خواطر
بقلم |
![]() |
شكري سلطاني |
أثر البيداغوجيا وتأثير ها في حياة البشر |
تؤثّر البيداغوجيا، كعلم وفنّ التّربية والتّوجيه، في حياة الإنسان بطرق ظاهرة وأخرى خفيّة، فهي تُسهم في صياغة وعيه، وتحديد مساراته، وترسيخ اهتماماته وأوهامه وأحلامه. ورغم أنّها تُعرف غالبًا في سياق التّعليم المدرسي، إلاّ أنّ أثرها يمتدّ ليشمل المجتمع، والسّياسة، والفكر، والتّنشئة الثّقافيّة والدّينيّة.
إنّ البشر، بوعي أو بدونه، يُساقون وفق مناهج تربويّة متعدّدة، بعضها يهدف إلى البناء والتّطوير، وبعضها يسعى إلى الهيمنة والسّيطرة. لذا، فإنّ إدراك أثر البيداغوجيا في حياتنا أمرٌ أساسيٌّ لتحقيق وعي حقيقي وامتلاك زمام المصير بدلًا من أن نكون أدوات في أيدي الآخرين.
1. أثر بيداغوجيا المشروع: صناعة المستقبل بوعي
حياة الإنسان ليست سوى سلسلة من المشاريع، سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، فرديّة أم جماعيّة. والمشروع، في جوهره، هو تصوّر مستقبلي لما يسعى الإنسان لتحقيقه من أهداف، وهو يتطلّب نيّة، وتخطيطًا، وفعلاً منظّماً.
كيف تؤثّر البيداغوجيا في بناء المشاريع؟
يتمّ تشجيع التّخطيط الشّخصي والتّفكير النّقدي في المجتمعات التي تحرص على تنمية الأفراد، ممّا يجعل الإنسان قادرًا على توجيه مساره بوعي. على العكس، يُبرمج الأفراد في البيئات التي تعزّز الاتباعيّة والامتثال، على السّير في مسارات محدّدة دون تفكير، ممّا يحدّ من استقلاليتهم.
ويُنشأ الطّلاب في الأنظمة التّعليميّة التّقليديّة التي تعتمد على الحفظ والتّلقين، ليكونوا منفّذين للأوامر بدلًا من أن يكونوا مفكّرين مبدعين. أمّا في الأنظمة التي تعتمد على «التّعلّم بالممارسة»، فيتمّ تدريبهم على التّفكير الاستراتيجي، وتحمّل المسؤوليّة، واتخاذ القرارات.
كيف يتحرّر الإنسان من البيداغوجيا الموجّهة؟
- وعي الإنسان بأنّ المشاريع الحقيقيّة تنبع من ذاته وليس من إملاءات المجتمع.
- تطوير مهارات التّخطيط الذّاتي لديه، مثل تحديد الأهداف، ووضع خطط تنفيذيّة، وإدارة الوقت بفعاليّة.
- ممارسة التّفكير النّقدي عند تقييم الأفكار والمعلومات المطروحة أمامه.
2. أثر بيداغوجيا الخطأ: التّعلم من التّجربة بدلاً من الخضوع لها.
الخطأ ليس مجرّد فشل، بل هو جزء أساسي من التّعلّم. والإنسان يتعلّم عبر التّجربة، ويعيد بناء ذاته على أنقاض أخطائه. لكن المشكلة تكمن في النّظرة السّائدة إلى الخطأ باعتباره عيبًا بدلاً من كونه فرصة للنّمو.
كيف تؤثّر التّربية في التّعامل مع الخطأ؟
ينشأ الفرد في المجتمعات التي تعاقب على الأخطاء، خائفًا من التّجربة، ممّا يحدّ من إبداعه وتطوره. وفي المقابل، يصبح أكثر مرونة واستعدادًا لتحمّل المخاطر المحسوبة في البيئات التي تشجّع التّعلم من الأخطاء. ففي عالم الأعمال، نجد أنّ رواد الأعمال النّاجحين غالبًا ما مرّوا بتجارب فاشلة قبل تحقيق النّجاح. على سبيل المثال، طُرد «ستيف جوبز» من شركته «آبل» قبل أن يعود إليها ويقودها إلى القمّة مجدّدًا. وفي المقابل، نجد الموظفين في بيئات العمل التي لا تتسامح مع الخطأ، متردّدين، غير مبتكرين، ويعملون فقط لتجنّب العقاب وليس لتحقيق النّجاح.
فكيف يجعل الإنسان من الخطأ أداة للنمو؟
- تحليل الأخطاء بدلاً من الشّعور بالإحباط منها.
- الاستفادة من الأخطاء كدروس عملية لتحسين الأداء في المستقبل.
- تطوير عقليّة النّمو (Growth Mindset) التي تعتبر الفشل جزءًا من التّعلّم وليس عائقًا.
3. أثر البيداغوجيا البنائيّة الاجتماعيّة: كيف تتشكّل معارفنا؟
المعرفة ليست مجرّد تراكم معلومات، بل هي بناء مستمر من خلال التّفاعل مع البيئة والمجتمع. فالإنسان يكتسب رؤيته للحياة من خلال تجاربه الشّخصيّة، ولكن أيضًا من خلال تأثيرات الثّقافة، والعائلة، والدّين.
يُعيد الإعلام تشكيل قناعات الأفراد من خلال الرّسائل المتكرّرة (المناهج الخفيّة في تشكيل الوعي). والأنظمة التّعليميّة تغرس قيمًا محدّدة قد تكون داعمة للاستقلاليّة أو مُكرّسة للامتثال. أمّا الخطاب الدّيني والفكري قد يكون مُحرّرًا للعقل أو مُقيّدًا له، حسب طريقة تقديمه. ففي المجتمعات التي تُقدَّم فيها حرّية التّفكير كقيمة أساسيّة، ينشأ أفراد قادرون على تحليل المعلومات واتخاذ قرارات مستقلة. وفي المقابل، يصبح الأفراد، في البيئات التي تُزرع فيها ثقافة الطّاعة العمياء، مبرمجين على قبول الأفكار دون تمحيص.
فكيف يُحقّق الإنسان استقلاله المعرفي؟ وكيف يعي بوجود مناهج خفيّة تحاول توجيه فكره وسلوكه؟ وكيف يٌطوّر مهارات التّفكير النّقدي لديه لمساءلة المعلومات والمعتقدات. الجواب يكمن في بحث الإنسان عن مصادر متنوعة للمعرفة بدلاً من الاعتماد على مصدر واحد والتقيّد بفكر وأراء احادية المنزع والقصد.
إن إدراك أثر البيداغوجيا في حياة الإنسان ليس مجرّد ترف فكري، بل هو ضرورة لتحرير الذّات من القيود غير الواعية. وعلى كلّ فرد أن يسأل نفسه: هل أنا أفكّر وأتصرّف بناءً على قناعاتي الحقيقيّة، أم أنّني موجّه دون وعي؟ وكيف أتعلّم من أخطائي وأحوّلها إلى خطوات تطويريّة؟ وما مدى تأثير البيئة والمجتمع في تشكيل رؤيتي للحياة؟ فالإنسان الذي يدرك هذه الأمور يصبح فاعلًا في حياته، لا مفعولًا به، قادرًا على توجيه مستقبله بدلًا من أن يكون أداة في أيدي الآخرين.
4. البيداغوجيا بين التعليم الطوعي والقسري:
كيف يتعلم الإنسان خارج أسوار المدرسة؟
يُنظر إلى البيداغوجيا غالبًا باعتبارها نظامًا يُمارس داخل المؤسّسات التّعليميّة، لكن الحقيقة أنّ الإنسان يتعلّم باستمرار، سواء كان ذلك باختياره أو رغمًا عنه. فالمجتمع هو المدرسة الكبرى، حيث يخوض الإنسان تجارب تكوّن وعيه وتصقل شخصيّته، ويتلقّى دروسًا من الحياة عبر محطّات الابتلاء والنّجاح، ومحن الدّهر وتقلّباته.
هذا التعلم قد يكون طوعيًا، ناتجًا عن سعي الإنسان لاكتساب المعرفة وتنمية ذاته، أو قسريًا، حين تفرض عليه الظّروف والتّجارب أن يتكيّف معها ويستخلص الدّروس. وبين هذين النّمطين، تتشكّل شخصيّة الفرد وتتحدّد رؤيته لنفسه وللعالم.
أ__ التعلّم الطّوعي: الإنسان في رحلة البحث عن المعرفة
التّعلّم الطّوعي هو المسار الذي يختاره الإنسان بإرادته، بدافع الفضول أو الحاجة أو الطّموح. وهو يشمل مختلف أشكال المعرفة، من القراءة والتّجربة إلى التّأمّل في أحداث الحياة.
مصادر التّعلم الطّوعي في المجتمع:
* المطالعة والبحث: المعرفة لم تعد حكرًا على المدارس والجامعات، فبفضل الثّورة الرّقميّة، فقد صار بإمكان أيّ شخص أن ينهل من علوم شتّى، شرط أن يمتلك مهارة التّمييز بين المعرفة الحقيقيّة والمضلّلة.
* التّجربة والممارسة: لا شيء يعلّم الإنسان أكثر من الممارسة. الحِرَف، الفنون، وحتّى العلاقات الاجتماعيّة. كلّها مجالات يتعلّم فيها الإنسان من خلال الفعل المباشر والتّكرار.
* التأمّل والتّفكّر: قد يكون التّعلّم الطّوعي صامتًا، حين يتأمّل الإنسان نفسه وحياته، ويدرك قوانين الوجود من خلال التّدبّر والتّفكير العميق.
فكيف يتعلم الإنسان طوعًا؟
* الشّاب الذي يقرّر تعلّم البرمجة أو لغة جديدة خارج إطار المدرسة، مستفيدًا من الدّورات الإلكترونية والممارسة المستمرة.
* الفرد الذي يخوض تجربة العمل الحرّ، فيتعلّم من احتكاكه بالسّوق والمجتمع مهارات التّفاوض والإدارة وتجاوز الفشل.
كيف يعزّز الإنسان تعلّمه الطّوعي؟
* تطوير عادة البحث والقراءة النّقدية.
* خوض تجارب جديدة وعدم الخوف من الفشل.
* التأمل في الأحداث وربطها بقوانين الحياة.
ب__ التعلّم القسري: دروس الحياة التي لا يمكن تجنّبها.
إذا كان التّعلم الطّوعي اختيارًا، فإنّ التّعلّم القسري هو القدر الذي يفرض نفسه. فالحياة لا تترك الإنسان دون دروس، بل تعلّمه من خلال الأحداث التي يمرّ بها، سواء كانت صعبة أم سهلة.
تتمثل أشكال التّعلم القسري في :
* الابتلاءات والمحن: الألم والفقدان والتّحديات الصّعبة تجبر الإنسان على إعادة النّظر في قناعاته، وقد تدفعه نحو نضج فكريّ وعاطفيّ لا يمكن تحقيقه عبر الكتب وحدها.
* تجارب الفشل والنّجاح: لا أحد يخرج من تجربة فاشلة كما دخلها، إذ تجبره على إعادة حساباته وتصحيح مساره.
* الاحتكاك بالمجتمع: من خلال التّعامل مع الآخرين، يتعلّم الإنسان دروسًا عن الثّقة والخيانة، وعن الحبّ والخذلان، وعن المسؤوليّة والحرّية.
فكيف يتعلم الإنسان قسرًا؟
* شخص يفقد وظيفته بشكل مفاجئ، فيضطرّ إلى إعادة بناء حياته المهنيّة من الصّفر، ويتعلّم دروسًا في الصّبر والتكيّف مع الأوضاع الجديدة.
* شخص يواجه خيانة صديق مقرب، فيتعلم أن لا يمنح ثقته بسهولة، ويدرك قيمة التّوازن بين حسن الظّنّ والحذر.
كيف يستفيد الإنسان من التعلم القسري؟
* بدلًا من مقاومة التّغيير، عليه أن يتقبّله ويتعلّم منه.
* البحث عن الحكمة في كلّ تجربة يمرّ بها.
* تطوير المرونة النّفسيّة لمواجهة صدمات الحياة.
ج__علاقة الإنسان بزمانه ومكانه: التّعلم في سياق البيئة والتّاريخ
الإنسان ليس كيانًا معزولًا، بل هو جزء من منظومة أكبر تشمل زمانه ومكانه وثقافته. وتأثير هذه العوامل في تعلّمه لا يقلّ أهمّية عن تأثير المدرسة والأسرة.
كيف يؤثّر الزّمان والمكان في التّعلّم؟
* السّياق الثّقافي: الفرد الذي ينشأ في مجتمع يشجّع على التّفكير النّقدي والتّعبير الحرّ يكتسب مهارات التّحليل والاستقلاليّة الفكريّة، بينما في المجتمعات التي تسود فيها التّلقينيّة، قد يجد صعوبة في كسر القيود الذّهنيّة.
* الظّروف الاقتصاديّة والسّياسيّة: قد تفرض الأوضاع الاجتماعيّة أنماط تعلم معيّنة، فمثلًا، في الأزمات، يتعلّم الإنسان فنون التّأقلم والبحث عن حلول غير تقليديّة.
* التفاعل مع المحيط الطّبيعي: من يعيش في بيئة زراعيّة يكتسب معارف حول الطّبيعة ودورات الحياة، بينما يتعلّم من ينشأ في مدينة صناعيّة أنماطًا أخرى من التّنظيم والابتكار.
فكيف يتعلم الإنسان من زمانه ومكانه؟
* شخص نشأ في بيئة فقيرة، فتعلّم مهارات الاكتفاء الذّاتي، وطوّر قدرته على تدبير موارده بشكل عملي.
* فرد عاش في بلد متقدّم، فاكتسب ثقافة النّظام والانضباط والتّخطيط طويل الأمد.
كيف يستفيد الإنسان من بيئته؟
* وعيه بتأثير مجتمعه على تفكيره وسلوكه، وتقييمه له بموضوعيّة.
* استثمار مزايا بيئته بدلًا من التّركيز على سلبياتها.
* الاستفادة من تجارب الأمم والحضارات الأخرى عبر الاطّلاع والانفتاح.
د_ البيداغوجيا كمسار حياة :
إنّ التّعلّم ليس مجرّد مرحلة تنتهي بالتّخرّج من المدرسة، بل هو مسار ممتد طوال العمر. فالإنسان بين خيارين: إمّا أن يكون واعيًا بمصادر تعلّمه، فينتقي منها ما يبني شخصيّته ويحرّر فكره. أو يكون مجرّد متلقٍّ سلبيّ، يتشكّل وعيه وفق ما تمليه عليه الظّروف والمجتمع.
البيداغوجيا الحقيقيّة ليست فقط تلك التي تُمارس داخل الفصول الدّراسيّة، بل هي كلّ تجربة يمرّ بها الإنسان، وكلّ فكرة يتبنّاها، وكلّ موقف يختبره. إنّ إدراك هذه الحقيقة هو الخطوة الأولى نحو التّعلّم الواعي، حيث يصبح الإنسان سيّد نفسه، لا أداة في يد الآخرين.
|