رسالة فلسطين
| بقلم |
![]() |
| أ. د. محسن محمد صالح |
| عقدة المقاومة وإسقاط الّنظريّة الصّهيونيّة الاستعماريّة |
لم يكن صمود المقاومة واستمرار أدائها القويّ، على مدى 23 شهرا مجرّد حالة تاريخيّة استثنائيّة، أو مجرد حدث يثير حيرة الخبراء العسكريّين والسّياسيّين، وإنّما أصبحت نموذجا يضرب جوهر الأيديولوجيّة الصّهيونيّة الاستعماريّة. حماس وقوى المقاومة صارت تشكّل عقدة لدى الاحتلال الإسرائيلي وآلته العسكريّة الهائلة المتوحّشة؛ إنّها عقدة رعب الفشل في إخضاع الآخر، ورعب سقوط بنية الأيديولوجيّة الصّهيونيّة القائمة على نزع الإنسانيّة عن الآخر واحتكار الضّحيّة، وبالتّالي تبرير مصادرة أرضه وقتله وتهجيره.إنّه الرّعب من انقلاب الصّورة حيث أصبح العالم أجمع يرى الصّهيونيّة بلا إنسانيّة، بينما ينتصر الفلسطيني في هويّته وقيمه وإنسانيّته وسلوكه الحضاري. إن خطورة هذا الأمر تكمن في أنّ نجاح المقاومة يفقد المشروع الصّهيوني أُسس جدليّته ومبرّرات وجوده.
العقليّة الفوقيّة وتقديس القوّة
يتماهى المشروع الصّهيوني مع المشروع الاستعماري الغربي في مسألتين جوهريّتين:
* عقليّة «التّفوّق» على الآخرين، ونزع الصّفات الإنسانيّة الأساسيّة عنهم، وتطبيق «الدّاروينيّة الاجتماعيّة» عليهم، من خلال «صراع البقاء» و«البقاء للأصلح» أو للأقوى؛ وبالتّالي إجازة كافّة أشكال الاستغلال والتّوحّش تجاههم.
* تقديس القوّة، وإعطاء من يملكها حقوق فرض تصوّراته وإرادته وهيمنته، باعتبار أنّ القوّة تصنع الحقّ، وهي تفرض معاييرها لما تسمّيه العدل أو الحرّية أو المساواة، أو حتّى في تعريف «الإنسان» نفسه؛ وأنّ ما لا يتحقّق بالقوّة يمكن تحقيقه بمزيد من القوّة!
في العقل الصّهيوني، العربيُّ عنصر منحط، ممثّل «للأغيار» أو «العماليق» بكلّ وحشيّتهم. فهو يستحقّ ما يحلّ به، وعليه أن يدفع ثمن الكوارث التي حاقت باليهود عبر التّاريخ. والصّهاينة يرون العربي متخلّفا ضعيفا جبانا شهوانيّا قابلا للإخضاع؛ وبالتّالي يتمّ تجريد العربي الفلسطيني (الضّحيّة) من إنسانيّته لتبرير التّخلّص منه. ويلفت نظرك تلك الثّقافة الإسرائيليّة الصّهيونيّة التي تتحدّث بشكل عادي عن قتل الفلسطينيّين ومصادرة أرضهم ومقدّساتهم وتهجيرهم، كما لو أنّه مجرّد سلوك إجرائي روتيني.
ويشترك في النّظرة الدّونيّة للفلسطينيّين (وللعرب والمسلمين) التّيارات الصّهيونيّة المختلفة؛ ويصف زعماء سياسيّون وقادة عسكريّون ومفكّرون صهاينة ورجال دين كبار، الفلسطينيّين والعرب بأوصاف تحقيريّة عديدة تنتقص من إنسانيّتهم، وتقدّم التّبرير الوقح لقتل الأطفال والنّساء والشّيوخ، وتدمير المستشفيات والجامعات والمدارس ودور العبادة.
كما تلاحظ أنّ المجتمع الصّهيوني بجماهيره وتيّاراته المختلفة منشغل بتحرير أسراه العشرين وبإشغال العالم كلّه بـ«معاناتهم»، بينما لا تكاد تجد بينهم أيّ تيّار حقيقي يأسف لقتل عشرات الآلاف من المدنيّين الفلسطينيّين، وتحويل حياة نحو 2.3 مليون فلسطيني في القطاع إلى «جحيم»، وتدمير بيوتهم وتهجيرهم؛ فالمعاناة الفلسطينيّة الهائلة غائبة عن قاموسهم.
إسقاط النّظريّة الصّهيونيّة
على مدى عشرات السّنوات تعامل الفكر الصّهيوني من خلال تلك العقليّة التي وجدت ما يبرّرها في انتصاراتها على الجيوش العربيّة، والهيمنة على المنطقة، وفرض مسارات التّطبيع، بل وحتّى الوصول إلى نتيجة مذهلة هي توقيع قيادة منظمة التّحرير الفلسطينيّة نفسها على اتفاقات أوسلو، متنازلة عن معظم فلسطين، وقبولها تشكيل كيان وظيفي يخدم الاحتلال، ويطارد قوى المقاومة. غير أنّ هذه العقلية اصطدمت بجدار غزّة، وتعطّلت مع حماس والقوى الإسلاميّة المقاومة.
بعد هجوم السّابع من أكتوبر/تشرين الأول، قرّرت القيادة الإسرائيليّة أن تأخذ المعركة شكل المعركة الوجوديّة: حماية الوجود الإسرائيلي واجتثاث وجود المقاومة؛ لأنّ الهجوم أسقط النّظريّة الأمنيّة الصّهيونيّة، وأثبت إمكانيّة هزيمة الاحتلال.
ما دام الصّهاينة قد أعلنوها معركة صفريّة وجوديّة، فقد وضعوا نظريّتهم وجوهر مشروعهم على المحكّ. كان هناك مزيد من القوّة، ثمّ مزيد من القوّة.. مزيد من المجازر.. مزيد من الدّمار، ومن تدمير المدمّر، دماء وأشلاء وأطفال ونساء وشيوخ وتهجير وحصار وتجويع.. لكن لا خضوع.
القوة الطاغية واجهتها مقاومة صلبة قويّة فعّالة شجاعة. المزيد من القوّة والوحشيّة أعطى نتائج عكسيّة: نماذج مقاومة بطوليّة أصبحت حديث النّاس والعالم.
لا يوجد في المخزون الذّهني الصّهيوني وتجربته حالة صمود مثل هذه. هناك إحباط صهيوني من عدم تحقّق انتصار بعد كلّ هذه المدّة الطّويلة… هناك خوف من سقوط النّموذج أو تصدّعه. كان ثمّة قياس خاطئ على أنظمة فاسدة مستبدّة هي نفسها حصيلة منتج غربي، أو على أمّة أمست غثاء كغثاء السّيل.
إنّ وقف هذه الحرب ليس كغيره من الحروب، لأنّ وقفها وانسحاب العدو وبقاء سلاح المقاومة، تعني لليكود وللصّهيونيّة الدّينيّة أنّ منظومة القوّة في فلسفة المشروع الصّهيوني ضُربت في صميمها. ولذلك سيسعون بكلّ الطّرق ألّا تنتهي الحرب دون نزع سلاح حماس، ودون تقرير مصير اليوم التّالي للقطاع؛ لأنّ صمود حماس وفرض إرادتها يعنيان بداية العدّ العكسي للمشروع الصّهيوني. وهذا يفسّر الشّراسة الصّهيونيّة وإطالة أمد المعركة، والإصرار على تغيير خرائط المنطقة.
التّفوّق الإنساني الفلسطيني
مجازر بشعة قتلت عشرات الآلاف من الضّحايا الأطفال والنّساء والشّيوخ، قابلها نماذج هائلة في الصّبر والاحتساب لحاضنة شعبيّة عانت الأهوال، لكنّها قدّمت أساطير عالميّة ملهمة في تحدّي العدو، وفي الانتصار في معركة الإرادة.
آلاف النّماذج التي كرّرت عهد الصّحابة والتّابعين، أصبحت أيقونات عالميّة ورموزا متألّقة في حركة التّاريخ. رمزيّة «التّضحية» ورمزيّة «الضحيّة» أصبحتا ترتبطان أكثر بالإنسان الفلسطيني. عشرات الملايين في العالم مثّل ذلك لهم حالة إلهام، وأخذ الكثيرون يدخلون في الإسلام.
غطرسة القوّة الصّهيونية لم تفضح فقط توحّشها وقيمها المزيفة ولا بكائيّاتها واحتكارها دور الضّحيّة، وإنّما أظهرت في المقابل أروع وأنبل ما في هذه الأمّة؛ أظهرت نموذجها الحضاري الإنساني الرّفيع وتراثها العريق، وأظهرت أصالة الإنسان العربي المسلم، المتجذّر في أرضه منذ آلاف السّنين. شهد الجميع أنّه ليس «حيوانا بشريّا»، وليس مجرّد «شيء» أو «مادّة حيويّة»، تُنزع عنه إنسانيّته ليُبرر قتله وشطبه.
ببساطة عندما ينسجم إنسان هذه المنطقة مع عقيدته الإسلاميّة وتراثه وحضارته ويستعلي بإيمانه، لا يعود غير قابل للإخضاع فقط، وإنّما يستعيد دوره الحضاري المحوري في ريادة البشريّة.
العقليّة الصّهيونيّة ممثّلة بالاحتلال الإسرائيلي قسّمت العالم إلى عالمين: حضاري وبربري، وجعلت نفسها ممثّلا للحضارة، ولكنّها سلكت سلوكا بربريّا متوحّشا، وصارت هي ذاتها أمام أعين العالم رمزا للعالم البربري.
المزيد من التّوحّش والتّدمير الصّهيوني كشف الضّحيّة الحقيقيّة، وأسقط فكرة «احتكار دور الضّحيّة» لدى الصّهاينة، وفتح المجال للعالم للخروج من «عقدة الهولوكوست»، وأضعف حالة الابتزاز الصّهيوني الدّائم للعالم بالمتاجرة بهذه العقدة. ولذلك، فإنّ حماس والجهاد الإسلامي وقوى المقاومة وغزّة وفلسطين انتصرت في معركة القيم.
أصبحت مغامرة الاستمرار الصّهيوني في محاولة إثبات النّظريّة، تعني الاستمرار في النّزيف العسكري والسّياسي والأخلاقي والإعلامي.. تعني مزيدا من السّقوط القيمي، تعني مزيدا من النّزيف الاجتماعي والاقتصادي، وتعني التّحوّل إلى حالة منبوذة عالميّا وإنسانيّا. لقد سقطت السّرديّة الصّهيونيّة.
لم يعد بالإمكان تسويق الرؤية الاستعماريّة الصّهيونيّة الغربيّة حول إنسان المنطقة الضّعيف الجبان المتخلّف. وإسقاط هذه الرّؤية يعني إسقاط مبرّر وجودها.
الخوف من انكشاف الحقيقة للعالم يفسّر استهداف الاحتلال الإسرائيلي للصّحفيين والإعلام وقتل 248 إعلاميّا، وهو أكبر معدّل قتل للصّحفيين في كلّ حروب التّاريخ الحديث؛ بل إنّه يزيد عن مجموع من قُتل من الصّحفيين في الحربين العالميتين: الأولى والثّانية، والحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة.
خلاصة
ثمّة قلق إسرائيلي من سقوط النّظريّة الصّهيونيّة الاستعماريّة، وسقوط منظومة الخداع المزيّفة التي شكّلها العقل الغربي حول العربي والمسلم والشّرقي. وهو سقوط يُبطل الأساس الذي تقوم عليه الصّهيونيّة في التّفوّق والقدرة على الإخضاع.. وهو سقوط مخيف؛ لأنّ مواجهته والاعتراف به يعنيان عمليّا أنّه لم يعد للصّهاينة مقام في هذا المكان.
وهكذا، فتوقّف الحرب قد يجر إلى انهيار المنظومة الأيديولوجيّة. والخيار الوحيد هو التوقّف والاعتراف المرّ بالحقيقة. وبالتّالي، ستكون هناك حالة إنكار إسرائيليّة، وحالة مكابرة، وعناد، وحالة هروب للأمام قد تطيل أمد المعركة أو تحاول توسيعها. ولذلك، فإنّ إنهاء المعركة (ما دام الاحتلال مصرّا على أنّها معركة صفريّة)، يتطلّب وقتا وجهدا وتضحيات كبيرة. |




