الأولى
| بقلم |
![]() |
| م.فيصل العش |
| في الذكرى الثّانية لطوفان الأقصى |
مهما يكن حجم الآلام التي نعيشها من جرّاء ما يحدث في ربوع فلسطين وحجم الخوف الذي نستبطنه عندما نفكّر في مستقبل القضيّة الفلسطينيّة التي تآمر عليها الصّديق قبل العدو، وحاصرها الأعداء من كلّ جانب بدعم مكشوف من عدّة دول غربيّة على رأسها الولايات المتّحدة الأمريكيّة وبسند من الحكام العرب بوجوه مكشوفة وأخرى مخفيّة، وبرغم حجم الدّمار والخراب الذي تسبّب فيه الصّهاينة لغزّة الأبيّة ولا يزالون، وبرغم وحشيّته ودرجة عنفه وجنونه، وقصفه العشوائي المستمر إلى يوم النّاس هذا، وما ترتّب عنه من قتل وتشريد وتجويع للغزّاويين المدنيّين الأبرياء من الأطفال والنّساء والشّيوخ طيلة عامين كاملين، وبرغم سعيه الحثيث للإبادة والتّهجير، الذي لا يتردّد في إعلانه أمام العالم أجمع. فإنّ الأمل مازال قائما مادامت ثقتنا في اللّه كبيرة أوّلا ثمّ في المقاومين الفلسطينيّين ثانيا، وإن قلّ عددهم مقارنة بحجم جيش العدوّ.
غير أنّه يحقّ لنا ، مع حلول الذّكرى الثّانية لطوفان الأقصى، والانطلاق في ما سمّاه العدوّ الصّهيوني بعمليّات جدعون 2، التي يهدف من خلالها تدمير ما تبقّى من مدينة غزّة وفرض التّهجير على سكّانها والقضاء على ما تبقّى من جيوب المقاومة، أن نضع ما حدث وما سيحدث تحت المجهر، وننظر إليه بمنظار يختلف عن منظار العديد من المحلّلين السّياسيين والعسكريين الذين يتغاضون عمدا أو بحسن نيّة عن عناصر أساسيّة للتّحليل السّليم، ربّما لعدم مادّيتها أو عدم خضوعها للقيس.
لن نقوم في هذا المقال بالاجابة على أسئلة تكرّر طرحها هذه الأيام من نوع هل أخطأت المقاومة في اختياراتها؟ وفي توقيت عمليّتها؟ أو هل تتحمّل المقاومة مسؤوليّة ما يحدث للشّعب الفلسطيني في غزّة من إبادة وتهجير؟ فليس من حقّنا أن ننتقد المقاومة أو نقوم بعمليّة التّقييم الآن، والحال أنّ المعركة متواصلة، تطبيقا لقوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(الأنفال: 45)، فعندما تكون المعركة متواصلة فإنّ على المقاومين الثّبات وعلينا التّثبيت.
سنحاول إذن، في الوقت الذي زَاغَتِ فيه الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، أن نبرز بعض النقاط الإيجابيّة لهذه المعركة، لعلّنا نخفّف من هذا الكابوس الذي جثم على صدورنا ونرفع من مستوى الأمل في النّفوس الحائرة. لكن قبل ذلك دعونا نذكّر أن الأحداث الكبرى على مرّ التّاريخ كانت دوما مصحوبة بالعديد من الإنجازات والخسائر، إذ لا يوجد فعل ما، مهما علا شأنه، اقتصرت تأثيراته وتداعياته على الإنجازات فقط، بل إن هناك جملة من الإخفاقات والخسائر المؤلمة رافقته أثناء حدوثه، وهو أمر طبيعي ولا يقلّل من كفاءة ذلك الفعل أو جدارته.
***
ينتظر العالم كلّه نهاية هذه الحرب لتحديد المنتصر فيها والمنهزم. وربّما ذهب الكثير من المحلّلين والسّياسيين إلى حسمها لصالح الكيان الغاصب نظرا لاختلال التّوازن العسكري بين الطّرفين، واعتماد العدوّ أساليب في قمّة الوحشيّة ضاربا بالقوانين والمواثيق الدّوليّة ومحرّماتها عرض الحائط، والدّعم اللاّمشروط من الولايات المتّحدة الأمريكيّة . أمّا نحن فقد حسمنا موقفنا منذ 7 أكتوبر 2023، واعتبرنا أنّ نصرا كبيرا قد تحقّق ليس للفلسطينيّين فحسب بل للأمّة الإسلاميّة جمعاء. وسيكبر هذا النّصر ويؤتي أكله كلّما استمرّ صمود الغزّاويين وثباتهم.
أهمّ إنجاز تحقّق بعد 7 أكتوبر هو نجاح «طوفان الأقصى» بشكل لا لبس فيه في إعادة الصّراع بين شعوب المنطقة وقواها الحيّة من جهة، وبين العدو الصّهيوني من جهة أخرى إلى وجهته الصّحيحة، التي حاول الكيان بمعيّة قوى الاستكبار العالمي وبعض الدّول العربيّة والإقليميّة خلال العقود الماضية إبعاده عن مساره الصّحيح. فكُبح مسار التّطبيع وتعطّل بعد أن كان يسير بخطى ثابتة وحثيثة، وعادت بذلك الرّوح إلى مبدإ «المقاومة» باعتباره الأداة الفعالة الصّحيحة لانتزاع حقوق الشّعب الفلسطيني ودحر الاحتلال، بعد أن ظنّ الجميع أنّه تلاشى واضمحلّ وانتهت صلوحيّته وأصبح التّطبيع مع الصّهاينة واقعا ملموسا ومصير كلّ الدول العربيّة والإسلاميّة.
غير أنّ هذه العودة لن يكتب لها الاستمرار ما لم تتلقفها النّخب العربّية والإسلاميّة، وتؤمن بها وتحوّلها إلى ثقافة تغرسها في الشّعوب. ففلسفة المقاومة لا تتضمّن التّصدّي للمعتدي عسكريّا فحسب، بل تتضمّن أيضا التّصدّي لكلّ مظاهر التخلّف والجهل ومظاهر الاستبداد والظّلم، والتّصدّي لمخطّطات الغرب في بثّ الفتن بين الشّعوب وزرع ثقافة الاستسلام والتّبعيّة.
إنّها لحظة تاريخيّة فاصلة سيكون ما بعدها مختلفا عمّا قبلها، والمؤسف أنّنا كعرب وكمسلمين لم ننجح في التقاط هذه اللّحظة، على الأقل لحد الآن، لتكون النّقطة التي ينطلق منها التّاريخ نحو تشييد حضارتنا من جديد، على حدّ تعبير مالك بن نبي -رحمه اللّه – لنبقى مع الأسف خارج التّاريخ.
***
الصّراع مع العدوّ الصّهيوني ليس الحرب العسكريّة التي تدور رحاها منذ عامين في غزّة فقط، فهذا وجه من وجوه الصّراع، ونتائجه لن تحسم الأمر لصالحنا أو لصالح العدوّ، بل هو صراع شامل في مختلف السّاحات الاقتصاديّة والسّياسيّة والثّقافيّة. وهو صراع لا يهمّ الفلسطينيّين لوحدهم وإنّما يهمّ كلّ من يؤمن بالقيم الإنسانيّة العليا ويدافع عنها. إنّها معركة بين ثقافتين متناقضتين في الأهداف والوسائل، ثقافة شيطانيّة مادّية أهدافها الهيمنة والابتزاز والسّيطرة على الثّروات، ووسائلها القتل والتّخريب والدّمار، والكذب على ذقون النّاس بشعارات لا تمتّ إلى الواقع بصلة، مع تشويه متعمّد ومتواصل للثّقافات المخالفة وخاصّة الثّقافة الإسلاميّة التي تقف في الطّرف المقابل بأهداف إنسانيّة نبيلة تحقّق قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...﴾(الحجرات: 13)، ووسائل ترتكز على القدوة الحسنة واحترام حقوق الإنسان والعدل، وتجسّد قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..﴾(النحل: 125).
الصّراع بين الحقّ والباطل وبين المستكبرين والمستضعفين ظاهره عسكري وباطنه ثقافي، وقد اعتمد الاحتلال بأشكاله وصيغه المختلفة المباشرة وغير المباشرة على أدوات ثقافيّة بعينها لتسهيل عمليّة اغتصاب الأرض وتبريرها، ثمّ ضمان استمراريته واستكانة الشّعوب المغلوبة، فمع اعتماده على ترسانات الأسلحة يعتمد العدو أيضا على ترسانة إنتاج ثقافي يوجّهها نحو تلك الشّعوب لاقناعها بقبول الهزيمة والاستسلام للتّبعية. وحيث ما ثمّ احتلال هناك مقاومة، وحين يكون ثمّة ثقافة احتلال فلا بدّ من وجود ثقافة مقاومة.
يتساءل البعض بحسن نيّة أو بهدف إحباط العزائم عن جدوى العمل الثّقافي سواء كان كتابة في الفكر والأدب أو مسرحا أو عملا سينمائيّا، وآلاف الأطفال والنّساء يموتون في غزّة إمّا بشظايا القنابل وإمّا جوعا وعطشا، أمام أعين عالم يدّعي التمدّن والحضارة، لا يحرّك ساكنا تجاه ما يحدث، بل يمدّ يد العون للمجرم ليزيد في تنكيله وفي بشاعة جرائمه. والرّأي عندنا أنّ أي عمل ثقافي في هذا الزّمن الذي نرى فيه «الشرّ المطلق» رأي العين واقعا حيّا، ضرورة بل واجب، لأنّ مقاومته لا تكون بالبندقيّة والقذيفة فقط بل بالقلم والكلمة، فالمقاومة المسلّحة لها رجالها، وهم يقومون بواجبهم على أحسن وجه، نسأل اللّه لهم النّصر والسّداد، لكنّها في حاجة ملحّة إلى ثقافة مقاومة تناصرها وتعزّزها وترسخها في الأذهان والسّلوك، مع الوقوف بحزم في وجه ثقافة الاستسلام والخنوع.
المعركة الثّقافيّة وإن لم يكن فيها قتال بالمفهوم العسكري، هي أشدّ وأشرس ويجب أن نتصدّى إليها ونعدّ لها عدّتها، ونزعم أنّنا من الخائضين فيها، فهل سنقدر على إدارتها بنفس الذّكاء والحنكة التي يدير بها المقاومون المعركة العسكريّة. هذا ما نأمله ونبحث عنه باستمرار، لأنّ نجاح المقاومة عسكريّا ضدّ الكيان الصّهيوني لن يحسم المعركة إلاّ بنجاحنا في المعركة الثقافيّة.
***
«طوفان الأقصى»، هكذا سمّى المقاومون القسّاميوّن عمليّتهم العسكريّة ضدّ الكيان الصّهيوني الغاصب، منذ عامين، وكأنّهم أرادوا تذكير العالم بالطّوفان العظيم، الذي أصاب قوم نوح، وأنّ طوفانهم يشبهه في الكثير من الوجوه من بينها:
- الايمان الكبير بالنّصر الذي كان حاضرا لدى القسّاميين كما لدى سيّدنا نوح، فلا غالب لمن يتوكّل على ربّ العالمين. كان القسّاميّون متيقّنين بأنّ النّصر آتٍ ولو طال زمن الحرب، والحقّ منتصر لاَ محَالَة، وهذا وعد اللّه وسنّته و﴿...لَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾(فاطر: 43).
- المدّة التي استغرقها التّحضير للطّوفان، فسيدنا نوح بقي سنين طويلة وهو يصنع الفلك بلا كلل ولا ملل، منتظرا نصر اللّه الموعود، وكذلك القساميّون فقد أعدّوا العدّة كما يجب من دون تسرّع وهم صابرون، فطوفان الأقصى ما كان وليد لحظته بل عمليّة نوعيّة احتاجت تحضيرا كبيرا وصبرا أكبر.
- أنّ ما بعد الطّوفانين لا يشبه البتّة ما قبلهما، فكما غيّر الطوفان الأول جغرافيّة الأرض، فإنّ طوفان الأقصى سيغيّر موازين القوّة. وكما كان نوح يلحّ على النّاس ويدعوهم إلى ركوب الفلك معه﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾(هود: 41)، كذلك القسّاميون، كانوا قبل عمليّة الطّوفان وبعدها يخاطبون أحرار العالم أن اركبوا سفينة الحقّ، فلا نجاة لمن لا يركبها، و﴿..لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ﴾ (هود: 43) فمن يعتصم بغير اللّه ويرفض ركوب سفينة الحقّ فسينتهي كما انتهى ولد نوح، وسيلفظه التّاريخ جيفة بعد نهاية الطّوفان. وها نحن نرى بأعيننا كيف يلتحق الآلاف المؤلّفة من أنحاء العالم بسفينة الحقّ يوميّا برغم تنكّر حكومات بلدانهم وانحيازها الفاضح للكيان الصّهيوني؟
ما حدث في ذلك اليوم وما بعده كان حقّا طوفانا، وما حدث في سوريا وما سيحدث في المستقبل القريب في عدّة مناطق من عالمنا الإسلامي لم يكن ليحدث لولا طوفان الأقصى، إنّها لحظةٌ تاريخيّةٌ حاسمةٌ في مصيرِ الأمّة الإسلاميّة، وليس فقط في تاريخ القضيّة الفلسطينيّة، بل هي لحظة سيكون لها تأثيرٌ كبيرٌ في تغيير خريطة العالم أجمع.
***
سنتان كاملتان من الصّمود في وجه الكيان الصّهيوني الغاصب، أثبتت خلالها المقاومة الفلسطينيّة أنّه باستطاعتها منازلة جيش هذا الكيان بنديّة والتّفوّق عليه رغم الفارق الكبير بينهما في القدرات العسكريّة المادّية، فالمقاومة ليس لديها من الأسلحة الكثير، إلاّ بعض الأسلحة المهرّبة أوالمصنوعة محلّيا نتيجة حصار دام أكثر من سبع عشرة سنة، وقد أجبرت في العديد من المناسبات على إعادة رسكلة بعض الأسلحة، كالقنابل التي استعملها الصّهاينة ضدّ الابرياء في غزّة ولكنّها لم تتفجّر، مقابل تكدّس الاسلحة ذات التكنولوجيّات العالية وأدوات التّدمير لدى جيش العدوّ عبر خطوط إمدادات عسكريّة مستمرّة من الولايات المتحدة الأمريكيّة والدّول الغربيّة شركائه الرّئيسيين في الجريمة.
لقد أثبتت المقاومة للعالم أجمع أنّ المعركة في الميدان لا تخضع إلى قانون يرتكز على عنصريّ العدد والعدّة وإنّما إلى عناصر أخرى غير مادّية كالإيمان والصّبر. سينتصر أخوتنا في غزّة وفي كلّ فلسطين، طال الزّمن أو قصر، لأنّهم مؤمنون بقضيّتهم، صابرون على ما أصابهم ومتوكّلون على اللّه القاهر الجبّار القادر على كلّ شيء. يقول تعالى:﴿اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: 128) وقال أيضا:﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 249)، وقال الحبيب محمد ﷺ: «..واعلم أنّ النّصر مع الصّبر، وأنّ الفرج مع الكرب، وأنّ مع العسر يسرا» وشِدّة البلاء هي مخاضُ ولادة النّصر بحول اللّه.
***
إنّ من أعظم الّنتائج الإيجابيّة لطوفان الأقصى سقوط السّرديّات التي اعتمد عليها الكيان لضمان بقائه وهيمنته على المنطقة وعلى السّياسة الدّوليّة، من بينها سرديّة الجيش الذي لا يُقهر، والدّولة التي لا تُغلب، وهي سرديّة عمل الكيان على إثباتها خلال العقود السّابقة بمساعدة حلفائه الدّوليين والإقليميين، وحاول تكريسها كحقيقة لا تقبل النّقاش. فقد انهارت هذه السّرديّة في ظرف زمني وجيز من طرف مئات من المقاتلين الذين لا يملكون إلاّ القليل من العتاد، وتبخّرت مع مرور الأيام رغم محاولات الكيان إنقاذ ما يمكن إنقاذه واسترجاع هيبته عبر جرائمه المستمرّة في حقّ المدنيين العزّل.
ولم تسقط سرديّة الجيش الذي لا يُقهر فحسب، بل وكلّ سرديات العدوّ الصّهيوني، وفي مقدمتها السّلام المزعوم والدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان، والعدالة الدّوليّة، والقانون الدّولي الإنساني، وكلّ تلك السّرديات التي مللْنا سماعها من الغرب الدّيمقراطي وأدواته على امتداد نصف قرن من الزّمن.
لقد كشف طوفان الأقصى خلال السّنتين الفارطتين للعالم حقيقة المستويين الأخلاقي والإنساني للكيان الغاصب، وإظهاره على صورته الحقيقيّة ككيان مارق ارتكب المئات من جرائم الإبادة الجماعيّة بحقّ المدنيّين الفلسطينيّين العزّل، من دون أيّ وازع من ضمير، ضاربا عرض الحائط بالمواثيق والمعاهدات الدّوليّة الخاصّة بحماية المدنيين في أوقات الحرب. كما كشف حقيقة الأنظمة الغربيّة وخيانتها للمبادئ والقيم التي قامت عليها، ممّا خلق - بقيادة عدد من المفكرين والفنانين والمشاهير والطلبة والجامعات- انتفاضة عظيمة لنسبة من المواطنين الغربيّين، تتزايد يوما بعد يوم، وتحرّرهم من الهيمنة الصّهيونيّة.
«الطوفان» تجسّد أيضا أمام أعين العالم في أروقة الأمم المتّحدة حين انسحبت أغلب الوفود الرسميّة المشاركة من قاعة الجلسات عندما همّ رئيس حكومة الكيان بإلقاء كلمته، كما عبّر عنه رئيس كولومبيا من المنصّة نفسها بصوت عال، داعيا إلى تكوين جيش عالمي لتحرير فلسطين ومحاكمة ترامب ونتنياهو كمجرمي حرب.
***
قد يتساءل البعض : «وماذا عن خطّة ترامب التي سيغتصب من خلالها الشّرعية من أصحابها، عبر إنشاء «هيئة وصاية» على غزّة برئاسته يسمّيها «مجلس السّلام»، يشكلها دون استشارة أو موافقة الشّعب الفلسطيني، ودون سقف زمني محدّد لانتهاء دورها. وبجرّة قلم، وبعد أكثر من مئة عام من المقاومة والثّورات والانتفاضات، يقرّر إلغاء مئات القرارات الدّولية في حقّ الشّعب الفلسطيني بتقرير المصير وبالعودة إلى أرضه وبإنشاء دولته المستقلة؟، أليست إعلانا بانتصار الكيان الصّهيوني وهزيمة المقاومة؟، أليست نتيجة سلبيّة كارثيّة لطوفان الأقصى؟»
خطّة «ترامب» ليست الأولى ولا الأخيرة التي يحاول من خلالها الكيان الصّهيوني وحليفته الرّئيسيّة الولايات المتّحدة الأمريكيّة- بخبث - قلب الطّاولة على المقاومة، والخروج من العزلة الدّوليّة التي أصبح عليها الكيان نتيجة جرائمه، هي محاولة تحميل قوى المقاومة مسؤوليّة استمرار الحرب والدّمار في غزّة ، وأنّها هي سبب تعطيل حصول الشّعب الفلسطيني على احتياجاته الأساسيّة، وتحاول أن تضعها في مواجهة البيئة العربيّة والدّوليّة. ولكنّها خطّة ستفشل كسابقاتها، وهي ليست توريطا للمقاومة بقدر ماهي توريط لترامب والأنظمة التي تصفّق له، لأنّ أغلب بنودنا غير قابلة للتّطبيق وخاصّة بند نزع سلاح المقاومة، ولعلّها من «مكر اللّه الخيّر» الذي سيعجّل بنهاية الكيان وتحقيق أهداف الطّوفان. ﴿..وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾(الأنفال: 30).
وسواء وافقت عليها «حماس» أم لم توافق، فإنّ المقاومة ستتواصل لأنّ المقاومة فكرة، والفكرة لا تموت خاصّة إذا كان أصحابها مؤمنين وعلى اللّه متوكّلين.
ختاماً، وبالرّغم من عدم تحقيق معركة «طوفان الأقصى» كامل أهدافها حتّى الآن، وبالرّغم من التّكلفة الهائلة التي دفعها الشّعب الفلسطيني من دم أبنائه، إلى جانب الخسائر المادّية غير المسبوقة، فإنّ المستقبل من دون أدنى شكّ، هو في صالح هذا الشّعب، وفي صالح المقاومة الباسلة التي عرّت الكيان وأظهرته على حقيقته، وفي صالح كلّ صوت حرّ يدافع عن الحقّ وعن العدل وعن إنسانيّة الإنسان. وستسير المقاومة بحول اللّه بكل ثبات نحو تحقيق انتصار تاريخي على «دولة» القتل والإجرام، انتصار قد يراه البعض من المثبّطين بعيد المنال، وأن موازين القوى الحالية قد لا تسمح بحدوثه، لكن صفحات التّاريخ تؤكّد أنّ التغلّب على الشّر وهزيمته ممكنة بل حاصلة لا محالة، وأنّ الأمر يحتاج مزيدا من الصّبر والثّبات والتّحمّل، وإلى تفويض الأمر كلّه للّه عزّ وجلّ، مهما ازدادت الصّعوبات، وتعاظمت التّضحيات.
نحن على أبواب تغيير كبير، ولادة من نوع خاصّ، كلّ الدّلالات تؤشّر على أنّ عجلة التّغيير بدأت في الدّوران، ولن تتوقّف قبل أن تتحقّق مشيئة اللّه،﴿...وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(يوسف: 21).
|




