فقه الميزان

بقلم
الهادي بريك
الحلقة السّابعة : الإمام عليّ وفقه الميزان.
 لفرط إيماني بأنّ المثال هو خير من يبيّن الحال، كما قالت العرب «بالمثال يتّضح الحال»، فإنّي أورد في هذه السّلسلة «من فقه الميزان» أمثلة كثيرة بدأتها بالكتاب العزيز، ثمّ بالحديث الشّريف، ثمّ بخير من فقه الميزان وفعّله أي الصّحابة الكرام. اليوم مع فقه الإمام عليّ للميزان وكيف فعّله في ما عالج من مشكلات. إذ الميزان هو دوما معالجة قضيّة ما بطريقة تتداخل فيها الأبعاد. ذلك أنّ الدّين (الإسلام) وضع مركّب وليس هو أحاديّ البعد (فيه البعد الغيبيّ والبعد المشاهد مثلا) والعقل ـ الذي نزل عليه ذلك الدّين المركّب ـ هو نفسه مركّب (فيه المثال الحاضر وفيه المثال المتصوّر المتخيّل مثلا) والواقع (الحياة) ـ الذي ما جاء الدّين المركّب متنزّلا على عقل مركّب إلاّ لإصلاحه ـ هو كذلك واقع مركّب (فيه الخير والشرّ مثلا). تلك هي أعلى منطلقات التّفكير العقليّ عندما يكون مهتديا بالوحي ومقبلا على إصلاح الحياة. 
طبيعة التّركيب في ذلك الوجود الثّلاثيّ (الدّين والعقل والواقع) هي ضربة لازب لا تنفكّ لا عن الدّين ولا عن العقل ولا عن الواقع. ومن ذلك يضلّ كلّ من تنكّب طبيعة التّركيب (التعدّد البعديّ) سواء في الدّين أو في العقل أو في الحياة. ليس فقه الميزان عدا الوعي بذلك التّركيب وتفعليه عند معالجة المشكلات إيمانا بأنّ المعالجات أحاديّة البعد هي كمثل الأعور أو الأحول (قيميّا وليس بيولوجيّا) لا يحالفها أيّ تسديد.
واقعة الجمل أو إختلاف الموازين
إختلاف التّقديرات في البشر ضربة لازب بسبب القصور الذي لا ينفكّ عنه النّاس مهما بلغوا، إلاّ أن يكون نبيّا مسدّدا بوحي. ولذلك أمرنا بأمرين ـ يتناسى كثيرون منّا الأمر الثّاني منهما ـ : أوّلهما تحكيم المرجعيّة الدّستوريّة التي لا تخطئ، وهي طاعة اللّه وطاعة رسوله وطاعة ولاّة الأمر طاعة مقيّدة لا مطلقة، ومشروطة لا غير مشروطة. ولاّة الأمر هم العلماء في كلّ فنّ، ولكلّ فنّ علماؤه. وليس هناك ولاّة أمر يتقمّصون الأردية الإلهيّة ليكونوا خلفاء للنّبوّة فيأمرون ويطاعون مطلقا. تلك عقيدة كنسية حتّى لو تسلّل بعض منها إلى بعض طوائفنا. الأمر الثّاني الذي نغفل عنه هو أنّه عند التّنازع ـ وليس الإختلاف ـ نعود إلى تلك المرجعيّة الدّستوريّة ذاتها لنحكّمها في النّزاع، أي العود إلى منظومتها الأصوليّة وهيكلتها الكلّية التي تؤسّس النّضج والرّشد، وليس إلى تفاصيلها. 
الإختلاف ضربة لازب على النّاس فهو جبلّة ولازمة من لازمات التّجدّد. إنّما التّنازع هو المرذول، إذ ينتهي بالصّف إلى التّصدّع. تنازع الصّحابة في معالجة قتلة عثمان عليه الرّضوان. رأى فريق منهم أنّه أمر محتّم مستعجل حتّى قبل إقامة الدّولة الجديدة وإنتخاب رئيس جديد، في حين أنّ فريقا منهم رأى أنّ فعل ذلك دون سلطة لا جدوى منه. اقتتلوا تنازعا. كان الإمام عليّ ـ وأغلب الصّحابة والنّاس معه ـ يقود الخيار الثّاني، أي لا مناص من سلطة يخوّل لها محاكمة القتلة أن يضحى الأمر فوضى. الفريق الأوّل : هل حكّم الميزان؟ قطعا لا. ولكن ساقته الحرقة على مقتل الرّئيس السّابق ظلما فسارع إلى القصاص بدون آلة قصاص وهي الدّولة. المقصود من سوق هذا هو أنّ تفعيل الميزان ليس دوما ممكنا بسبب إختلاف التّقديرات عند النّاس. وليس كلّ النّاس يحسنون تفعيل الميزان وفي كلّ حادثة جديدة. 
الذي يهمّنا من هذا هو أنّ من المعاني المستنبطة من فقه الميزان : العودة حال التّنازع ـ وليس مجرّد الإختلاف ـ إلى المنظومة الأصوليّة والكلّيات التّشريعيّة الكفيلة بإحسان تفعيل الميزان. أي عدم تحكيم النّصوص الجزئيّة المبثوثة ـ مهما صحّت وصرحت ـ في القضايا الكبرى من دون إعادة تبوئتها في مظانّها الأصوليّة التّشريعيّة الأولى. ماذا لو هرع النّاس إلى القصاص من القتلة؟ الثّمرة السّيئة هي فوضى وقصاصات في إثر قصاصات ويحصد النّاس بعضهم بعضا. ولذلك جاء التّحذير من ذلك في قوله سبحانه: ﴿.. فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا..﴾(الإسراء: 33). أي جعل اللّه لوليّ القتيل هيئة مهابة بسلطانها هي من تقوم بالقصاص. وليس ذلك يتولاه الوليّ ذاته لأنّ عاقبته الفوضى.
واقعة صفّين
أكثر من تعرّض من الخلفاء الرّاشدين الأربعة إلى الإضطرابات هو الإمام عليّ، ومن ذا فإنّ دراسة سنّته في معالجة تلك الإضطرابات بفقه الميزان مهمّة. لمّا إنتخب الإمام عليّ رئيسا جديدا فعّل فقه الميزان القاضي بأنّ دولة الإسلام واحدة في وحدتها التّرابية وفي وحدة قيادتها العليا وفي مشروعيّتها الدّينيّة وفي شرعيّتها الإنتخابيّة. وبذلك لم يتردّد في محاربة معاوية ـ رضي اللّه عنهم أجمعين ـ إذ لم يعترف بشرعيّة الدّولة الجديدة. وكان ذلك في واقعة صفّين حيث جرى التّحكيم. الذي يخصّنا هنا هو أنّ من فقه الميزان في فقه الدّولة عدم التّردّد في نبذ القبول برأسين إثنين لدولة واحدة. ولا يعني ذلك نبذ ما إصطلح عليه العلم المعاصر بالجمع بين السّلطات. ولا يعني ذلك من باب أولى وأحرى حبس الحرّيات عن النّاس. لا. مطلقا. إنّما يعني ذلك شيئا واحدا :هو وحدة القيادة، سيما إذا كانت منتخبة أي شرعيّة. ولذلك لم يتردّد في حرب صحابة مثله ومسلمين ومؤمنين. وهم كذلك يقيمون كلّ عدل في (الشّام) ولعقود طويلات. ولكن عندما تنعقد الشّرعيّة لواحد منهم انعقادا صحيحا فإنّه على من انعقد له ذلك القتال ـ لو لزم الأمر ـ لأجل تأمين الوحدة. وهو ما يستفاد بكلّ يسر من آية سورة الحجرات ﴿..فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ..﴾(الحجرات: 9). أمر اللّه هنا هو الوحدة التّرابيّة والوحدة القياديّة سيما عندما تكون شرعيّة. وهو الأمر ذاته الذي فقهه ـ كما مرّ بنا في حلقة سابقة ـ الخليفة الأوّل أبوبكر إذ قاتل أهل اليمامة بسبب مآل ما فعلوه (عدم إعطاء الزّكاة إلى الدّولة) إلى إنقسام الوحدة التّرابيّة ثمّ إنقسام الوحدة القياديّة ثمّ إستيلاء العدوّ على أشلاء من دولة إسلاميّة.
الخوارج وفقه الميزان
خير من يخبرك عن أمثلة مضادّة لفقه الميزان هم الخوارج الذين خرجوا على الإمام عليّ بسبب عدم تمييزهم بين الحكم القدريّ العام (الحكم القهريّ) وبين الحكم الشّرعيّ. هذا وجه من وجوه التّركيب في الدّين (حكم قهريّ يتولاه القاهر فوق عباده، فهو من يدبّر أمر ملكه، إذ لا شريك له فيه. وحكم شرعيّ يخيّر فيه النّاس في الدّنيا). 
أساء الخوارج قراءة قوله تعالى:﴿ ..إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ..﴾(يوسف: 40). فظنّوا ـ لتنكّبهم فقه الميزان بين الحكمين القهريّ والشّرعيّ ـ أنّ الحكم هنا هو الحكم الشّرعيّ الذي نحن فيه مخيّرون. ومن ذا لم يتردّد الإمام عليّ في الحوار معهم بداية ثمّ في قتالهم إذ حملوا السّيف ضدّ دولة شرعيّة. 
وجهان هنا من وجوه رعاية الميزان: أوّلهما هو أنّ حماية الأوطان أولى من حماية الإنسان، إذ الوطن محضن ووعاء ومسكن وبيت. فإذا إستلب الوطن من عدوّ فقد إستلب من فيه. أمّا الإنسان فهو فرع في ذلك المحضن الكبير. ومن ذا تتقدّم ـ هنا ـ ضرورة تأمين الوطن على ضرورة تأمين الحياة. الثّاني من تلك الوجوه هو أنّ قتال المسلم المعتدي الذي يهدّد فعله بتمزيق الوحدة مشروع، بل هو عين تفعيل فقه الميزان. فلا حرج من قتل المسلم الذي يفضي عمله إلى سوء بالغ. 
أرأيت كيف أنّ الموازين هنا في الظّاهر متعارضة ولكنّ حسن تفعيل فقه الميزان كفيل بتقديم هذا لأنّه أولى وتأخير ذاك لأنّه غير كذلك. كما أنّ فعل الإمام عليّ هنا مع الخوارج يعلّمنا فقه الميزان في معالجة المعارضة الإسلاميّة داخل الوطن الواحد. هو أوّل من تعرّض إلى ذلك وعالجه، فكان ذلك منه سنّة. لمّا حمل الخوارج ضدّ الدّولة السّلاح قاتلهم بحسبانهم بغاة يهدّدون أمن النّاس وينسفون وطنا. ولمّا وضعوا السّلاح سنّ فيهم سنّته العظمى، وهي أنّهم إخواننا لهم ما لنا وعليهم ما علينا ولا نمنعهم فيئا (أي من مال الدّولة) ولا مسجدا (أي حريّة تعبّد). فقه الميزان في معالجة المعارضة ـ سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية في عصرنا الحاضر ـ هو : قتال من يرفع السّلاح وتأمين الحرّية لمن يعارض. ولكنّه لا يرفع سلاحا.
فقه الميزان عند السّبط الأكبر : الحسن
الحسن إبن عليّ هو كذلك رئيس شرعيّ منتخب، ولكن لمّا أخضع إلى قهر أمويّ بالغ ليترك الشّرعيّة لغيره بسيف الشّوكة كما يقولون (أي القوّة)، حكّم الميزان ومن معه من أهل الرّأي. ولكنّهم أختلفوا هم كذلك في ذلك التّفعيل. فرأى فريق منهم أنّ الشّرعيّة ليست ملكا لمن عقدت له بل هي ملك الأمّة، فهي من تولّيها من تشاء وهي من تنزعها عمّن تشاء. حجّة هؤلاء هي أنّ التّفريط اليوم في الشّرعيّة ـ التي تؤمّن وحدة الصّف ـ مؤذن بعدم عودتها حتّى يوم القيامة. ويرى الفريق الآخر أنّ تقديم وحدة الأمّة اليوم في ظلّ تهديدات أمويّة جادّة ليس ميزانا يرعى. إذ يمكن التّضحية بحقّ النّاس مؤقّتا في إنتخاب دولتهم حتّى تزول هذه الفتنة وتعود الأمور إلى مجاريها. ولكن غلبت كلمة الفريق الثّاني، فكان تقديم وحدة الصّف على الشّرعيّة وحرّية النّاس في إختيار من يحكمهم. وذهب الحسن نفسه في هذا الخيار. 
الذي يهمّنا هنا ليس هو تقدير أيّ الخيارين أدنى إلى الميزان. ذلك مهمّ، ولكن لا يتّسع له هذا الآن. الذي يخصّنا هو أنّ فقه الميزان ـ سيما في أعلى شأن للدّولة والإجتماع البشريّ وهو المواءمة بين مطلبي وحدة الصّف من جهة وحرمة الشّرعيّة من جهة أخرى ـ هو دوما رعاية تلازم قيمتي المسؤوليّة التي تؤمّنها دولة ذات شرعيّة من جهة وإتاحة الحرّية للنّاس لإنتخاب دولتهم لتكون شرعيّة فتطاع إذ «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(1). 
ومن جهة أخرى، هل يعصى الخالق سبحانه في شيء ـ بعد الكفر به ـ بأكبر من دوس حرمة الشّرعيّة وإكراه النّاس على طاعة حاكم أتت به دبّابة أو إحتلال أو عشيرة أو أيّ سلطة في الأرض عدا السّلطان الشّعبيّ؟ تلك معصية عظمى وجريمة كبرى. ولكنّ أكثر المسلمين اليوم عنها غافلون غافلون. والحقّ أنّ التّفريط في حرمة الشّرعيّة ـ وأهل ذلك التّقدير مقدّرون كلّ تقدير. إذ المجتهد مأجور حتّى لو أخطأ. ما كان الإجتهاد من أهله وفي محلّه ـ وتقديم وحدة الصّف ـ لو حاكمناه بنتيجة التّاريخ بعد خمسة عشر قرنا كاملات ـ كان خطأ تقديريّا إجتهاديّا. إذ ما إستعادت الأمّة بعد ذلك لا وحدة صفّ ـ إلاّ وفيه ما فيه من قهر الأقلّيات في الأعمّ الأغلب ـ ولا شرعيّة شعبيّة تصبح بها الدّولة مطاعة بأمر اللّه وأمر رسوله ﷺَ. 
لا أعرف في تاريخ الأمّة درسا أعظم من ذلك. وهو أنّ الميزان كلّه ـ كلّه كلّه ـ هو توفير كلّ أسباب المواءمة بين قيمتي وحدة الصّف وحرمة الشّرعيّة. فلا يتمزّق صفّنا حتّى وهو متنوّع كلّ تنوّع. ولا يسام النّاس القهر بسبب معارضتهم أو إختلافهم فلا يكونون أحرارا في إستئجار من يحكمهم. ولا في نزع الإجارة منه لو رأوا أنّه خان الأمانة أو لم يكن لها أهلا. 
تلك هي أعلى تطبيقة في رأيي لفقه الميزان. وما عدا ذلك تفاصيل وفروع وجزئيات لها أهمّيتها دون ريب. ولكن من فقه الميزان إبقاء الفرع فرعا منسوبا إلى أصله وإبقاء الأصل أصلا حاكما على فرعه.
خلاصة سريعة
أظنّ أنّنا قمنا بتطوافة واسعة بقدرما يسمح به المجال لأجل التّعرّف على معالجة الصّحابة ـ سيما من تولّى المسؤوليّة منهم ـ لفقه الميزان الذي عالجوا به ما عرض لهم من مشكلات لا تخلو منه حياة بشريّة مطلقا. 
من أكبر الخلاصات هنا هو أنّ إعمال الميزان أمر إجتهاديّ تقديريّ، قد يصيب فيه صاحبه وقد يخطئ، سيما عندما يكون الأمر محلّ المعالجة مركّبا ـ وهو عادة لا يكون عدا مركّبا. وإلاّ ما أحتيج إلى فقه ميزان أصلا ـ ولكن ما يؤمّن الإصابة هنا والتّوفيق هو إعمال وجه من وجوه فقه الميزان، وهو (التّشاور والتّراضي) وليس الإستبداد بالأمر، إذ المرء ـ مهما بلغ من حكمة ـ هو محتاج إلى رأي غيره. 
المهمّ هنا هو الوعي ـ كلّ الوعي ـ بأنّ معالجة المشكلات العامّة ـ خاصّة ـ لا يحسمها كتاب فحسب، ولا ميزان فحسب، ولا قوّة فحسب، ولا فرد فحسب. لا مناص من الجمع بين كلّ تلك الأمور في رؤية موضوعيّة لا موضعيّة، ومقاصديّة لا وسائليّة، وتشاوريّة لا إستبداديّة، وواقعية لا مثاليّة عصيّة عن التّنزيل. إذ الحقّ الأعزل يظلّ حقّا في رؤوس أصحابه وليس بلسما شافيا كافيا ضافيا يعالج مشكلات النّاس. وقد نتعرّض فيما يأتي إن شاء اللّه إلى معالجات أخرى من صحابة آخرين كذلك. ولكن من بعد تحقّق النّذارة النّبويّة الصّحيحة «لتنقضنّ عرى الإسلام عروة عروة : أوّلها الحكم وآخرها الصّلاة»(2). ربّما منهم عبد اللّه إبن الزّبير والسّبط الأصغر أي الحسين. وما جرى في تاريخ الأمّة قدر الإمكان من بعد انقضاض عروة الحكم ليكون لا شرعيّا من حيث فقدانه لرضى النّاس.
الهوامش
(1)حديث صحيح أخرجه البغوي في «شرح السّنة» (2455) عن النّواس بن سمعان الأنصاري. وفي حديث آخر رواه مسلم عن عبد الله بن عمر رضي اللّه يقول فيه النّبي ﷺَ : «على المرءِ المسلم السمْع والطاعة فيما أحبّ وكَره إلا أن يُؤْمَر بمعصية، فإن أُمِرَ بمعصية فلا سَمْع ولا طاعة».
(2) رواه أبو أمامة الباهليّ وأخرجه أحمد وغيره.