تطوير الذات

بقلم
محمد أمين هبيري
قانون التّدرّج
 التّدرّج هو أحد السّنن الكونيّة التي أودعها اللّه في هذا الكون، وهو منهج ربّاني يحكم العديد من جوانب الحياة، سواء في الخلق أو التّشريع أو التّربية. فالتّدرّج يعني الانتقال من مرحلة إلى أخرى بشكل متسلسل ومنظّم، بما يتناسب مع طبيعة الأشياء وقدرات المخلوقات. وقد أشارت العديد من الآيات القرآنيّة إلى هذا المبدإ، مثل قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾(البقرة: 286)، وقوله:﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾(هود: 7)، وقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾(المؤمنون: 12-13).
التدرّج هو منهج يعتمد على الانتقال التّدريجي من مرحلة إلى أخرى، بحيث تكون كلّ مرحلة مبنيّة على سابقتها وممهّدة للتي تليها. وهو يعكس حكمة اللّه في الخلق والتّشريع، حيث يراعي الفروق الفرديّة والظّروف المحيطة، ويضمن تحقيق الأهداف بشكل متوازن ومستقرّ. ومن أنواع التّدرّج:
1. التّدرّج في الخلق:
يُعدّ التّدرّج في الخلق أحد أبرز مظاهر حكمة اللّه في الكون. فخلق السّماوات والأرض تمّ في ستّة أيام، وليس دفعة واحدة، ممّا يدلّ على أنّ كلّ مرحلة من مراحل الخلق كانت مدروسة ومحكمة. وكذلك خلق الإنسان، حيث مرّ بعدّة مراحل بدءًا من النّطفة إلى العلقة إلى المضغة، ثمّ العظام فالكساء باللّحم، حتّى اكتمال الخلق. ولا ريب في أنّ ما عالجته نظريّة التّطوّر وانتقال نسل الإنسان من الإنسان البدائي الى الإنسان الحضري يعدّ من قبيل التّدرّج في الخلق، ويؤكّد أنّ كلّ شيء في الكون يسير وفق نظام التّدرّج.
2. التّدرّج في الأمر (التّشريع):
التّدرّج في التّشريع يعني أنّ الأحكام الشّرعيّة لم تُنزل دفعة واحدة، بل جاءت بشكل تدريجي يتناسب مع استعداد النّاس وقدرتهم على التّطبيق. فمثلاً، تحريم الخمر لم يكن فجأة، بل مرّ بمراحل بدءًا من بيان أضراره، ثمّ النّهي عن الصّلاة في حالة السّكر، وأخيرًا التّحريم القاطع. هذا المنهج يعكس رحمة اللّه بعباده ومراعاته لظروفهم النّفسيّة والاجتماعيّة.
التّدرّج يلعب دورًا محوريًّا في بناء العادات السّلوكيّة الإيجابيّة، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. فالإنسان لا يستطيع تغيير سلوكيّاته أو اكتساب عادات جديدة بشكل فجائي، بل يحتاج إلى وقت وخطوات تدريجيّة. على سبيل المثال، إذا أراد شخص أن يكتسب عادة القراءة اليوميّة، فإنّه يبدأ بقراءة بضع صفحات يوميًّا، ثمّ يزيد الكمّية تدريجيًّا حتّى تصبح القراءة جزءًا من روتينه اليومي.
والتّدرّج في بناء العادات يعتمد على عدّة عوامل:
الصّبر: حيث يحتاج الفرد إلى وقت كافٍ لتثبيت السّلوك الجديد.
التّكرار: فتكرار السّلوك بشكل مستمرّ يساعد على ترسيخه.
التّقييم: من خلال مراجعة التّقدّم وتعديل الخطّة عند الحاجة.
التّدرّج هو سنّة إلهيّة وحكمة ربانيّة تحكم الكون والحياة. فهو ليس مجرّد منهج عملي، بل هو أيضًا تعبير عن رحمة اللّه بعباده، حيث يراعي قدراتهم وظروفهم. وسواء في الخلق أو التّشريع أو التّربية، يظلّ التّدرّج أسلوبًا مثاليًّا لتحقيق الأهداف بشكل متوازن ومستقرّ. ومن خلال فهم هذا المبدأ وتطبيقه في حياتنا، نستطيع أن نصل إلى نتائج أفضل في بناء العادات السّلوكيّة الإيجابيّة وتحقيق التّغيير المنشود.
يمكن تقسيم الموضوع إلى جزءين؛ جزء أوّل نتحدث فيه عن القانون في ذاته وجزء ثان نتحدّث فيه عن القانون في موضوعه. 
الجزء الأوّل: قانون التدرّج في ذاته   
يمكن تقسيم الجزء الأول إلى عنصرين؛ الأوّل نتحدث فيه عن مواصفات القانون والثّاني عن خصائصه. 
العنصر الأوّل: مواصفات القانون
قانون التّدرّج هو منهج ربّاني وعام يحكم العديد من الجوانب الكونيّة والحياتيّة، ويتميّز بعدّة مواصفات تجعله فريدًا ومتناسقًا مع طبيعة الخلق والحياة. أولى هذه المواصفات هي المرونة، حيث يراعي التّدرّج الفروق الفرديّة والظّروف المحيطة، فلا يفرض تغييرًا جذريًّا أو فوريًّا، بل يسمح بالانتقال التّدريجي من حالة إلى أخرى بما يتناسب مع القدرات والإمكانيّات. هذه المرونة تجعله مناسبًا للتّطبيق في مختلف المجالات، سواء في التّربية أو التّشريع أو التّنمية.
ثانيًا، يتميّز التّدرّج بالتّسلسل المنطقي، حيث يعتمد على مراحل متتابعة، تكون كل مرحلة مبنيّة على سابقتها وممهّدة للتي تليها. هذا التّسلسل يضمن تحقيق الأهداف بشكل متوازن ومستقرّ، دون حدوث ارتباك أو فجوات في العمليّة. على سبيل المثال، في خلق السّماوات والأرض، مرّ الكون بستّ مراحل متتالية، كّل مرحلة منها كانت ضروريّة لتحقيق المرحلة التّالية.
ثالثًا، يتميّز التّدرّج بالشّموليّة، حيث لا يقتصر على جانب واحد من الحياة، بل يشمل جوانب متعدّدة، مثل الخلق والتّشريع والتّربية والتّنمية. فهو قانون عام يمكن تطبيقه في مختلف المجالات، ممّا يعكس عالميّته وفعاليّته.
رابعًا، يراعي التّدرّج الواقعيّة، حيث لا يفرض ما لا طاقة للإنسان به. فهو يراعي القدرات البشريّة والظّروف المحيطة، ممّا يجعله منهجًا عمليًّا ومناسبًا للتّطبيق. وهذا يتوافق مع قوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾(البقرة: 286).
خامسًا، يضمن التّدرّج الاستدامة، حيث أنّ التّغيير التّدريجي يكون أكثر ثباتًا واستقرارًا مقارنة بالتّغيير الفجائي. فالتّدرّج يسمح بترسيخ العادات والنّتائج بشكل تدريجي، ممّا يجعلها أكثر ديمومة.
العنصر الثاني: خصائص القانون
يتميز قانون التّدرّج بعدّة خصائص تجعله منهجًا فعّالًا ومتناسقًا مع حكمة اللّه في الخلق والتّشريع. أولى هذه الخصائص هي التّراكميّة، حيث يعتمد التّدرّج على تراكم الخبرات والنّتائج عبر المراحل المتتالية. فكلّ مرحلة تُبنى على ما تحقّق في المرحلة السّابقة، ممّا يؤدّي إلى ترسيخ النّتائج وتعزيزها. على سبيل المثال، في بناء العادات السّلوكيّة، يبدأ الفرد بخطوات صغيرة، ثمّ يزيدها تدريجيًّا حتّى تصبح جزءًا من روتينه اليومي.
ثانيًا، يتميّز التّدرّج بقدرته على التّكيف مع الظّروف، حيث لا يفرض حلولًا جامدة، بل يسمح بالتّعديل والتّطوير وفقًا للمتغيّرات. هذه المرونة تجعله مناسبًا للتّطبيق في مختلف الظّروف، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي.
ثالثًا، يحقّق التّدرّج التّوازن بين الطّموحات والواقع، حيث لا يسمح بالاندفاع الزّائد الذي قد يؤدّي إلى الفشل، ولا بالتّباطؤ الذي قد يؤدّي إلى الجمود. فهو يضمن تحقيق الأهداف بشكل متوازن، دون إرهاق أو إهمال.
رابعًا، يعكس التّدرّج الرّحمة والرّعاية، حيث يراعي قدرات الإنسان وظروفه النّفسيّة والاجتماعيّة. فالتّشريعات الإسلاميّة التي نزلت بشكل تدريجي، مثل تحريم الخمر، تُظهر هذه الخاصّية بوضوح. فقد بدأ التّحريم ببيان أضرار الخمر، ثمّ النّهي عن الصّلاة في حالة السّكر، وأخيرًا التّحريم القاطع.
خامسًا، يُظهر التّدرّج إعجازًا علميًّا، كما في خلق السّماوات والأرض في ستّة أيام، أو خلق الجنين في مراحل متتابعة. هذه الخصائص تؤكّد أنّ التّدرّج ليس مجرّد منهج بشري، بل هو سنّة إلهيّة محكمة.
سادسًا، يرتبط التّدرّج ارتباطًا وثيقًا بالزّمن، حيث يحتاج إلى وقت كافٍ لتحقيق النّتائج. وهذا يعكس حكمة اللّه في جعل الزّمن عاملًا أساسيًّا في تحقيق التّغيير والنّمو.
قانون التّدرّج، بمواصفاته وخصائصه، يُعدّ منهجًا ربانيًّا متكاملًا يحكم الكون والحياة. فهو يعكس حكمة اللّه في الخلق والتّشريع، ويراعي طبيعة الإنسان وقدراته. من خلال فهم هذه المواصفات والخصائص، نستطيع أن نطبق هذا القانون في حياتنا بشكل فعال، سواء في بناء العادات السّلوكيّة أو في تحقيق الأهداف الكبرى. التّدرّج ليس مجرد أسلوب عملي، بل هو تعبير عن رحمة اللّه بعباده، حيث يراعي ظروفهم ويضمن تحقيق النّتائج بشكل متوازن ومستقر.
الجزء الثّاني: قانون التدرج في موضوعه
يمكن تقسيم الجزء الثّاني إلى عنصرين؛ الأوّل نتحدث فيه عن مستلزمات القانون والثّاني عن غيابه. 
العنصر الأوّل: مستلزمات القانون
لكي يتحقّق قانون التّدرّج بشكل فعّال في أي مجال من مجالات الحياة، يحتاج إلى عدّة مستلزمات أساسيّة تضمن نجاحه وتحقيق الأهداف المرجوّة منه. أولى هذه المستلزمات هي الصّبر، حيث أنّ التّدرّج يعتمد على الانتقال التّدريجي من مرحلة إلى أخرى، وهذا يتطلّب وقتًا طويلًا في بعض الأحيان. فالصّبر يسمح للفرد أو المجتمع بتحمّل مراحل التّغيير دون استعجال النّتائج، ممّا يضمن استقرارها وثباتها.
ثانيًا، يحتاج التّدرّج إلى التّخطيط الجيّد، حيث يجب تحديد المراحل بشكل واضح ومتسلسل، مع وضع أهداف قصيرة المدى وطويلة المدى. يساعد التّخطيط على تجنب الفوضى وضمان أنّ كلّ مرحلة تُبنى على سابقتها بشكل منطقي.
ثالثًا، التّقييم المستمر هو أحد المستلزمات المهمّة، حيث يجب مراجعة التّقدّم بشكل دوري لتحديد نقاط القوّة والضّعف. هذا التّقييم يسمح بإجراء التّعديلات اللاّزمة لضمان استمراريّة التّقدّم.
رابعًا، يلعب الدّعم والتّحفيز دورًا كبيرًا في نجاح التّدرّج، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. فالدّعم النّفسي والمادّي يساعد على تجاوز الصّعوبات التي قد تواجه الفرد أو المجتمع خلال مراحل التّغيير.
خامسًا، المرونة في التّعامل مع التّحدّيات والمتغيّرات هي أيضًا من مستلزمات التّدرّج. فالقدرة على التّكيف مع الظّروف الجديدة تضمن استمراريّة العمليّة دون انقطاع.
العنصر الثّاني: في غياب القانون
غياب قانون التّدرّج في أيّ عمليّة تغيير أو بناء قد يؤدّي إلى العديد من المشكلات والسّلبيّات. أولى هذه السّلبيّات هي الفشل في تحقيق الأهداف، حيث أنّ التّغيير الفجائي أو غير المدروس غالبًا ما يؤدّي إلى نتائج عكسيّة. على سبيل المثال، محاولة تغيير عادة سيئة بشكل مفاجئ قد تؤدّي إلى انتكاسة سريعة.
ثانيًا، الإرهاق النّفسي والجسدي هو أحد نتائج غياب التّدرّج. فالتّغيير السّريع والمفاجئ يضع ضغطًا كبيرًا على الفرد أو المجتمع، ممّا قد يؤدّي إلى الإحباط وفقدان الحماس.
ثالثًا، عدم استقرار النتائج هو أيضًا من الآثار السلبية لغياب التّدرّج. فالتغيير الذي يحدث بشكل فجائي غالبًا ما يكون غير مستقر، وقد يعود الفرد أو المجتمع إلى الحالة السابقة بسهولة.
رابعًا، فقدان التوازن بين الطموحات والواقع هو أحد نتائج غياب التّدرّج. فبدون الانتقال التدريجي، قد يطمح الفرد أو المجتمع إلى تحقيق أهداف كبيرة دون مراعاة القدرات والظروف، مما يؤدي إلى الفشل.
خامسًا، غياب التّخطيط والتّنظيم هو أيضًا من الآثار السّلبيّة لغياب التّدرّج. فبدون مراحل متسلسلة، تصبح العمليّة فوضويّة وغير منظّمة، ممّا يعيق تحقيق الأهداف.
قانون التّدرّج، بمستلزماته وآثاره في حالة غيابه، يُعدّ منهجًا أساسيًا لتحقيق التّغيير والبناء بشكل فعّال ومستقر. فالتّدرّج يضمن تحقيق الأهداف بشكل متوازن، مع مراعاة القدرات والظّروف. من خلال تطبيق مستلزمات التّدرّج، مثل الصّبر والتّخطيط والتّقييم، نستطيع تجنّب السّلبيّات التي قد تنتج عن غياب هذا القانون. التّدرّج ليس مجرد أسلوب عملي، بل هو تعبير عن حكمة اللّه في الخلق والتّشريع، حيث يراعي طبيعة الإنسان ويضمن تحقيق النّتائج بشكل متوازن ومستقر.