قبل الوداع
بقلم |
![]() |
علي عبيد |
فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ |
يقول اللّه عزّ وجل في سورة البلد : ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ(11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ(13)أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍِ(16)﴾. تعالج هذه الآيات الكريمة قضيّة الحرّية والعدالة الاجتماعيّة، فعبارة «اقتحام العقبة» يعادلها في المصطلحات الحديثة عبارة «التحدّي» وعبارة «فكّ رقبة» تعادلها عبارات «محاربة الفقر والجهل والقضاء على البطالة بإحداث مواطن شغل والإحاطة الاجتماعيّة والصّحيّة لمختلف طبقات المجتمع وخاصّة الأيتام والمساكين»، فمن يرفع التّحدّي ويكسب الرّهان يستحق أن يفتخر بالانتساب إلى بلده ويدافع عن إنتمائه له. وهذا ما تؤكّده الآيات الواردة في مقدّمة السّورة :﴿لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ(1)وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ(2)﴾.وبالرغم من إجماع المفسّرين على أنّ «هذا البلد» هو مكّة المكرّمة، فإنّنا إذا أخذنا بعين الاعتبار مبدأ «العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب»، وطبقنا العبارة المأثورة « اقرأ القرآن وكأنّه عليك أنزل»، لنعيش مع آيات هذه السّورة ونتفاعل معها كأنّما أنزلت علينا، فإنّنا نستنتج أن خطاب اللّه في هذه السّورة موجّه لكلّ إنسان مهما كان البلد الذي يسكنه والوضع الاجتماعي الذي يعيشه. وهو في هذه السّورة يقدّم الوصفة الصّحيحة للانتماء للبلد ﴿وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ﴾ والاعتزاز بذلك في الدّنيا، و الفوز بالجنّة في الآخرة.
يخاطب اللّه كل إنسان في كل البلدان ويضعه أمام الأمانة التي خلق من أجلها وتحمّلها رغم إشفاق السّماوات والأرض والجبال منها:﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾(الأحزاب:72). فلكي يقوم الإنسان بواجبه ويؤدّي الأمانة التي حملها ويعتزّ بالانتساب لبلده فلا بدّ أن يرفع التحدّي بعد ما يختار أقوم السّبل ويقتحم العقبة. وأي عقبة؟ ﴿ فَكُّ رَقَبَةٍ(13)أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍِ(16)ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ(17) أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِِ(18)﴾ فسبيل النّجاح يتطلّب عزيمة قويّة وتضحية بالغالي والنّفيس لضمان الفوز بالجنّة. أمّا الذين لم يقتحموا العقبة واكتفوا برفع شعار «حبّ الوطن من الإيمان» ولم يساهموا في محاربة الفقر والجهل وفك رقاب المستضعفين من أسر البطالة ومساعدتهم على نوائب الدّهر، باعتبار انّ ذلك ليس من مهامهم بل هي مهام الحكّام ومؤسسات الدّولة، فهم ﴿ ...أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةٍ(19)عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ(20)﴾.
وعلى عكس ما يتصوّره كثيرون في العالم الإسلامي من أنّ آداء المناسك الدّينية، مثل الصّلاة، والصّوم، والسّفر لأداء العمرة أو الحجّ، وغير ذلك من المناسك والطّقوس، هي الضّامن لمرضاة اللّه والدخول إلى الجنّة في الآخرة، فإنّ القرآن لم يعط ضمانا على الإطلاق بدخول الجنّة لمن يمارسون هذه الطّقوس،وإن كانت مطلوبة وواجبة على كلّ مؤمن ومؤمنة، بل ربط رضاء اللّه والفوز بالجنّة باقتحام العقبة.
ولكي أدعّم هذا التفسير لهذه السّورة العظيمة أضرب مثلا بتجربة العلاّمة الصّفاقسي الشّيخ علي النّوري الذي عاش حياته مجاهدا متحدّيا الفقر ومتقدّما في درجات تحصيل العلم انطلاقا من مسقط رأسه مدينة صفاقس ومرورا بجامع الزّيتونة بتونس العاصمة ووصولا إلى جامع الأزهر أين تحصّل على أعلى المراتب العلميّة. كان بإمكانه أن يبقى في القاهرة ويعيش حياة الرّفاهيّة بحكم المرتبة العلميّة التي بلغها، لكنّه كان واعيا بمعنى «اقتحام العقبة»، فاختار العودة إلى بلده صفاقس ليقتحم العقبة متحدّيا كلّ صعابها، فأسّس زاويته الخاصّة انطلاقا من مسكن والده، لا ليعلّم تلامذته الطّهارة وسنن العبادات وفروضها فحسب، بل ليصنع رجالا يجمعون بين العلم وحبّ الجهاد، فيساعدوه في اقتحام العقبة، فالتف حوله أهل بلده وشاركوه دعوته للجهاد وخاصّة محاربة القراصنة الصّليبيين الذين كانوا يأسرون أبناء البلد ويسترقّونهم ويبيعونهم في سوق النّخاسة بمدينة جنوة الايطاليّة.
أنشأ الشّيخ علي النّوري أسطولا بحريّا لمحاربة الفقر والبطالة وردع العدوان الصّليبي، فنجح نجاحا باهرا وكسب الرّهان بتحرير مواطني بلده من الرقّ من جهة وضمان العيش الكريم لهم عبر الاسترزاق من الصّيد أو العمل بورشات النّجارة وصنع السّفن من جهة أخرى من دون أن يترك مهامه في تعليم تلامذته علوم الدّين. وقد تواصل جهده لمدّة أربعين سنة فعمّ الخير بلده كلّه. ورغم أنّه لم يتحمّل أية مسؤوليّة سياسيّة من المسؤوليّات التي يمكن أن تسند لمثله، فقد نجح نجاحات لم يستطع تحقيقها كلّ الحكّام الذين عاصروه وتحمّلوا الأمانة ولكنّهم لم يؤدّوها على الوجه المطلوب. |