اشتغالهم بالنّظر في ملكوت السّماوات والأرض.
2.1. مصادر علم الفلك عند العرب والمسلمين وتطوّره
سبق وأن أشرنا إلى أنّ العلوم قد عرفت مسيرة تراكميّة أثّرت فيها الأمم وتأثّرت بها، لذا فليس بغريب أن نجد العرب والمسلمين يستندون عند تناولهم لعلوم الفلك إلى موروثات من سبقهم من أفكار في هذا المضمار.
فقد كان المسلمون في العصور الوسطى يعتبرون الفلك من العلوم الرّياضيّة. وكانت جهودهم في هذا الاتجاه تتكوّن أساسا من دراسة الحركة الظّاهريّة للأجرام السّماويّة وتسجيل ما يكتشفونه في تعبيرات رياضيّة، وكانت الظّواهر مثل ضوء النّجوم، والأجسام مثل الشّهب والمذنّبات تعتبر من عوالم الفيزياء والميتافيزيقا، تماما مثل الطّبيعة الأساسيّة للأغلفة السّماويّة. ويمكن اعتبار هذا التّقسيم إسلاميّا في أصله، ويعود ما ورثه المسلمون من المفاهيم الفلكيّة والمصطلحات والخبرة إلى علم الفلك عند الإغريق القدماء والبطالمة، كما جاءتهم بعض المعارف الفلكيّة من مصادر هنديّة وساسانيّة. وقد تضمّن هذا الميراث الغنيّ المعرفة التي تراكمت عبر آلاف السّنين من بابل ومصر القديمة، حيث كانت تجري مراقبة السّماء بشيء من التّفصيل، وتتمّ حسابات التقويم السّنوي على أساس ما يشاهدونه في السّماوات، وهي حسابات لا تختلف كثيرا في الغالب عن حسابات الأزمنة الحديثة .
ومن جانبه يرى «جان بيار فيردي» بأنّ هناك مراجع أساسيّة تثبت الأصل الهندي لعلم الفلك العربي منها الكتاب الذي ترجمه محمد ابن ابراهيم الفزّاري ويعقوب بن طارق والمسمى «زيج سندهند»، والذي يضم أيضا عناصر من علم الفلك الفارسي، كما كان لعلم الفلك البابلي أيضا أثر لدى العرب والمسلمين خصوصا في بعض المسائل المتعلّقة بشروق الشّمس وغروبها. 
يتضح لنا إذًا تأثُّرَ الفلكيّين المسلمين الأوائل بالمراجع الهنديّة والسّاسانيّة، وقد كوّن المنصور، وهو من أوائل خلفاء الدّولة العباسيّة وأعظمهم، في بغداد فريقا من العلماء من الفرس والهنود وعلماء آخرين، وبحلول القرن الثّامن كان العلم الإسلامي قد اتخذ طريقه عالميّا. 
كما قام ابن حنين بن اسحق (المترجم البارز في القرن الثّامن) بكتابة الماجستي بطليموس من وجهة نظره. وعمليّا تقبّل كلّ الفلكيين المسلمين تلك النّظريّات كنموذج رياضي محدّد للسّماوات حيث تدور الشّمس والكواكب حول الأرض الثّابتة في منظومة من الأفلاك الدّائريّة .
وقد تمكّن العرب والمسلمون بعد هذه التّراكمات المعرفيّة من تطوير علم الفلك، فقاموا بإجراء مشاهدات منظّمة وتفصيليّة للسّماوات، وإعداد جداول دقيقة للتّقاويم ومواقيت العبادة وخرائط البروج، كما تمّ تشييد مجموعة من المراصد في مراكز عدّة اجتذبت مشاهير المفكّرين والمعلّمين الذين كوّنوا طلابا كثيرين في العالم الإسلامي.
كما تمّ تطوير العديد من الآلات المستعملة في هذا العلم، وأشهرها «الأسطرلاب» وهو آلة فلكيّة قديمة وأطلق عليها العرب «ذات الصّفائح». وهو نموذج ثنائي البعد للقبّة السّماويّة، وهو يظهر كيف تبدو السّماء في مكان محدّد عند وقت محدّد. وقد رسمت السّماء على وجه الأسطرلاب بحيث يسهل إيجاد المواضع السّماويّة عليه. بعض الأسطرلابات صغيرة الحجم وسهلة الحمل، وبعضها ضخم يصل قطرها إلى عدة أمتار .
ثانيا: مقاصد علم الفلك في الشّريعة وأشهر رواده  
سنخصّص هذه النّقطة للحديث عن مقاصد علم الفلك في الشّريعة الإسلاميّة وكيف وظّف لخدمة العقيدة، ثمّ تحديد أهمّ روّاد هذا العلم:
1.2. مقاصد علم الفلك في الشّريعة الإسلاميّة
طوّر الفلكيّون المسلمون معارفهم الفلكيّة لتواجه المتطلّبات الأساسيّة للعبادة، وقد تطلّبت الممارسات الإسلاميّة الدّينيّة دائما تحديد الزّمان والمكان بدقّة سواء فيما يتعلّق بالصّلاة أو بتحديد بدايات الشّهور والأعياد بالنسبة للسّنة القمريّة الإسلاميّة .
وهكذا ساعد تطور علم الفلك لدى المسلمين ارتباطه بمقاصد شرعيّة عديدة منها :
أ‌- معرفة المواقيت:
وذلك ضروريّ لإقامة الصّلاة، وبدء الصّوم، وتحديد الفطر، ومواعيد الأعياد، وكلّها من المقاصد الشّرعيّة التي تلزم المسلمين لتصحيح عباداتهم. فقد جاء في الذّكر الحكيم قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ  فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾(الإسراء: 12).
ب‌- معرفة القبلة:
ويتطلّب ذلك معرفة فلكيّة حيث يختلف اتجاه المصلّي من أرض إلى أرض. ﴿..وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرهُ..﴾ (البقرة: 150).
ت‌- الاهتداء بالنّجوم في البرّ والبحر
وذلك لقول اللّه عزّ وجل: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾( الأنعام: 97). .
2.2. أهمّ رواد علم الفلك العرب والمسلمين
سنخصّص هذه النّقطة للإشارة إلى أهمّ روّاد علم الفلك من العرب والمسلمين وأشهرهم كما يلي:
أ‌- أبو الحسين الصّوفي الرّازي
 هو عبد الرّحمن بن عمر المتوفّى سنة 376 هجرية. من أشهر كتبه: « الكواكب الثّابتة» الذي قصد فيه إلى تحديد مواقع النّجوم في مختلف أيّام السّنة، ويعتبر كتابه من أدقّ ما وصل إلينا من الدّراسات الفلكيّة وأشهرها. وقد عرف الغرب قدر الصّوفي، فترجم كتابه واعتمده في البحث الفلكي، واليوم يُطلق اسمه على بعض المواضع على سطح القمر .
ب‌- البتاني الحراني
 هو البتاني محمد بن جابر بن سنان الحراني، توفي سنة 317 للهجرة، أشهر الفلكيّين في الحضارة الإسلاميّة، وتعتبر دراساته أعمدة رئيسيّة في علم الفلك الحديث حيث تُرجم كتابه الشّهير (زيج الصّابئ) إلى اللاّتينية، وتمّت طباعته في وقت مبكّر سنة 1537 ميلادية. كما تُرجم إلى الاسبانيّة في نفس الوقت تقريبا، واعتمده الملاّحون الإسبان والبرتغاليّون في كشوفهم الملاحيّة .
ت‌- ابن الشّاطر الدمشقي:
هو الشّيخ علاء الدّين أبو الحسن علي بن ابراهيم بن عبد الرحمن ثابت الأنصاري، المولود في 15 شعبان 705 للهجرة (مارس 1306 للميلاد)، بدمشق، وتوفّي عام 777 هجريّة. تعلّم الفلك والهندسة والنّجوم في وقت مبكّر من عمره. وله دور في علم الفلك حيث أتقن فنونه، ووضع الآلات الفلكيّة وابتكر كثيرا منها، كما وقف على كتب ممن سبقوه من أعيان هذا الفنّ مثل المجريطي والوليد والمغربي وغيرهم، وقد كتب العديد من المؤلّفات منها : «تعليق الأرصاد» و«نهاية السّؤال في تصحيح الأصول»؛
كما أُنجزت حوله العديد من الدراسات الحديثة منها :
* دراسة صلاح الدين الخالدي: «ابن الشّاطر الرّياضي الفلكي»
* دراسة العزوى: «تاريخ الفلك في العراق»؛
* محمد عيسى صالحيّة: «الفيزياء والحيل عند العرب».
خاتمة:
لقد حفظ لنا التّاريخ الدّور العظيم الذي قام به المسلمون في إثراء العلوم وتطويرها. فمنذ وقت مبكّر، ساهموا بفاعليّة في شتّى المجالات العلميّة، سواء الطّبيعيّة منها أو الإنسانيّة، تاركين بصمات خالدة في الطّب، والهندسة، والرّياضيّات، والفلسفة، وغيرها من الفروع المعرفيّة المتنوّعة. وقد حاولنا من خلال هذا المقال، وفي نموذجنا الذي خصّصناه لعلم الفلك، إبراز جانب من هذا الدّور وهذه الإسهامات الجليلة التي اضطلع بها المسلمون في هذا العلم. فلقد كان لهم الفضل في استثمار الميراث العلمي الذي وصل إليهم من الحضارات السّابقة في نفس التخصّص، وقاموا بتطويره وتوظيفه لخدمة أمّتهم على وجه الخصوص، والإنسانيّة جمعاء على وجه العموم.
وقد تمكّن الغرب إلى حدّ كبير من الاستفادة من هذا التّراث العلمي الثّري الذي قدّمه المسلمون في المجال الفلكي، وبنوا عليه صرحهم العلمي الذي مكّنهم من غزو الفضاء والكشف عن بعض أسراره، ولا يزال التّقدّم العلمي مستمرًّا في كشف المزيد من المفاجآت التي يزخر بها هذا الكون الفسيح.
وفي ضوء هذه المسيرة التّاريخيّة الحافلة، يبرز تساؤل في غاية الأهمّية: «ما هو الدّور المنتظر من المسلمين في وقتنا الرّاهن بخصوص العلوم التي وضع أسلافهم أساسها المتين، ووقف عليه الغرب وهو يواصل التّقدم نحو المستقبل؟»