نفحات
| بقلم |
![]() |
| د. أمينة تليلي |
| صورة الله في الوعي الإيماني: من عبادة الخوف إلى عبادة المحبّة |
مقدمة:
منذ اللّحظة التي يدرك فيها الإنسان وجودًا أعلى، تبدأ صورة الإله بالتّشكّل في ذهنه، وهي ليست صورة جاهزة، بل تُرسم شيئًا فشيئًا عبر النّصوص والمخاوف والآمال. فالإله في وعي المؤمن، ليس فقط فكرة ميتافيزيقيّة متعالية، بل حضور نفسيّ عميق، يوجّه المشاعر ويهذّب الأفعال ويُعيد تشكيل نظرة الإنسان إلى الكون والمصير.
ويُعتبر تصوّر الإنسان للإله أحد أعمق أبعاد التّجربة الإيمانيّة، وأكثرها تأثيرًا في بنية عقيدة المتديّن وسلوكه. فبينما ترسّخ بعض الخطابات صورة اللّه المنتقم، الجبّار، تذهب أخرى إلى ترسيخ صورة اللّه الرّحيم، المحبّ. وهنا يتولّد سؤال مربك ومحرج في آنٍ واحد: «أيّ إله يحيا داخلنا؟ وهل العلاقة مع اللّه تُبنى على الخوف أم على المحبّة؟ أم أنّ الإيمان الحقّ لا يكتمل إلاّ حين يتّسع لهذه الأضداد في لحظة واحدة؟».
إنّ خطورة هذه الإشكاليّة لا تكمن في بعدها النّظري فحسب، بل في أثرها النّفسي والسّلوكي العميق على الفرد والمجتمع. إذ لطالما أدّت صورة الإله إلى نتائج متباينة فإمّا إلى إنسان قلق، يعيش تحت خوف العقاب، أو إلى إنسان متساهل يبرّر أخطاءه باسم الرّحمة، أو إلى مؤمن متوازن، يجمع بين رهبة العدل ورجاء الرّحمة في انسجام دقيق.
وعليه، فإنّ هذا المقال يسعى إلى معالجة هذه الإشكاليّة من خلال هدفين متكاملين:
- تحليل الجذور النّفسيّة لصورة اللّه في وعي المؤمن، وكيف تتشكّل بين قطبي الرّهبة والرّجاء، باعتبارهما آليتين نفسيّتين راسختين في البنية الإيمانيّة، تتأثّران بالسّياق التّربوي أوّلا، ومن ثمّ بالنّصوص الدّينيّة، وأخيرا بالتّجربة الرّوحيّة الفرديّة.
- بيان أثر هذا التّصوّر في تحقيق التّوازن الإيماني وتوجيه السّلوك الدّيني، بما في ذلك ما يرتبط بالضّمير الأخلاقي، وممارسات التّديّن اليوميّة.
وينبني هذا العمل على قراءة تأمّليّة ونقديّة، تتداخل فيها الرّؤية النّفسيّة بالعقديّة، وتستند إلى تحليل نوعيّ يجمع بين المعطيات النّظريّة المستقاة من علم النّفس الدّيني، وقراءة تفكيكيّة للخطابات الدّينيّة المتنوّعة، وذلك في محاولة لفهم كيف تؤثّر صورة اللّه في تشكّل العلاقة بين المؤمن ومعبوده، وفي كيفيّة ترجمتها إلى مواقف وسلوكيّات ملموسة.
المبحث الأول: جذور الإيمان في النّفس
لا يتكوّن الإيمان بوصفه تصوّرًا عن الإله من معارف عقليّة مجرّدة فحسب، بل ينشأ من خلال تفاعل وجداني عميق داخل النّفس البشريّة. فالتّجربة الإيمانيّة تتأسّس على أرضيّة نفسيّة خصبة، تسبق التّلقين والتّشريع على حدّ السّواء، وتنطوي على استعداد داخلي يوجّه الإنسان نحو فكرة وجود الإله. ومن هنا، فإنّ البحث في جذور الإيمان يقتضي العودة إلى المكوّنات الأولى التي تشكّل صورة اللّه في وعي الإنسان، سواء على مستوى الفطرة أو الانفعالات الأوليّة كالخوف والرّجاء.
وتُعدّ الفطرة الدّينيّة واحدة من أهمّ هذه المكوّنات، حيث تُمثّل المنبع الدّاخلي الذي تستقرّ فيه ملامح أوّليّة لصورة الإله، قبل أن تتبلور من خلال النّصوص والتّجارب.
المطلب الأوّل: البعد الفطري لصورة الإله في النّفس البشريّة
من أهمّ ما يميّز التّجربة الدّينيّة أنّها ليست مكتسبة بالكامل، بل تتأسّس على بنية فطريّة. وهذه الفطرة ليست مجرّد استعداد عام للإيمان، بل تتضمّن ملامح أوّليّة لصورة الإله، إذ يشعر الإنسان في قرارة نفسه بوجود قوّة عليا، خالقة، مراقِبة، راعية، تحيط به في كلّ حال. وهذا الإحساس العميق ليس وليد البيئة أو الثّقافة فقط، بل هو امتداد لما أودعه اللّه في النّفس البشريّة من توجّهات تلقائيّة نحو الخالق.
وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا البعد الفطري بقوله: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ (الروم: 30)، وهي إشارة إلى أنّ أصل الإيمان باللّه مغروس في تكوين الإنسان قبل أن يلقن أيّ معرفة خارجيّة. ويؤكّد ابن تيمية هذا المعنى بقوله: «فالإقرار بالخالق والميول إليه من لوازم الفطرة الإنسانيّة، وإن كان قد يعتريها ما يفسدها»(1). وهذا ما يتجسّد في حديث الرّسول ﷺ: «إنّ الولد يولد على الفطرة....» (2).
إنّ حضور صورة اللّه في الفطرة لا يعني بالضّرورة وضوحها في كلّ عقل، لكنّها تشكّل استعدادًا وجوديًّا قابلاً للتّفعيل، فإذا لقي هذا الاستعداد نصوصًا صريحة وتربية سويّة، تشكّلت هذه الصّورة، وتجلّت في أبهى معانيها الخشية والرّجاء والمحبّة. أمّا إذا غلبت العوامل المشوّهة من خوف مرضي أو خطاب ديني متشدّد فإنّ هذه الصّورة تنحرف، وقد تفضي إلى نفور من الدّين ذاته.
وعليه، فإنّ فهم البعد الفطري لصورة الإله يعدّ مفتاحًا أساسًا لفهم التّجربة الإيمانيّة وأساسا لتقويم الخطاب الدّيني الموجّه للنّاس، إذ أنّ كلّ خطاب يُغفل الفطرة أو يصادمها غالبا ينتهي إلى النّفور لا إلى الطّمأنينة.
المطلب الثّاني: تطوّر الإيمان من الخوف إلى الرّجاء
1. الخوف وبناء السّلوك:
إنّ الإيمان في لحظته الأولى ليس مجرّد تصديق نظري بموجود غيبي، بل هو انفعال وجداني يضرب في أعماق النّفس البشريّة، وهذا ما بيّنته دراسة لويليام جيمس: «أنّ الإيمان يبدأ غالبًا بشعور داخليّ بالرّهبة والافتقار أمام عظمة لا متناهية»(3). وهو ما يتوافق مع ما جاء في القرآن الكريم: ﴿وَيَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ﴾ (النحل: 50)، دلالة على أنّ الشّعور بالخوف جزء ثابت في التّجربة الإيمانيّة الأولى. فيقدّم القرآن الكريم اللّه في صورة مهيبة، تُسكن في النّفس الخوف من بطشه. هذا الخوف ليس رهبة مرضيّة، بل إدراك لسلطة الإله العليا، كما في قوله تعالى:﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ (آل عمران: 28) وقوله :﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ (البروج: 12)
هذا التّأسيس القرآني لم يكن عبثًا، بل يخلق تصوّرا ردعيّا للنّفس الأمّارة، ويؤسّس لهيبة اللّه في الضّمير. ولهذا يجعل الإمام الغزالي من الخوف شرطًا سابقًا للرّجاء، وركنًا في التّربية الرّوحيّة قائلا: «الخوف سوط اللّه يسوق به عباده إلى دار كرامته»(4).
كما يربط علماء النّفس الدّيني بين الخوف المعتدل وارتفاع الحسّ الأخلاقي، إذ يعمل الخوف من العقاب الإلهي على تشكيل السّلوك الملتزم بالقيم حتّى في غياب الرّقابة الخارجيّة. ومن هنا لسائل أن يسأل هل الخوف عائق أم محفز؟.
إنّ الخوف من العقاب الإلهي قد يعمل محفّزًا للسّلوك الملتزم بالقيم حتّى في غياب الرّقابة الخارجيّة، لكنّه في الوقت نفسه قد يتحوّل إلى عائق نفسي أو اضطراب إذا ما تجاوز حدّ الاعتدال. ولهذا تظهر الحاجة إلى تقويم هذا الخوف، والتّمييز بين نوعين من الخوف: الخوف السّلبي الذي يثقل النّفس، والخشية التي يُراد بها الخوف المصاحب للعلم، كما وصفها ابن القيم بقوله: «الخشية أخصّ من الخوف، فهي خوفٌ مقرونٌ بالمعرفة»(5). فالخشية إذًا ليست مجرّد خوف، بل حالة نفسيّة متوازنة تُحفّز السّلوك وتردع عن الانحراف، بخلاف الخوف المفرط الذي قد يؤدّي إلى نتائج عكسيّة.
2. الرّجاء والرّحمة شرط توازن النّفس:
في مقابل رهبة الخوف يُنَزّل القرآن آيات الرّجاء كعلاج نفسي يُعيد التّوازن، ومن أبلغ هذه الآيات قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ﴾ (الزمر: 53). فالرّجاء هنا لا يقدّم كبديل للخوف بل مكمّل له. فالخوف يزجر والرّجاء يطمئن يقول ابن عطاء اللّه السّكندري: «الرجاء سَراج السّالكين»(6)، أمّا الغزالي فكان يرى أنّ: «الرّجاء حياة القلب بعد الخوف»(7).
وقد ربط الباحثون في علم النّفس بين الرّجاء والمرونة النّفسيّة معتبرين أنّ: «الإيمان الرّجائي يتيح للنّفس التّعامل مع الذّنب والتّقصير دون الانهيار أو التّساهل»(8).
وفي تجربة الإيمان الحقيقيّة الخوف والرّجاء ليسا شعورين متضادّين، بل مساران متكاملان. وبهذا قال ابن القيم في كتابه مدارج السّالكين: «القلب في سيره إلى اللّه كالطّائر، رأسه المحبّة، وجناحاه الخوف والرّجاء»(9).
والإيمان لا ينمو في فراغ معرفي، بل يتجذّر في نفس تخاف ثمّ تطمئن، تُقصّر ثم تأمل. الخوف والرّجاء ليسا مشاعر دينيّة فقط، بل آليتان نفسيّتان تعيد كلّ منهما تشكيل المسار الإيماني بما يحقّق التّوازن النّفسي والدّيني. فالإيمان الحقيقي ليس تكديسًا للمعلومات، بل تربية للوجدان. ولهذا، تبدأ جذور الإيمان في النّفس من تجربة خوف ثمّ رجاء ثمّ محبّة.
المبحث الثّاني:
تأثير تصوّر الإله على سلوك المؤمن وتوازنه النّفسي والرّوحي
الإيمان ليس مجرّد اعتقاد ذهني أو شعور وجداني فحسب، بل هو حالة نفسيّة تنعكس في كلّ الجوانب الحياتيّة. ومن هنا تأتي أهمّية تصوّر الإله في حياة المؤمن. فكيف يرى الإنسان ربَّه؟ هل يراه جبارًا أم رحيمًا ؟ عادلا محضًا أم غفورًا رحيما؟. فالصّورة الذّهنية التي يرسمها المؤمن للّه تؤثّر بشكل مباشر في سلوكه، وتوجّه توازنه النّفسي، بل وتحدّد شكل التّديّن نفسه بين التّطرّف والاعتدال.
المطلب الأوّل: تصوّر الإله وأثره في توجيه سلوك المؤمن
يمثل تصوّر الإله في وعي المؤمن القاعدة الأساسيّة التي تُبنى عليها أنماط السّلوك والتّفاعل مع الحياة اليوميّة. فالصّورة الذّهنيّة التي يحملها الإنسان عن اللّه ليست مجرّد فكرة نظريّة، بل هي عامل فعال وحاسم في توجيه اختياراته وسلوكيّاته، سواء في المواقف الرّوحيّة أو الاجتماعيّة. وبذلك، تصبح هذه الصّورة بمثابة إطار مرجعي ينظّم الضّمير ويحدّد حدود المقبول والمرفوض، ويحفّز المؤمن على التّقيّد بالقيم الدّينيّة والأخلاقيّة.
1. صورة الإله الضّابط للسّلوك:
تشير البحوث الإسلاميّة والنّفسيّة إلى أنّ الإنسان المتديّن يُنظّم سلوكه اليومي بناءً على الصّورة التي يحملها عن اللّه في ذهنه ووعيه. فعندما يكون تصوّر اللّه هو الإله العادل الرّقيب، فإنّ ذلك يُنتج نموذجًا من الالتزام والورع، يقوم على شعور دائم بوجود رقابة عليا ترشد السّلوك وتحدّ من الانحرافات. وقد أكد القرآن الكريم هذه المعاني في عدة آيات منها قوله تعالى:
- ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء: 1).
- ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ (غافر: 19).
وفي هذا السياق، يرى الإمام أبو حامد الغزالي أن: «الخوف من الله يضبط الشهوة، وأن رؤية الله كقادر وعليم تردع النفس عن الغرور والانفلات»(10). ولذلك، فإن تصوّر الإله كمراقب يدفع إلى السلوك الأخلاقي السوي والسليم.
2. تأسيس السّلوك عبر التّقوى لا العقاب:
إنّ بناء السّلوك الدّيني لا يستند فقط على الوعيد، بل يقوم أساسًا على التّقوى باعتبارها نابعة من محبّة للّه واعتراف بجلاله. ومن هنا، فإنّ الخطاب الدّيني المتوازن يركّز على تعزيز الوعي باللّه لا على التّخويف فقط، ليكوّن إنسانًا مستقيمًا ظاهرا وباطنا. فالمؤمن الذي يخشى اللّه لأنّه يحبّه أصدق من المؤمن الذي يخشاه لأنّه فقط يخاف العقاب، ولهذا يقول ابن القيم: «إنّ السّلوك ليس نتيجة التّهديد بالعقاب فقط، بل هو ثمرة محبّة للّه وخشية منه»، ويشرح ذلك بقوله: «العبد السّالك إلى ربّه إذا تأمّل أسماءه وصفاته استحيا منه وخافه وأحبّه فسلك سلوك المحبّين لا المكرهين»(11).
وهذا ما يترجم قول النّبي ﷺ: «اتَّقِ اللهَ حيثُما كنتَ...»(12). فالتّقوى تنبع من وعي عميق باللّه، وليس من مجرّد الخوف من عقابه.
3. أثر التّصوّر السّلبي على السّلوك المتطرّف:
وفي المقابل، يُظهر تصوّر اللّه كمنتقم قاسٍ دون توازن مع رحمته، نتائج سلبيّة على السّلوك. قد يؤدّي إلى تشكّل نماذج متشدّدة من التّديّن تُغلب فيها العقوبة، ويُغيَّب فيها البعد الجمالي والرّوحي.
قد أشار عبد الحميد أبو سليمان في كتابه «أزمة العقل المسلم» إلى: «أنّ هذا التّصوّر الإلهي الجاف يُساهم في الجمود الفكري والتّشدّد الدّيني، إذ يتبنّى البعض خطابًا دينيًّا يُقصي البعد الرّحماني، فيُهمّش الجوانب الإنسانيّة والرّوحيّة التي تُسهم في بناء شخصيّة مؤمنة متّزنة. ويتحوّل الدّين إلى مجرّد نظام رقابي يركّز على تنفيذ الأوامر وتجنّب العقاب، بعيدًا عن فهم الدّين كرحمة ودعوة للحياة الكريمة والتّسامح»(13).
كما يساهم هذا التّصـوّر السّلبي في تعزيز مفاهيم العنف والتّطرّف، إذ أنّ شعور المؤمن بأن اللّه منتقـم وشديد العقـاب قد يدفعه إلى تبرير العنف ضدّ الآخرين باعتباره وسيلة للحفاظ على دينه وعقيدته.
من هنا، يظهر بوضوح أنّ الصّورة المتوازنة للّه التي تجمع بين العدل والرّحمة هي الأساس في بناء سلوك ديني متّزن، وتُبعد الإنسان عن التّطرّف، وتمنحه قدرة على التّسامح والرّحمة مع الذّات ومع الآخرين.
المطلب الثاني: التصوّر الإلهي ودوره في توازن النفس والروح
1. الإله الرحيم: مرآة نفسية للسلام الداخلي:
إنّ تصوّر المؤمن لإلهه كرحيم ومُجيب يجعل العلاقة معه أكثر استقرارًا، ويمنح النّفس شعورًا بالاطمئنان. ولهذا نجد القرآن يقدّم الرّحمة في قوله تعالى:﴿الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ﴾ (الفاتحة: 3) وفي قوله:﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (الأعراف: 156).
وقد أشار محمد عثمان نجاتي في كتابه «علم النّفس في حياة الرّسول»: «أنّ المؤمن الذي يرى في اللّه ملاذًا ورحمة، يتكوّن لديه توازن عاطفيّ يظهر في:
• تقبّل الذّات رغم الخطأ
• رفض الإيذاء الجسدي أو النّفسي
• الثّقة في مغفرة اللّه دون استسلام»(14).
هذا التّصوّر للإله كرحيم يُساعد النّفس على تحقيق التّوازن، ويقلّل من مشاعر الذّنب المُفرط. فبدلا من أن يشعر الإنسان بأنّه مهدّد بالهلاك الدّائم، يشعر بأنّ هناك بابًا مفتوحًا دائمًا للتّوبة. وهذا ما ينعكس في سلوك المسلم المتوازن. لذا، فإنّ التّربية الإيمانيّة التي تنطلق من صورة الإله الرّحيم تُنتج مؤمنًا متوازنا نفسيّا ومتصالحا مع العالم من حوله.
2. أثر صورة الله على الصّحة النّفسيّة:
تؤكّد الدّراسات النّفسيّة الحديثة: «أنّ تصوّر اللّه كغفور ومجيب يُعزّز من مستويات المرونة النّفسيّة، ويساهم في تقليل معدّلات الاكتئاب والقلق عند الملتزمين دينيًّا. فالذين يتصوّرون اللّه على نحو إيجابي يتعاملون مع المصائب بتفسير متفائل، ويتجاوزون الشّعور بالذّنب أسرع من غيرهم»(15).
هذا التّأثير يظهر بوضوح في التّجربة الصّوفيّة كذلك، إذ تُبنى العلاقة باللّه على الحبّ لا الخوف فقط، فابن عطاء اللّه يقول: «ليس العجب ممّن يهلك وهو خائف، بل ممّن ينجو وهو آمن»(16).
وبهذا تُظهر الدّراسات النّفسيّة الحديثة والتّجارب الرّوحيّة أنّ تصوّر الإنسان للإله كغفور رحيم، وتصوّر مبني على الحبّ أكثر من الخوف، يلعب دورًا جوهريًّا في تعزيز الصّحّة النّفسيّة. فالارتباط باللّه بصورة إيجابيّة يُمكّن المؤمن من مواجهة الأزمات على اختلافها بتفاؤل وأمل، متجاوزًا مشاعر الذّنب والرّهبة التي قد تعيقه. وهذا ما تؤكّده أيضًا الصّوفيّة التي تدعو إلى الاعتماد على المحبّة للّه بدلاً من الخوف، ممّا يعكس توازنًا روحانيًّا ونفسيًّا يدعّم السّلام الدّاخلي للمؤمن.
3. العلاقة بين التّوازن العقدي والتّوازن النّفسي:
تؤكد العقيدة الإسلاميّة على التّوازن فلا خوف مفرط يؤدّي إلى اليأس، ولا رجاء مُطلق يؤدّي إلى الغرور، وترجمة هذا قوله تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾. (الحجر: 49–50)
فعندما يختلّ هذا التّوازن، تظهر اضطرابات عقديّة تنعكس نفسيًّا، كالتّشدّد الدّيني، والوسواس القهري المتديّن، وفقدان المعنى الرّوحي للعبادة. لأنّ تصوّر اللّه عند المؤمن ليس اعتقادًا مجرّدًا، بل نظامًا شعوريًّا وعقليًّا يوجّه سلوكه، ويبني نفسيّته، ويؤطّر علاقته بالحياة والمجتمع. فإن رآه جبّارًا بلا رحمة، قاده ذلك إلى القلق أو التّطرّف. وإن رآه غفورًا دون عدالة قاده ذلك إلى التّراخي والغرور. لكن عندما يجمع بين الجلال والجمال وبين الهيبة والرّحمة، ينشأ إيمان متّزن.
لذلك، فإنّ صورة اللّه عند المؤمن هي مفتاح بناء التّديّن الإيجابي، وهي التي تُحقّق التّوازن بين الرّهبة والرّجاء، بين المحبّة والخوف. وهذا التّصوّر هو ما يثمر في النّهاية شخصيّة إيمانيّة تُعبّر عن الإسلام بالسّكينة والتّوازن.
الخاتمة:
أخيرا، الإله كما يراه المؤمن في رحلته ليس تصوّرًا ذهنيًّا، بل حضورًا وجدانيًّا، يتطوّر في القلب من شعور المذنب الخائف إلى رجاء المحتاج، ثمّ إلى حبّ العارف وطمأنينة القريب. وهذا هو الدّين عبادة عن محبّة، وطاعة عن رضا، وسلوك عن اطمئنان. هكذا يصبح الإيمان باللّه رحلة لا تبدأ بالخوف لتنتهي به، بل تنطلق منه لتعانق المحبّة، فتسكن النّفس ويستقرّ القلب وتتحقّق العبوديّة بمعناها الأسمى «أن يعبد الإنسان ربّه كأنه يراه».
في النّهاية، يبقى الإله كما يراه المؤمن محورًا لا يمكن تجاوزه، سرًّا عميقًا يحتضن آماله ومخاوفه، مصدر أمله ومرجعه في رحلة مستمرّة بين الظّلال والنّور، وبين الخوف والحنان، وبين الرّهبة والرّجاء. وهذه الرّحلة هي التي تُجسّد روح الإيمان الحيّ، الذي يحيا في القلب ويتجدّد مع كلّ يوم جديد.
الهوامش
(1) ابن تيمية، تقي الدين (تـ728هـ): درء تعارض العقل والنقل، تح: محمد رشاد سالم، دار عالم الكتب، الرياض-المملكة العربية السعودية، ط/2، 1991م، 1/57.
(2) رواه مسلم: الصحيح، كتاب الإيمان، باب الولد يولد على الفطرة، ح.رقم 2658.
(3) جيمس، لويليام: تجارب الدين: دراسة في الطبيعة البشرية، تر: عبد السلام هارون، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت-لبنان، ط/1، 1987م،
(4) الغزالي، أبو حامد (تـ 505هـ): إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت-لبنان، ط/1، (د.ت)، 2/128.
(5) ابن القيم: مدارج السالكين، (م.س)، 1/512.
(6) السكندري، ابن عطاء الله (تـ709هـ): الحكم العطائية، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة-مصر، ط/1، 1988م، ص 172.
(7) الغزالي: إحياء علوم الدين، (م.س)، 4/132.
(8) إسماعيل، آزاد علي: الدين والصحة النفسية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واشنطن-الولايات المتحدة الأمريكية، ط/1، 2014م، ص 91.
(9) ابن قيم الجوزية، أبي عبد الله (تـ715هـ): مدارج السالكين بين منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، تح: محمد البغدادي، دار الكتاب العربي، بيروت-لبنان، ط/7، 1423هـ/2003م، 1/512.
(10) الغزالي: إحياء علوم الدين، (م.س)، 2/128.
(11) ابن القيم: مدارج السالكين،(م.س)، 1/102.
(12) رواه الترمذي: السنن، ح.رقم: 1987.
(13) للتوسع انظر: أبو سليمان، عبد الحميد: أزمة العقل المسلم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واشنطن-الولايات المتحدة الأمريكية، ط/1، 1992م، ص 94-96.
(14) نجاتي، محمد عثمان: الحديث النبوي وعلم النفس، دار الشروق، القاهرة-مصر، ط/1، 2019م، ص 219-223.
(15) إسماعيل، آزاد علي: الدين والصحة النفسية، (م.س)، ص 101.
(16) السكندري، ابن عطاء: الحكم العطائية، (م، س)، ص 173.
|




