في الصميم
| بقلم |
![]() |
| نجم الدّين غربال |
| مَلاَمِحْ نِظَامٍ مَالِي قَوِيٌّ ومُنْصِفْ الجهاز المصرفي بين الواقع والمأمول |
تمهيد
ما بحثنا فيه من خلال مقالات سِتّ أولى من هذه السّلسلة هو ملامح نظام مالي قويّ ومُنصف في نفس الوقت، منطلقين من قناعة مفادها أنّهُ لن يكون كذلك ما لم يكن أساسه قويّا وإحاطته مُنصِفَة، ويستمدّ قوّته من قوّة المُسلّمات القائم عليها كما تكون إحاطته مُنصِفة، من إنصاف الأحكام المُنظّمة للعلاقات ضمن نظم ثلاثة بلورناها واعتبرناها صمّام أمان لذلك النّظام المالي المنشود، وهي نظام الكرامة ونظام التّعاون ونظام التّسخير والإستخلاف.
وقد قمنا في ما سبق من مقالات ببلورة ملامح النّظام المالي المنشود، الّذي نريده أن يكون قادرا على توليد المال بالحجم الّذي يتناسب مع نفقات احتياجات حياة النّاس وعيشهم، وقد عرضنا بِنْيَةٍ تصوّريّة كفيلة بتأطير ذلك النّظام ضمن تصوّر أصيل للإنسان ودوره في الحياة وموقعه في هذا الوجود وعلاقته به أيضا، وذلك سعيا منّا، بعد تحرير العقول من التّصوّرات المنحرفة، إلى إنارة العقول بتصوّرات بديلة للإنسان والحياة والوجود ككلّ وبيان قدرة ذلك التّصوّر، على المستوى النّظري على الأقل في التّأسيس لنظام مالي قوِيّ ومُنصف.
كما بيّنا أنّ محور النّظام المالي المنشود هو الانسان وتحقيق النّفع له، على نقيض السّائد الذي يتمحور حول المال، وأنّ دور النّظم الثّلاثة المكونة لذلك النّظام، هي حماية كرامة الانسان المسُتهدَفَة وبناء علاقة أخوّة وتعاون بين كلّ النّاس لتحقيق النّفع للجميع، وتشييد علاقة استخلاف بين الإنسان وما سخّر له في السّماوات والأرض والاستفادة منها، علاقة تقوم على الرّحمة، على نقيض التّطويع أو الاستنزاف وتضمن مكوث ذلك النّفع لكلّ النّاس.
هذه النّظم قادرة على إفراز إطار مُمَيّز لنظام مالي جديد نتجاوز من خلاله سيّئات إطار النّظام المالي المُهيمن المُتسبّب في ما آلت إليه أوضاع البشر من استضعاف، ويكون خيمة لاتفاقيّات قانونيّة أكثر إنصافا، وإيجاد منظمّات وجهات رسميّة وغير رسميّة فاعلة اقتصاديّا، تُسَّهِّلُ التّدفّق الدّولي لرؤوس الأموال بغرض الاستثمار والتّمويل التّجاري وكذلك التّمويل التّعاوني والتّكافلي.
وحتّى يرى النّظام المالي المنشود النّور على أرض الواقع أكّدنا على أنّه لابدّ له من تشريعات تُبنى على خلفيّة إيمانيّة وفلسفيّة تمنح واضعيه المُسلّمات والأحكام الّتي تُمكّنهم من تحديد المفاهيم والمبادئ ومن ثمّة تُحدّد لهم المحور والهدف من وضع القوانين الّتي بها يتمّ تنظيم علاقات الإنسان بعدّوه وعلاقته بالإنسان وعلاقته بما تمّ تسخيره له من مال. كما اعتبرنا أنّ تشييد النّظام المالي المنشود لا يكتمل إلاّ أوّلا، بأنماط تمويل كالتّمويل الجماعي والزّكاة والوقف(1)، وثانيا من خلال هياكل وأسواق ومؤسّسات، كالجهاز المصرفي البنكي (محور هذا المقال)، وصناديق الاستثمار (المقال القادم) وسوق المال (المقال الذي يليه)، وثالثا بمؤسّسات التّمويل الصّغير ومؤسّسات التّأمين ومؤسّسات الايجار المالي.
1 - مخاطر الجهاز المصرفي المهيمن
توجد حاجة ملحّة الى إعادة النّظر في النّظام المصرفي السّائد والمهيمن وذلك لما يحتويه من مخاطر ولما أفرزه من أزمات متعاقبة ما فتِئت تتكاثر وتعقّد الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة أكثر فأكثر، كأزمات الذّعر المصرفي وما يعنيه من تهافت المودعين على سحب أموالهم من البنوك وأزمات الكساد والتّضخم التي تلي الواحدة منها الأخرى، الى وقوع الأزمات التي تجمع الظّاهرتين معا في نفس الوقت، وأخيرا وليس آخرا الأزمة المصرفية لسنة 2008. ومن مظاهر تلك الأزمات، ندرة السّيولة وتعثّر القروض وأزمات الائتمان وعدم الاستقرار المالي والنّقدي، وما يفرزه من عدم استقرار النّظم الاقتصاديّة، ومن ثمّة عدم استقرار مكوّنات نظام حياة النّاس ومعيشهم ككل.
والمفارقة أنّ النّظام المصرفي والبنكي الذي وُجِدَ أوّلا للحفاظ على استقرار النّظام المالي ومن ثمّة استقرار النّظام الاقتصادي أصبح نظاما مولّدا لعدم الاستقرار، والذي وُجد ثانيا لتوفير احتياجات النّشاط الاقتصادي التّمويليّة أصبح عاجزا على القيام بهذا الدّور الحيوي.
وقد دخل العالم الغربي في عقد زمني سمّاه ميلز وبريسلي بـ«عقد اضطراب مصرفي لا سابقة له، إذ دخلت النّظم المصرفيّة في الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة وإسكندينافيا وشرق آسيا وروسيا واليابان في توتّر شديد، إن لم يكن إنهيارا».
وتُواجه البنوك التّقليدية، مخاطر جمّة، منها مخاطر تغير أسعار الأصول والأدوات المتداولة، ومخاطر الائتمان المتعلّقة بالقدرة على الوفاء أو المماطلة، ومخاطر صرف العملة، ومخاطر السّيولة مثل مخاطر تمويل السّيولة، ومخاطر تنضيض (تسييل) الأصول، ومخاطر التّشغيل المُتعلّقة بالحوادث أو الأخطاء البشريّة أو الفنّية أو المخاطر القانونيّة المتعلّقة بتنفيذ العقود والرّقابة على احترام مضامينها.
ويُعالج الفكر الغربي تلك المخاطر بمخاطر أشدّ فتكا وذلك عن طريق التّحوّط بالمشتقّات(العقود المستقبليّة ، الخيارات ،المقايضات) التي تقترن بالقمار، نظرا لما ثبت من «أنها من أسباب الأزمة الماليّة العالميّة، حتّى قال فيها بعض علماء الغرب بأنّها أدوات للتّدمير الشّامل، وقنابل موقوتة قابلة للانفجار في كلّ لحظة لأنها تقوم على أساس التّجارة بالخطر مستقبلا، وفصل القطاع المالي عن القطاع الحقيقي، حتّى صار الخطر سلعة، ووسيلة للمُقامرة والمُضاربة على الأسعار، وذريعة الى المزيد من التّقلّبات بدلا من تحقيق الاستقرار»(2) .
ولسائل أن يسأل عن السّبب وراء استمرار هذا النّظام رغم كلّ ما سبق ذكره، وهو سؤال وجيه تكمن الإجابة عنه ببساطة في الدّعم الحكومي له ولدور البنوك المركزيّة. وفي ظلّ ما تعانيه الماليّة العموميّة للحكومات عموما فإنّ ذلك الدّعم لا يمكن له أن يستمرّ الى ما لا نهاية، ممّا يُؤشر على حدوث أزمات مُقبلة أكثر إرباكا للنّشاط الاقتصادي وأكثر إيلاما للشّعوب.كما أنّ التجاء الحكومات الى البنوك المركزيّة لتمويل نفقات التّسيير يعرقل دور تلك البنوك الاستثماري ومن ثمّة تتعثّر عجلة الاقتصاد وتبرز الظّواهر المزدوجة من الرّكود والتّضخّم ممّا يُعقّد الوضع الاجتماعي للشّعوب أكثر فأكثر ويزيد الضّغوطات على الماليّة العموميّة ممّا يدفع أصحاب القرار الى التّداين وهو ما يفقد الدّول والشّعوب سيادتها على أصولها وثرواتها، فتصبح تابعة في استراتيجياتها وسياساتها، ومن ثمّة تفقد تدريجيّا حرّية أفرادها وكرامتهم.
2 - محدوديّة الجهاز المصرفي «الإسلامي»
ظهر التّمويل «الإسلامي» بمؤسّساته ومصادره ومُنتجاته وسجّل تطوّرا واستطاع أن يحتلّ موقعا في العالم الإسلامي خصوصا وفي العالم عموما، وقد اعتبر «ارنود دبرسن» في تقديمه لكتاب «الماليّة الإسلاميّة في عصر العولمة» لظافر سعيدان «أنّ الأزمة الماليّة العالميّة وضعت الماليّة التّقليديّة في موضع تساؤل خاصّة أمام الحاجة المتزايدة لاقتصاديّات العالم للتّمويلات اللاّزمة للحفاظ على مستوى معين من النّمو، والتّشغيل والتّجهيزات والبنى التّحتية، وكذلك أمام ما يعرضه تنامي الماليّة الإسلاميّة في العالم من فرص». وقد أجمع الخبراء على أن للماليّة الإسلاميّة موارد ماليّة ضخمة، تجاوزت سنة 2007 الـ 500 مليار دولار أي 20 مرّة أكثر ممّا كانت عليه منذ 20سنة.
من جهة أخرى ذكر «د. رفيق يونس المصري» مجموعة من العوامل لفتت انتباه الغربيّين للتّمويل الإسلامي وجعلتهم يلجؤون إليه، من بينها حصول وعي لدى العالم الغربي بأن السّلوك في معدّلات الفائدة من أهم العوامل المُخلّة بالاستقرار في الاقتصاديّات الرّأسماليّة وقد ذكره «ملتون فريدمان» ونعته بـ «السّلوك الطّائش الذي لم يسبق له مثيل في الاقتصاد الأمريكي» وكذلك إقرار بأنّ «الاقتصاد القائم على قروض بفائدة يحوّل الهيكل المالي السّليم الى هيكل ضعيف» على حدّ تعبير «مينسكي».
كما ذكر «د. رفيق» أنّ «محمد نجاة اللّه صدّيقي» ذكر في ورقته «لماذا المصارف الإسلاميّة؟» عدّة مساوئ للماليّة التّقليديّة من عدم كفاية التّمويل بالقروض وعدم عدالته، وأثره السّيّء على توزيع الدّخل والثّروة، وما يحمله في طيّاته من نزعة تضخّميّة، وتركّز للسّلطة، معتبرا «أنّ أخبث أثر من آثار الوساطة الماليّة القائمة على الفائدة هو خلق إقتصاد مُثقل بالقروض، مع ما لهذا من آثار اقتصاديّة واجتماعيّة ونفسيّة وسياسيّة خطيرة». وذكر محمد عمر شابرا في كتابه «نحو نظام نقدي عادل» أنّه «يُمكن أن نُؤكّد أنّ الفائدة من أهمّ العوامل المخلّة بالاستقرار في الاقتصاديّات الرّأسماليّة» مستشهدا بما طرحه «ملتون فريدمان» عندما سأل «ما أسباب هذا السّلوك الطّائش الذي لم يسبق له مثيل في الاقتصاد الأمريكي؟» وكان جوابه: «هو السّلوك الطّائش الموازي في معدّلات الفائدة».
وقد علت أصوات من هنا وهناك تدعو الى استبعاد الفائدة والأخذ بالمشاركة في الأرباح والخسارة وفقا للمبدأ الإسلامي في التّمويل كدعوة «محمد أنس الزرقا» حين قال:«إنّ استبعاد الفائدة والأخذ بالمشاركة في الأرباح والخسارة قد لا يُغيّر من مستوى عدم التّأكّد، لكنّه بالتّأكيد يُعيد توزيع آثار عدم التّأكّد على جميع أطراف المشروع» ولا يجعلها على كاهل الأضعف فقط.
كما أضاف أنّ «محمد نجاة اللّه صدّيقي» قد تحدّث عن طبيعة نظام التّمويل الإسلامي وآثاره باعتباره نظام قائم على المشاركة قائلا «لاريب أنّ نظام المشاركة الذي يحلّ محلّ نظام الفائدة يُحَوِّلُ العلاقة من علاقة مُقرِض ومُقترِض الى علاقة تشاركيّة لها آثار مختلفة».
وواقعا، وُجدت مؤسّسات متعدّدة ومتنوّعة محلّيا ودُوليّا للتّمويل الإسلامي، وقد اتجهت كبرياتها منذ وقت قريب، إلى تمويل المشاريع الكبرى، كمؤسّسة البنك الإسلامي للتّنمية والصّناديق الإسلاميّة، وتوجّهت أخرى الى تمويل القطاع المنظّم من مؤسّسات عموميّة وخاصّة وشركات كبرى ومتوسّطة كالمؤسّسة الإسلاميّة لتأمين الاستثمار والتّصدير والمؤسّسة الإسلاميّة للقطاع الخاصّ والمؤسّسة الدّوليّة لتأمين التّجارة والمصارف الإسلاميّة ومؤسّسات التّمويل الإسلامي والصّناديق الاستثماريّة الإسلاميّة ومؤسّسات التّكافل، دون أن تحظى المشاريع الصّغرى بنفس الاهتمام فأغفلت، كسابقاتها الفئات المحرومة والمهمّشة وحرمتهم من الانتفاع بخدماتها الماليّة بالمستوى المطلوب(3).
وفي تعريفه للمصرف الإسلامي ذكر رفيق المصري أنّه «ليس هو المصرف الذي ينتهي عن الرّبا وسائر المحرّمات فقط، بل هو المصرف الذي يعمل بالأوامر إضافة الى تركه النّواهي»، وتبعا لذلك نجد أن «معظم المصارف الإسلاميّة فيها مراقبة شرعيّة يقوم بها فرد أو هيئة» وتقوم بدور «التّحقيق الشّرعي في قانون المصرف ونظامه الأساسي وسائر نظمه وتعليماته وعقوده..» (4)
وقد لاقت المصارف الإسلاميّة في الواقع وعلى مستوى علاقتها بالمستثمرين صعوبات في تطبيق الشّراكة والمضاربة والتي أرجعها رفيق يونس المصري الى الجهل بالعائد ومحدوديّة الرّبح حيث قال «أنّ عائدها هو حصّة الرّبح، والرّبح لا يعرف الاّ بعد معرفة الإيرادات والنّفقات. والمستثمرون معرّضون لأن يربحوا قليلا، أو لأن لا يربحوا، أو لأن يخسروا، فيصبح عائد المصرف قليلا، أو منعدما أو سالبا(= حصّة من الخسارة). كما أنّ المستثمرين قد يلجؤون الى تزوير مركزهم المالي والتّحكّم بمقدار الرّبح والخسارة»(5) وأمام صُعوبات العمل بالقِراض(المضاربة) هذه، اتجهت المصارف، على حدّ ما ذكره د. رفيق يونس المصري الى المُبايعات والمؤجّرات إذ قال « إتّجهت المصارف الإسلاميّة الى العمل بالمُبايعات (عقود ناقلة للملكيّة) والمُؤَجّرات (عقود غير ناقلة للملكيّة). من هذه المُبايعات :البيع بالتّقسيط، حيث يُمكن شرعا، عند جمهور العلماء، أن تُباع السّلعة بزيادة في ثمنها المؤجّل لقاء الأجل، فالعلماء رأوا أنّ للزّمن حصّة من الثّمن، وهذه الزّيادة جائزة عند العلماء إذا كانت المبايعة بين إثنين: البائع والمشتري، وليس بينهما وسيط» (6)
وفي الجدول التّالي ما يعكس تحوّل وجهة المصارف الإسلاميّة من المشاركات الى المرابحات وذلك من خلال تدنّي نسب عقود المشاركة وارتفاع نسب عقود المرابحة.
اتّسعت اذا منتجات التّمويل الإسلامي لتشمل أساليب أخرى ذكرها رفيق المصري بالقول أنّ «ثمّة عدّة أساليب للتّمويل الإسلامي، نذكر منها: الشّركة، والمضاربة، والمرابحة، والاجارة التّمويليّة، والبيع الايجاري، وبطاقة الائتمان، وغيرها»(8) ومنها انبثقت عدّة عقود كمنتجات للتّمويل الإسلامي حاملة لأسماء تلك الأساليب.
لاحظنا كيف أن التّمويل الإسلامي بدا ينسلخ تدريجيّا من الصّبغة التّشاركيّة الى الصّبغة الرّبحيّة حين انتقل الاعتماد في التّمويل الإسلامي من منتج القِراض (المضاربة) وما يعنيه من أخذ أموال النّاس قِراضا وتقديمها الى غيرهم قِراضا أيضا، الى الاعتماد على منتج البيع (المرابحة) لينتقل بذلك «من المُشاركات والمُقارضات الى المُداينات». وأمام هذا التّحول، انقسم العلماء الى فريقين، الأول رأى أنّ المرابحة حافظت على تميّز الماليّة الإسلاميّة بالاعتماد على الاختلافات الجوهريّة للتّمويل بالمرابحة عن التّمويل بالقرض بالفائدة (العمود الفقري للماليّة التّقليديّة)، ويظهر ذلك جليّا من خلال الجدول التّالي (9):
أمّا الفريق الثّاني فيرى أنّ المصارف الإسلاميّة انتهجت، باعتمادها على المرابحة، طريق التّشابه مع المصارف التّقليديّة، مدعما رأيه بما ذهب إليه بعض الباحثين، حتّى بالنّسبة للودائع، من المطالبة بضمان هذه الودائع، ممّا يجعلها الى القرض الرّبوي أقرب منها إلى القِراض «المزعوم».
وقد وصل الحدّ بهذا الفريق الى القول بأنّه «مع شُيوع المُرابحات والإيجارات التّمويليّة، والتّورّق، والمُواعدات المُلزمة، وغرامات أو تعويضات المُماطلة، صار الخيط الفارق بين المصرفين الإسلامي والتّقليدي رفيعا جدّا، وربّما انقطع أو كاد»(10).
وأرجع «د. رفيق» ذلك الارتداد الى المصارف التّقليديّة بـ «عدم قيام المصارف الإسلاميّة منذ البداية على نظريّة واضحة ومُتكاملة، بل اعتمدت على المُبادرة والتّجريب، والتّجريب أخذ بها شيئا فشيئا صوب المصارف التّقليديّة»(11)
وبمُحاكاتها للبنوك التّقليديّة، تُواجه المصارف الإسلاميّة المخاطر نفسها التي تواجهها تلك البنوك منها مخاطر تغيّر الأسعار، كأسعار الأصول والأدوات المتداولة ومخاطر الائتمان المتعلّقة بالقدرة على الوفاء أو المماطلة ومخاطر صرف العملة ومخاطر السّيولة مثل مخاطر تمويل السّيولة ومخاطر تنضيض (تسييل) الأصول ومخاطر التّشغيل المُتعلقة بالحوادث أو الأخطاء البشريّة أو الفنّية أو المخاطر القانونيّة المتعلّقة بتنفيذ العقود والرّقابة على التّنفيذ فضلا عن مخاطر إضافيّة اذا انفردت عنها ببعض الخصائص، مثل المخاطر النّاشئة عن التّعامل بالمُشاركة والقِراض.
وهذا تحدّ آخر يُواجِهه الفكر الإسلامي في مجال الماليّة الإسلاميّة للنّظر في كيفيّة مواجهة هاته المخاطر خاصّة و«أنّ الخطر لا يُباع مستقبلا في الإسلام»
لاحظنا كيف أن التّمويل الإسلامي آخذ في الابتعاد تدريجيا من الصّبغة التّشاركية الى الصبغة الرّبحية وبذلك فهو ينسلخ رُوَيْدا رُوَيْدا من المقاصد الإسلاميّة ليكون الفقراء أوّل ضحايا هذا التّمشي ممّا يستوجب إعادة النّظر أيضا في الجهاز المصرفي الذي يلتحف الصّفة الإسلاميّة.
حتّى نلتقي
ما توصّلنا اليه هو خطورة النّظام المصرفي المهيمن ومحدوديّة النّظام المصرفي ذي الصّفة الإسلاميّة ممّا يؤكّد الحاجة الى إعادة النّظر في كليهما، إذا أردنا لنظام مالي بديل أن يسود بقوّته وانصافه.
وما تقدّم يدفع لمزيد البحث في الأسباب الحقيقيّة وراء إخفاق كلاّ النّظامين، وخاصّة البحث عن إجابة للسّؤال التّالي: «لماذا يكون المستفيدون دائما في كلا النّظامين قلة قليلة في حين أنّ السّواد الأعظم من النّاس محرومون من حقّهم الطّبيعي في المال حتّى يحافظوا على كرامتهم وحرّيتهم ورزقهم؟» خاصّة إذا انطلقنا من مسلّمة أنّ المال مال اللّه والنّاس، كلّ النّاس، مستخلفون فيه، وأنّ كلّ المال هو مسخّر لكلّ النّاس. وما تفرضه تلك المسلّمة من شراكة في الملكيّة كلّ حسب قدراته وحسب احتياجاته، الأمر الذي يُمهّد الى بلورة نظريّة نقديّة وماليّة جديدة تنطلق من رؤية لمحوريّة الإنسان في علاقة بالمال ومن رسالة إعمار الأرض وإعادة القيمة للحياة باعتبارها مجال اختبار للنّاس أيّهم أحسن عملا، حتّى يتحقّق وعد اللّه للنّاس في هذه الحياة بفتح بركاته من السّماوات والأرض ويرسل السّماء مدرارا ويمددهم بأموال وبنين ويجعل لهم جنّات وأنهارا، ويحيوا فيها حياة طيّبة ويحول بينهم وبين المعيشة الضّنكة.
الهوامش
(1) أنظر مقالاتنا الثلاثة بمجلّة الإصلاح: العدد 216 (جويليّة 2025) و 217 (أوت 2025) و 218(سبتمبر 2025)
(2) رفيق يونس المصري(2012)ص71 «التّمويل الاسلامي» دار القلم – دمشق - سورية
(3) انس الحسناوي(2018) «اشكاليات التمويل الاسلامي» ملتقى صفاقس الدولي للمالية الاسلامية 7/04/2018 تونس
(4) رفيق يونس المصري، «المصارف الإسلاميّة» دراسة شرعية دار المكتبي سورية، ص 8، 2009م
(5) م.ن، ص.ص 28-29
(6) رفيق يونس المصري، «التّمويل الاسلامي» دار القلم، سوريّة، ص 64، 2012م
(7) رفيق يونس المصري، «المصارف الإسلاميّة» دراسة شرعية دار المكتبي سورية، ص 35، 2009م
(8) م.ن ص 26
(9) Mabid Ali Al-Jahri et Munawar Iqbal Banques Islamiques : réponses à des questions fréquement posées – Institut Islamique de recherches se de formation, Banque Islamique de développement, document périodique N° 4 2001
(10) رفيق يونس المصري، «التّمويل الاسلامي» دار القلم، سوريّة، ص 69، 2012م
(11) م.ن ، ص70
|




