نوافذ
| بقلم |
![]() |
| د.علي رابحي |
| الدّرس المقاصدي، ذلك الفقه الحيّ |
الدّرس المقاصدي فرض نفسه على الفكر الإسلامي، قال ابن القيم في فقه المقاصد:«هو الفقه الحيّ الذي يدخل على القلوب بغير استئذان»(1)، في مقابل فقه ميّت هو الذي يتمسّك بالألفاظ والمباني ويهمل المقاصد والمعاني(2). ويبيّن ابن القيّم فوائد المقاصد بقوله: «بناء الشّريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد، هذا فصل عظيم النّفع جدّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشّريعة ... فإنّ الشّريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلّها، ورحمة كلّها، ومصالح كلّها، وحكمة كلها»(3). والمعاني نفسها نجدها عند جمهور الأصوليين قدماء ومحدثين.
المقاصد لغة جمع مقصد، والمقصد مصدر من الفعل (قصد)، يقال: قصد يقصد قصداً ومقصداً (4). والمقصد: موضع القصد» (5)
تطلق مادّة (ق ص د) في اللّسان العربي، ويراد بها المعاني التّالية:
- الغاية، والإرادة، والهدف(6). قال ابن فارس: «القاف والصّاد والدّال أصول ثلاثة يدلّ أحدها على إتيان الشّيء وأمّه...ومنه: أقصده الهم: إذا أصابه فقتل مكانه وكأنّه قيل ذلك لأنّه لم يحد عنه»(7).
- القصد استقامة الطّريق(8)، ومنه قول اللّه تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَبِيل﴾ (النحل:9) أي: على اللّه تبيين الطّريق المستقيم والدّعاء إليه بالحجج والبراهين الواضحة(9).
- التّوسّط والاعتدال، كما في قوله تعالى: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ (لقمان: 19). والاعتزام، والتّوجّه نحو شيء على الاعتدال والنّهوض(10). والاعتماد والأمّ وإتيان الشّيء(11).
وقد استعمل العلماء قديما وحديثا تعبيرات متعدّدة مرادفة لمصطلح المقاصد، استخدموها ليعبّروا بها عن مراد الشّارع ومقصود الوحي ومصالح الخلق، كالعلّة، والمناسبة، والمآل، والغرض، والغاية، والهدف، والسّر، والنّتيجة، والفائدة(12). وقد تتبّعها نور الدين بن مختار الخادمي، فوجد أنّه يعبّر عن المقاصد عندهم بالحكمة المقصودة بالشّريعة، ويعبّر عنها أيضا بمطلق المصلحة، ويعبّر عنها كذلك بنفي الضّرر ورفعه وقطعه، كما يعبّر عنها بدفع المشقّة ورفعها، ويعبّر عنها كذلك بالكليّات الشّرعيّة الخمس الشّهيرة، ويعبّر عنها أيضا بمعقوليّة الشّريعة وتعليلاتها وأسرارها، كما يعبّر عنها بلفظ المعاني(13).
تعريف مقاصد الشّريعة باعتبارها مركّبا إضافيا:
يقول الأستاذ نور الدّين الخادمي: «كان قدامى العلماء يعبّرون عن كلمة «مقاصد الشّريعة» بتعبيرات مختلفة وكلمات كثيرة، تتفاوت من حيث مدى تطابقها مع مدلول المقاصد الشّرعيّة ومعناها ومسمّاها، لذلك لم يبرز على مستوى البحوث والدّراسات الشّرعيّة الأصوليّة تعريف محدّد ومفهوم دقيق للمقاصد يحظى بالقبول والاتفاق من قبل كافّة العلماء أو أغلبهم، وقد كان جلّ اهتمامهم الاجتهادي مقتصرا على استحضار تلك المقاصد والعمل بها أثناء الاجتهاد الفقهي، دون أن يولوها حظّها من التّدوين، تعريفا وتمثيلا وتأصيلا وغير ذلك. أمّا المعاصرون فقد ذكروا تعريفات تتقارب في جملتها من حيث الدّلالة على معنى المقاصد ومسمّاها، ومن حيث بيان بعض متعلّقاتها على نحو أمثلتها وأنواعها وغير ذلك»(14).
وقد عرّفها الإمام الغزالي بأنّها: «المحافظة على مقصود الشّرع من الخلق، ومقصود الشّرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم: دينهم، وعرضهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم»(15)وعرّفها الإمام الرّازي بأنّها: «رعاية المصالح»(16). وعرفها العزّ بن عبد السّلام بأنّها: «جلب المصالح، ودرء المفاسد»(17).
وفي تعريفه لمقاصد التّشريع، قسّمها محمد الطّاهر بن عاشور إلى قسمين، هما:
- مقاصد التّشريع العامة، وعرّفها بقوله: «هي المعاني والحكم الملحوظة للشّارع في جميع أحوال التّشريع أو معظمها، بحيث لا تختصّ ملاحظتها بالكون في نوع خاصّ من أحكام الشّريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشّريعة وغايتها العامّة والمعاني التي لا يخلو التّشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضا معاني من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام ولكنّها ملحوظة في أنواع كثيرة منها»(18).
- والمقاصد الشّرعيّة الخاصّة، وبيّن أنّها: «الكيفيّات المقصودة للشّارع لتحقيق مقاصد النّاس النّافعة، أو لحفظ مصالحهم العامّة في تصرّفاتهم الخاصّة» (19).
أمّا علاّل الفاسي فيرى أنّ المراد بمقاصد الشّريعة: «الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشّارع عند كلّ حكم من أحكامها»(20).
يقول الأستاذ أحمد الرّيسوني: «بناء على هذه التّعريفات والتّوضيحات لمقاصد الشّريعة لكلّ من ابن عاشور وعلاّل الفاسي، وبناء على مختلف الاستعمالات والبيانات الواردة عند العلماء الذين تحدثّوا عن موضوع المقاصد، يمكن القول: إنّ مقاصد الشّريعة هي الغايات التي وضعت الشّريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد»(21).
وعرّف أبو إسحاق الشّاطبي مقاصد الشّريعة بمراتبها، فقال: « تكاليف الشّريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق. وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدهما أن تكون ضروريّة، والثّاني أن تكون حاجيّة، والثّالث أن تكون تحسينيّة.
فأمّا الضّروريّة: فمعناها أنّها لا بدّ منها في قيام مصالح الدّين والدّنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدّنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة. وفي الأخرى فوت النّجاة والنّعيم، والرّجوع بالخسران المبين..
وأمّا الحاجيّات: فمعناها أنّها مفتقر إليها من حيث التّوسعة، ورفع الضّيق المؤدّي في الغالب إلى الحرج والمشقّة اللاّحقة بفوت المطلوب.
وأمّا التّحسينات: فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنّب الأحوال المدنّسات التي تأنفها العقول الرّاجحات. ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق»(22).
وحصر أغلب القدماء الضّروريات في خمسة أصول، هي: «حفظ الدّين، والنّفس، والمال، والعقل، وقد قالوا إنّها مراعاة في كلّ ملّة»(23). وأضاف بعضهم مقصد حفظ العرض(24). وتوسّع المحدثون في أنواعها فأضاف بعضهم مقصد حفظ البيئة(25).
ولن يتأتّى تحقيق بناء الإنسان وفق المنظور الإسلامي الأصيل، وتوفير شروط الإقلاع الحضاري من جديد، في ضوء الإمكانات المتاحة والظّروف المحيطة. إلاّ بإقامة أهداف مقاصد الشّريعة والمحافظة عليها من جانب الوجود، وجانب العدم، واعتمادها معالم طريق في الرّسالة القيميّة الاستشرافيّة لتصحيح مسار المجتمع.
الهوامش
(1) محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، «إعلام الموقعين عن رب العالمين»، تحقيق مشهور بن حسن، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، السعودية، ط1، 1423 هـ، ج4 ص448. فصل [لا بد من اعتبار النية والمقاصد في الألفاظ].
(2) بنيونس الوالي، محاضرات في مقاصد الشريعة، مطبوع
(3) محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، «إعلام الموقعين عن رب العالمين»، م س، ج3 ص11. [فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات].
(4) ابن فارس، «معجم مقاييس اللغة»، م س، ج5، ص: 95.
- ابن منظور «لسان العرب»، م س، 3ج، ص: 353.
(5) مجمع اللغة العربية، «المعجم الوسيط»، مكتبة الشروق، ط4، 2004، ج2، ص: 738.
(6) الفيومي، «المصباح المنير في غريب الشرح الكبير»، م س، ج2، ص504
- قطب مصطفى سانو، « معجم مصطلحات أصول الفقه» دار الفكر، دمشق سوريا، ط1، 2000، ص431.
(7) ابن فارس، «معجم مقاييس اللغة»، م س ، ج5، ص: 95.
(8) ابن منظور «لسان العرب»، م س، 3ج، ص: 353.
(9) نفس المصدر.
(10) نفس المصدر.
(11) ابن فارس، «معجم مقاييس اللغة»، م س، ج5، ص: 95.
- ابن منظور «لسان العرب»، م س، 3ج، ص: 353.
(12) سعيد حليم، «المقاصد العليا للشريعة الاسلامية»، مطبعة أميمة، فاس، ط1، 2010، ص: 19-20-21-22.
(13) نور الدين بن مختار الخادمي، «الاجتهاد المقاصدي: حجيته، ضوابطه، مجالاته»، كتاب الأمة 65، ط1، 1419 - 1998، ج1، ص: 48-49-50-51.
(14) نور الدين بن مختار الخادمي، «الاجتهاد المقاصدي: حجيته، ضوابطه، مجالاته»، م س، ج1، ص: 47.
(15) أبو حامد الغزالي، «المستصفى»، م س، ج1، ص: 174.
(16) أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي الملقب بفخر الدين الرازي، «المحصول في علم الأصول»، تحقيق طه جابر فياض العلواني، مؤسسة الرسالة، ط3، 1997 م، ج 6، ص: 165.
(17) العز ابن عبد السلام، «قواعد الأحكام في مصالح الأنام»، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة، ط2، 1991 م، ج 1، ص:10.
(18) محمد الطاهر ابن عاشور، «مقاصد الشريعة الإسلامية»، دار السلام-دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، ط4، 2009 ، ص : 55.
(19) نفس المصدر، ص : 163.
(20) علال الفاسي، «مقاصد الشريعة ومكارمها»، دار الغرب الإسلامي، ط5، 1993، ص : 7.
(21) أحمد الريسوني، «نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي»، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1995، ص : 19.
- أحمد الريسوني، «الفكر المقاصدي: قواعده وفوائده»، منشورات جريدة الزمن، كتاب الجيب9، مطعبة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1999، ص: 13.
(22) أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، «الموافقات في أصول الشريعة»، تحقيق عبد الله الدراز، دار الحديث، القاهرة، 2006، ج1 ص: 265.
(23) نفس المصدر، ج1 ص: 266.
(24) «مجموع الفتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية»، إدارة البحث العلمية، السعودية، ط2،1996، ج32، ص: 234.
- تاج الدين عبد الوهاب ابن السبكي، “(شرح المحلى ) البدر اللامع في حل جمع الجوامع»، تحقيق أبي الفداء مرتضى بن علي الداغستاني، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت لبنان، ط1، 2005، ج2، ص:241.
- أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، «البحر المحيط في أصول الفقه»، دار الكتبي، ط1، 1994، ج8، ص:86
(25) عبد المجيد عمر النجار، «مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة» منشورات دار الغرب الإسلامي، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، سنة 2008م، ص207.
|




