نقاط على الحروف

بقلم
جلال صميده
القانون الجنائي في الإسلام
 قال تعالى:﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(البقرة: 179)
وضع الإسلام نظاما قضائيّا في الجنايات نصّ فيه على شروط كثيرة يجب توفّرها لمساءلة أي شخص على فعل اقترفه، ولا يمكن محاسبته ما لم تقم عليه الحجّة والبيّنة طبقا لهذه الشّروط، وبيّن أنّ القصد من هذا النّظام الحفاظ على الحياة واستمراها وأطلق سبحانه مصطلح «القصاص» الذي هو مرادف لكلمة «قانون» تقريبا إلّا أنّ المتأمّل يتبيّن له أنّه أكثر دقّة من كلمة «قانون»، فما معنى كلمة «قصاص»؟ وكيف تساهم هذه الأحكام في الحفاظ على الحياة؟ 
القِصاصُ لُغةً: مِنَ القَصِّ، وهو تَتَبُّعُ الشَّيءِ وقَصُّ أثَره، ومِنه اشتُقَّ القِصاصُ في الجِراحِ وغَيرِها (1) 
القِصاصُ اصطِلاحًا: هو أن يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، فإن قَتل قُتل، وإن جرح جرح(2) 
فالقصاص مرادف لكلمة القانون الجنائي(3) والقاعدة المعتمدة «الأصل في الذمّة البراءة» أو ما يعبّر عنه بـ «المتهم بريء حتى تثبت إدانته»، لذلك يجب التّأكّد من الإدانة والتّيقن منها، لأنّه – حسب الشّرع- لا يمكن إقامة حدّ قائم على شكّ أو عدم اليقين، ففي الحديث: «ادْفَعُوا الْحُدُودَ مَا وَجَدْتُمْ لَهُ مَدْفَعًا»(4). وقد حث الشرع على البحث عما يمكن أن يبرِّئ المتهم بكل وسيلة  قال ﷺ : «ادرؤوا الحد عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجاً فخلّوا سبيله، فإن الإمام لئن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة»(5). فالحدود تدرأ بالشبهات، ويحرص الإسلام على العفو حتى على من ثبت عليه الجرم حرصا منه على الحفاظ على النفس البشرية فالمقصد من أحكام القصاص حفظ الحياة كما بيّنت الآية: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(البقرة: 179)  
كما للعقوبة في الإسلام بعد قيمي أخلاقي تربوي فهي لم تشرع للانتقام وانّما لإصلاح الفرد والمجتمع لذلك منع الإسلام تتبع عيوب النّاس والبحث عن زلاتهم لأنّ ذلك قد يفسدهم، قال رسول الله ﷺ: «إنك إن تتبعتَ عوراتِ الناس أفسدتهم، أوْ كِدتَّ أن تُفسدَهم»(6).. وعنه ﷺ قال: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم»(7). فتتبع عورات النّاس والتّجسس عليهم واتهامهم وسوء الظّن بهم يؤدّي إلى إفسادهم، فإذا فُضح شخص بما قام به سرّا دفعه ذلك ليجاهر به وهذا يساهم في نشر الرّذيلة في المجتمع، فالأصلَ في الإسلام السّترُ على النّاس وعدم تتبّع عوراتهم، فالإسلام يحرص على حفظ الحرمات، فعن عبد الرّحمن بن عوف: أنّه حرس ليلةً مع عمر بالمدينة، فبينما هم يمشون شبَّ لهم سراجٌ في بيت فانطلقوا يؤمُّونه حتّى إذا دنَوا منه إذا باب مجافٍ على قومٍ لهم فيه أصواتٌ مرتفعةٌ، فقال عمر أتدري بيت من هذا؟ قال: لا.. قال: هذا بيت ربيعة بن أميّة بن خلف، وهم الآن شُربٌ فما ترى؟ قال عبد الرحمن: أرى أنّا قد أتينا ما نهى اللّه عنه، نهانا اللّه عزّ وجل فقال «وَلاَ تَجَسَّسُوا» ونحن قد تجسَّسنا، فانطلق عمر عنهم وتركهم. 
وجيء برجل لابن مسعود فقيل له هذا فلان تقطر لحيتُـه خمـرًا، فقال عبد الله h: «إنّا قد نُهينا عن التّجسّس، ولكن إن يظهر لنا منه شيءٌ نأخذه به»(8). فتعاليم الإسلام حريصة على سَتْرِ المسلم، وفي الحديث حثّ على أن يستر المرء على نفسه قال ﷺ: «أيّها النّاس.. قد آنَ لكم أن تنتهوا عن حدود اللّه، مَن أصاب من هذه القاذورات شيئًا فليستتر بستر اللّه، فإنّه مَن يُبدِ لنا صفحتَه نُقِمْ عليه كتابَ اللّه تعالى»(9) وكان النّبي ﷺ يَعيب على مَن يكشف السّترَ الذي ستره اللّه به فيجاهِر بما ارتكَبَ، فعن أبي هريرة عن رسول اللّه ﷺ قال: «كلّ أمتي معافى إلاّ المجاهرين، وإنّ من المجاهرة أن يعمل الرّجل باللّيل عملاً ثمّ يصبح وقد ستره اللّه عليه فيقول: يا فلان.. عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه ويصبحُ يكشف ستر اللّه عنه»(10)،  والأحاديث في هذا كثيرة: «من ستر مسلمًا ستره اللّه في الدّنيا والآخرة»، «من ستر أخاه المسلم ستر اللّه عليه في الدّنيا والآخرة» إلى آخر هذه الأحاديث. كما أنّ الرّسول ﷺ يحثّ على العفو والصّفح فيما كان من الحدود متعلقًا بحقوق العباد، قال ﷺ: «تعافَوا الحدود فيما بينكم»(11) ولكن إذا بلغ الأمر القضاء ووقع الجهر بالخطيئة وعلم بها النّاس فلابدّ من تطبيق القانون، لأنّ ترك ذلك يشجعهم على ارتكاب الممنوعات، والحديث صريح: «تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حدّ فقد وجب»(12). يقول أبو بكر الصديق: «لو أخذت سارقًا لأحببت أن يستره اللّه»، وعن عكرمة مولى ابن عباس h قال: سرقت عَيْبَة(13) لعمار- رضي الله عنه- بمزدلفة فوضع في أثرها حِقَّت(14) واتبعوا أثره حتى انتهوا إليه وهو يقلبها(15) فأخذها وتركه، فقيل كيف تتركه؟ قال: أستر عليه لعل الله يستر عليَّ (16). وحدث ذلك أيضًا مع ابن عباس وعمار والزّبير، فقال عكرمة لابن عباس: بئسما صنعتم حينما خلَّيتم سبيله، فقال ابن عباس h: لا أمَّ لك، أما لو كنت أنت لسرَّك أن يخلَّى سبيلُك(17).  
فستر النّاس وحسن الظّنّ بهم والحرص على سلامتهم وعدم مؤاخذتهم بمجرد الشّكّ هو منهج الإسلام، فلنقف وقفة قصيرة عند ثلاث جنايات نرى كيف عالجها الإسلام: وهي قتل النّفس والزّنا وشرب الخمر.
قتل النّفس
   قتل النّفس جريمة شنيعة وأشدّها القتل العمد (مع سابقيّة الإصرار والتّرصّد) وهما أمران مشدّدان للعقوبة لأنّ الجريمة وقعت بعد تخطيط مسبق وتصميم على ارتكابها، وأغلب التّشريعات تعاقب على هذه الجريمة بالقتل، وقد سعت الشّريعة الإسلاميّة إلى القصاص من القاتل، قال تعالى:﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ..﴾(البقرة: 179)، فالقاتل يُقتل. 
 وقد بيّنت الشّريعة أنّ هذه الأحكام إنّما شُرعت بغرض حفظ حياة النّاس فقال تعالى:﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(البقرة: 179)،  واعتبر الإسلام أنّ قتل نفس بشريّة واحدة كقتل النّاس جميعا، قال تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً﴾(المائدة: 32) 
يقول الشّيخ الطّاهر بن عاشور في التّحرير والتّنوير: «...في القصاص حياة لكم؛ فإنّ فيه ارتداع النّاس عن قتل النّفوس، فلو أهمل حكم القصاص لما ارتدع النّاس؛ لأنّ أشدَّ ما تتوقّاه نفوس البشر من الحوادث هو الموت، فلو علم القاتل أنّه يَسلم من الموت لأقدم على القتل مستخفّاً بالعقوبات ولو ترك الأمر للأخذ بالثّأر كما كان عليه في الجاهليّة لأفرطوا في القتل، فكان في مشروعيّة القصاص حياة عظيمة من الجانبين»
ولكنّ الشّريعة حثّت على العفو والصّفح والتّجاوز حرصا على الحياة ولو لقاتل، ولكن جعلت أمر إبقاء حياة هذا الإنسان مرتبطا بموافقة أهل القتيل، قال تعالى:﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ(البقرة: 178) 
فرغم فظاعة الجرم الذي هو القتل العمد تحث الآية على العفو عن القاتل ويحصل العفو عند موافقة بعض أولياء الدم فيسقط القصاص حتى وإن لم يرض البعض الآخر، فإذا عفا بعض أولياء القتيل تحل بدل القصاص الدّية (والدّية على العاقلة)(18). وقد حثّ القرآن على التّنازل عنها، قال تعالى: ﴿مَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ﴾(المائدة: 45)  أي من تنازل عن الدّية كان كفّارة لذنوبه. وقال:﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرهُ عَلَى اللَّهِ﴾(الشّورى: 40)، وقال اللّه تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ﴾(النحل: 126).
الإسلام بتقرير شريعة القصاص يحقّق العدل - فالنّفس بالنّفس – ولكن يحثّ على العفو رغم الجرم الفظيع ويجعل العلاقة بين الطّرفين قائمة على الأخوّة، قال تعالى: ﴿.. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ..﴾(البقرة: 178)    
 جريمة الزّنا
الزّنا هو وطء من لا يحلّ، وهو اعتداء على مؤسّسة الأسرة وعلى المجتمع، فهو من الجرائم التي تؤدّي إلى تفكيك المجتمع وضياع الطّفل ثمرة تلك العلاقة الآثمة. فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾(الإسراء: 32). وقد تكرّر ذكر هذه الجريمة في سور النّور والفرقان والمؤمنون(19). ولا يمكن اتهام شخص بالزّنا إلاّ بشهادة أربعة شهود! ويشترط في الشّهادة أن يقول «شاهدته يزني»، فالشّهادة يجب أن تكون يقينيّة ليس فيها شكّ أو ريب، قال تعالى: ﴿ لَّوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾(النور: 13)، وقال: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(النور: 4).  
وذهب الفقهاء إلى أنّ من شروط هذه الشّهادة أن تكون بمعاينة الفعل التّام، وأن تكون الشّهادة بالتّصريح، لا بالكناية والتّلميح. ورد في كتاب المغني لابن قدامة  «يشترط شهادة أربعة شهود أنهم رأوا الفعل ويصفون الزنا فيقولون رأينا فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة أو كالرشا في البئر»(20) والواقع أنه يصعب تحقيق هذا الشرط فلا يمكن لأربعة أشخاص أن يروا هذا الأمر لأنه يرتكب بعيدا عن أعين الناس فكيف لأربعة شهود أن يشهدوا على ذلك إلا إذا كان الفعل في مكان عام يرتاده الناس وفي هذا استخفاف بالمجتمع ونشر للرذيلة فيه. إن في اشتراط أربعة شهود والتنصيص على رؤية الفعل يتحقق فيه معنى الستر على عباد اللَّه تعالى، والحرص على حياة النّاس. وإذا لم يبلغ عدد الشّهود أربعة يقام عليهم حدّ القذف (الادعاء بالباطل) فعرض النّاس وشرفهم أولى أن يصان، وفي الحديث «الولد للفراش»(21) أي ينسب الولد للزوج حفضا للأعراض. رُوي أنّه شهد أربعة(22)على المغيرة بن شعبة بالزّنا فأكّد ثلاثة أنّهم رأوه يزني، وأمّا الرّابع(23) فلم يؤكّد وإنّما قال رأيت منظرًا قبيحًا، وما أدري أخالطها أم لا، فأمر عمر بجلد الثّلاثة حدّ القذف (24)  
في قصّة ماعز بن مالك عبرة فعَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهُ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ إِنِّي أَصَبْتُ فَاحِشَةً فَأَقِمْهُ(25) عَلَيَّ فَرَدهُ النَّبِيُّ ﷺ مِرَارًا (26) ... ولكن عند الرّجم فرّ مالك فلحقوا به وقتلوه فلمّا ذكروا ذلك للرّسول قال «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ» (27)...  ثم جاء رجل يقال له هزال فأخبر الرّسول بأنّه هو الذي دفع مالكا للاعتراف، فقال له الرّسول: « لو سترته بثوبك كان خيراً لك» (28)  
وقد أخرج الحاكم عن ابن عمر h أنّ رسول اللّه ﷺ بعد أن أقام الحدَّ على ماعز الأسلمي في قضيّة الزّنا المشهورة قام فقال: «اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى اللّه عنها، فمن ألمَّ- أي مَن تورَّط- في شيءٍ منها فليستترْ بسترِ اللّه، ولْيَتُب إلى اللّه، فإنّه مَن يُبدِ لنا صفحتَه- أي يعلن عن جريمته- نُقِمْ عليه كتاب اللّه» أي نُقيم عليه الحدّ (29). 
وكان ماعز بن مالك الأسلمي وقبل الاعتراف بين يدي رسول اللّه ﷺ قد جاء إلى أبي بكر الصّديق h فأخبره بأمره، قال له الصّديق: « هل ذكرت هذا لأحد غيري؟»  فقال: « لا»، فقال له أبو بكر: « فتب إلى اللّه واستتر بستر اللّه فإنّ اللّه يقبل التّوبة عن عباده، فلم تقرّره نفسه حتّى أتى عمر بن الخطاب h، فقال له مثل ما قال لأبي بكر، فقال له عمر مثل ما قال أبو بكر(30). وهذا يدللّ على أنّ الصّحابة قد أدركوا أنّ الأحكام لم يكن الغرض منها عقاب مرتكبها بقدر ما كان القصد حماية المجتمع، وهو ما يتفق مع قوله ﷺ :« مَن أصاب من هذه القاذورات شيئًا فليستتر بستر اللّه فإنّه مَن يُبدِ لنا صفحتَه نُقِمْ عليه كتابَ اللّه تعالى».
 وفي حادثة أخرى «جَاءَتْ امْرَأَةٌ(31)فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي فَقَالَ وَيْحَكِ ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَقَالَتْ أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ ترُدّني كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ»(32)(ولم يحصل في عصره ﷺ إقامة حدّ الزّنى إلاّ عن طريق الإقرار وذلك في هاتين الحادثتين ماعز، الغامديّة.) 
وروى عبد الرّازق جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنِّي وَأَدْتُ ابْنَةً لِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَدْرَكْتُهَا قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ فَاسْتَخْرَجْتُهَا، ثُمَّ إِنَّهَا أَدْرَكَتِ الْإِسْلَامَ مَعَنَا فَحَسُنَ إِسْلَامُهَا ، وَإِنَّهَا أَصَابَتْ حَدًّا مِنْ حُدُودِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ نَفْجَأْهَا إِلَّا وَقَدْ أَخَذَتِ السِّكِّينَ تَذْبَحُ نَفْسَهَا ، فَاسْتَنْقَذْتُهَا ، وَقَدْ خَرَجَتْ نَفْسُهَا فَدَاوَيتُهَا حَتَّى بَرَأَ كَلْمُهَا(33)، فَأَقْبَلَتْ إِقْبَالًا حَسَنًا ، وَإِنَّهَا خُطِبَتْ إِلَيَّ فَأَذْكُرُ مَا كَانَ مِنْهَا ، فَقَالَ عُمَرُ : «هَاهِ، لَئِنْ فَعَلْتَ لَأُعَاقِبَنَّكَ عُقُوبَةً»(34)  وفي رواية قال له عمرُ رضي الله عنه: أَتَعمِدُ إلى ما ستَرهُ اللهُ فتُبْدِيه! واللّهِ لئن أَخبَرتَ بشأنها أحدًا من النّاس لأَجعلنَّك نكالاً لأهلِ الأمصارِ، أَنكِحها نكاحَ العفيفةِ المسلمةِ(35). 
يتبيّن من هذه الروايات أنّ الشّرع يطلب من الزّاني التّستّر على فعلته والتّوبة الى اللّه، وهذا دليل على أنّ الغرض من العقوبة ليس التّشفّي في صاحبها. روى عن أبي هريرة h قال: « سمعت رسول اللّه ﷺ يقول: « كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ» (36). 
شرب الخمر
الخمر أم الخبائث وهي مذهبة للعقل الذى هو مناط التّكليف، وهو كلّية من كليّات الدّين، والمخمور قد يرتكب جرائم دون أن يعي بها، وقد حرمها اللّه وشدّد في ذلك ووصفها بالرّجس ومن عمل الشّيطان فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(المائدة: 90)
 وقال رسول اللّه ﷺ: «لعن اللّه الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها (37).  
يقول الجاحظ: أكثر ما يجب على المتطلّع إلى السّمو تجنب السّكر، لأنّ السّكر من الشّراب يثير النّفس الشّهوانيّة ويقوّيها ويحملها على التّهتك، وارتكاب الفواحش والمجاهرة بها، وذلك أنّ الإنسان إنّما يرتدع عن القبائح بالعقل والتّمييز، فإذا سكر عدم ذلك الذي كان يردعه عن الفعل القبيح، فلا يبالي أن يرتكب كلّ ما كان يتجنّب في صحوه». 
ولكن رغم التشنيع على شارب الخمر والتّأكيد في النّهي على معاقرتها لم يرد فيها حكم في القرآن ولا في السنّة وانّما التّعزير(39) وقد جلد رسول اللّه ﷺ شارب الخمر أربعين جلدة وكذلك أبو بكر وجلد عمر شاربها ثمانين وذكر ابنُ الأثير في «أُسد الغابة»  أنّ الصّحابي «نعيمان بن عمر» كان يشرب الخمر في زمن رسول اللّه ﷺ ، فيضربه النّبي ﷺ بنعله، ويأمر أصحابه فيضربونه بنعالهم ويحثون عليه التراب، فلمَّا كثر ذلك منه قال له رجل من الصّحابة: «لعنك اللّه»! فقال له النّبي ﷺ: لا تفعل؛ فإنّه يحب اللّه ورسوله! والسّؤال لماذا لم تنص الشّريعة على حكم قضائي على شارب الخمر. الجواب حسب رأيي أنّ الأحكام القضائيّة في الإسلام لم توضع لمعاقبة الأشخاص وإنّما لحماية المجتمع وتحصينه، فمن ارتكب معصية ولم يجاهر بها ولم يصل ضررها إلى غيره من النّاس لا عقوبة عليه وإنّما ليستتر بستر اللّه ويتوب من ذنبه وحسابه على اللّه. والله أعلم 
الهوامش
(1) يُنظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس (5/11)، والمصباح المنير للفيومي (2/505).
(2) حسن علي الشاذلي: الجنايات في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون ص 147 
(3) توحى الكلمة بالمساواة معاقبة الجاني بما جنى
(4) رواه ابن ماجة
(5) سنن الترمذي
(6) أبو داود
(7) أبو داود
(8) أبو داود والحاكم    
(9) الموطأ شرح الزرقاني باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا ج4 ص 234
(10) البخاري
(11) أبو داوود
(12) أبو داوود والنسائي
(13)  العيبة هي الوعاء الذي يضع فيه الرجل نفيس متاعه وثيابه
(14)  أي أسرع في أثرها بالناقة التي يركبها 
(15)  أي أمسكوا المسروق وهو في يد السارق 
(16) ابن أبي شيبة
(17) ابن حجر العسقلاني فتح الباري في شرح صحيح البخاري
(18) الدية هي مال يعطى لأهل القتيل تطييبا لخاطرهم بعد عفوهم عن القاتل وليست عوضا عن دم قتيلهم عن أبي هريرة hقال: اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النّبي ﷺ فقضى أنّ ديّة جنينها غرّةٌ، عبدٌ أو وليدة، وقضى بديّة المرأة على عاقلتها». وقد تكون الدّيّة مالا كثيرا يعجز القاتل وأهله عن الوفاء به، لذلك فرضت الشّريعة مساعدة الجاني في دفع الدّيّة إلى أهل المجني عليه وسمّوا هؤلاء بالعاقلة. ذهب الحنفيّة واللّيث بن سعد وسفيان الثّوري والزّهري: عاقلة القاتل هم أهل ديوانه، وهم الذين يشتركون معه في سجل واحد للجهاد إن كان مجاهداً، أو أهل حرفته إن كان صاحب حرفة، أو أهل صنعته إن كان صانعاً، أو أهل قريته إن كان مقيماً بها، فإن لم يكن له ديوان فعاقلته قرابته وكلّ من يستنصر بهم، فإن لم يكن له عاقلة فعاقلته بيت مال المسلمين.   
 
(19)  قال تعالى: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(  النور 2) وقال جل شأنه: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ﴾( الفرقان 68) وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ (  المؤمنون 5 - 7)
(20) ج 9 ص 65
(21) البخاري
(22) أبو بكرة ونافع بن الحارث بن كلدة الثقفي وشبل بن معبد بن عتيبة بن الحارث البجلي وزياد بن عبيد
(23) زياد بن عبيد
(24) البخاري
(25) الحد
(26) صحيح مسلم
(27) كان ماعزُ بنُ مالكٍ يتيمًا في حِجرِ أبي؛ فأصاب جاريةً منَ الحيِّ، فقال لهُ أبي : ائتِ رسولَ اللّه ﷺ، فأخبِرهُ بما صنعتَ؛ لعلّهُ يستغفرُ لهُ – وإنّما يريد بذلكَ رجاءَ أن يكون لهُ مخرجًا - ؛ فأتاهُ، فقال : يا رسولَ اللّهِ ! إنّي زنيتُ، فأقِم عليَّ كتابَ اللّهِ، فأعرضَ عنهُ، فعاد فقال : يا رسولَ اللّهِ ! إنّي زنيتُ، فأقِمْ عليَّ كتابَ اللّهِ، حتّى قالها أربعَ مرّاتٍ، قال رسولُ اللّهِ ﷺ: إنّك قدْ قلتَها أربعَ مرّاتٍ، فبمنْ ؟، قال : بفلانةٍ، قال: هلْ ضاجعْتَها ؟، قال : نعَم، قال : هل باشرْتَها ؟، قال : نعَم، قال : هل جامعْتَها ؟، قال : نعمْ، قال : فأمر بهِ أن يُرجمَ، فأُخرج بهِ إلى الحرَّةِ، فلما رُجِمَ، فوجد مسَّ الحجارةِ، فجزع، فخرج يشتدُّ، فلقيهُ عبدُ اللّه بنُ أُنيسٍ – وقد عجز أصحابُه - ؛ فنزع لهُ بوظيفِ بعيرٍ، فرماه فقتلهُ، ثمّ أتى النّبيَّ ﷺ، فذكر ذلك لهُ، فقال : هلاَّ تركْتموهُ ؛ لعلّهُ أن يتوبَ فيتوبُ اللّهُ عليهِ؟!(الراوي : نعيم بن هزال الأسلمي)
(28) في الموطأ عن ‌مَالِكٌ عَنْ ‌يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ ‌سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ؛ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللّهِ ﷺ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ. يُقَالُ لَهُ هَزَّالٌ: «يَا هَزَّالُ، لَوْ سَتَرْتَهُ بِرِدَائِكَ لَكَانَ خَيْراً لَكَ».
قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: فَحَدَّثْتُ بِهذَا الْحَدِيثِ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ الْأَسْلَمِيُّ، فَقَالَ يَزِيدُ: هَزَّالٌ جَدِّي. وَهذَا الْحَدِيثُ حَقٌّ.
(29) رواه الحاكم والبيهقي
(30) أخرجه مالك ، والنسائي  والبيهقي
(31) الغامدية 
(32) رواه مسلم  
(33) جرحها
(34)مصنّف عبد الرزاق  
(35)   مسند الفاروق لابن كثير ج 2 ص 131  
(36)رواه البخاري
(37) رواه أبو داود والحاكم   
(38) وهو ما بقضي به الحاكم اجتهادا منه