فقه المعاملات

بقلم
الهادي بريك
من فقه المعاملات المالية في الإسلام الحلقة 12 : المعاملات المالية الإفتراضية
 ظهرت منذ سنوات عملة « البيتكوين» وغيرها. وشُغل النّاس كثيرا بالتّسوّق الشّبكيّ وبالمعاملات الماليّة الإفتراضيّة بسبب سيادة الفضاءات الإلكترونيّة وما تتيحه من يسر وسرعة وعدم الكشف عن الهويّة الحقيقيّة، وما تتيحه كذلك من سبل الغشّ والخديعة. وكعادتنا مع كلّ جديد يتهافت صنفان منّا تهافتا عجيبا : يتهافت كثيرون للسّؤال عن الشّرعيّة الدّينيّة لهذه المعاملات، وكثيرون منهم لا يحتاجون إلى ذلك، ولكنّه الفراغ القاتل. ويتهافت بالتّوازي مع ذلك كثيرون من المتقلّدين للقب الإفتاء - بحقّ وبغير حقّ - على حشر أنوفهم فيما لم ينضج بعدُ وتتّضح معالمه وفيما لا يحسنون. 
خلاصة لما وصلت إليه جهود الرّاسخين المحترمين
في هذا النّوع الجديد من المعاملات
أ- يختلف الحكم على تلك المعاملات بحسب تكييف العروض الافتراضيّة (هل هي عملة أم سلعة؟). إذا كانت سلعة (وكلّ تعامل مشروط دون ريب بحلّية السّلعة نفسها. إذ المحرّم قطعا لا يباع ولا يشترى ولا يُهدى ولا يُمتلك) فهي تحت الإباحة العامّة الأوّليّة (وأحلّ اللّه البيع وحرّم الرّبا). أمّا إذا كانت عملة - أو تقوم مقام عملة -  ففيها نظر، لأنّ ولوج الرّبا في العملة أيسر. وليس الرّبا المحرّم قطعا عدا بيع عملة بنفسها أو بغيرها من العملات ولكن بزيادة عفوا من مخاطرات المضاربة التي تحتمل الرّبح والخسارة معا وعلى طرفي العقد معا. 
الخطوة الأولى هنا هي إذن تكييف البضاعة الافتراضيّة (سلعة أو خدمة أو عملة) والتحقّق من مجال عملها :  هل هو في الأصل محرّم أم مباح.
ب- وجود هيئة حكوميّة أو غير حكوميّة تضمن المال، إذ بدون وجود مؤسّسة تضمن أمن تلك المعاملة نسقط فيما لأجله تشدّدت الشّريعة كلّ تشدّد في تحريم المعاملة، وهو عنصر الغرر أو الجهالة. المعتبر هو الغرر الكثير، إذ القليل لا مناص منه في كلّ معاملة، وهو مغفور بسبب عدم القدرة على تجنبه.
بسبب الغرر والجهالة فحسب وردت عشرات الأحاديث النّبويّة الصّحيحة محذّرة من التّعامل، وذلك بغرض حفظ كرامة الإنسان التي لا تُحفظ بدون حفظ ماله، وهو قوام حياته. ولكن وقع تبنّي التّعامل الافتراضيّ من بعض الدّول ومن بعض كثير من المؤسّسات الدّوليّة سيّما العابرة للقارّات. وتواضعت كلمة المتخصّصين هنا - تخصّصا ماليّا معاصرا - على أنّ العملات الافتراضيّة تكتسح السّوق، وهي مرشّحة في غضون عقود قريبات إلى السّيادة والهيمنة. ولكنّ الذي يهمّنا هو وجود هيئة تضمن أمن المعاملة أن يقع العملاء في أسر الغرر الكبير أو جهالة مواصفات السّلع.
وحتّى تُستكمل معالم هذه المعاملات الجديدة فإنّ ما ذُكر آنفاً كاف لجعلها مباحة، إذ نحن محكومون بقاعدة هي الأكبر « الأصل في المعاملات هو الإباحة وليس الحظر». إلاّ من آثر الإستبراء لدينه وعرضه فهو يبتعد عن الشّبهات فهذا شأنه الخاصّ، وهو هنا يفتي لنفسه وليس لغيره. 
رعاية المتغيّرات :
بحسب تجربة فردية فإنّ أعسر ما يمكن أن يحيط به طالب علم في زماننا هذا هو العلم بالمجال الماليّ، إذ هو الحقل الوحيد الذي يكون فيه المسلم محاسبا عن كسبه وعن إنفاقه معا من جهة. ومن جهة أخرى يتطلّب هذا إطّلاعا واسعا على الفقه الماليّ المعاصر والذي يسود كلّ شبر في الأرض، وهو ثمرة سيادة المنزع الرّأسماليّ. في حين أنّ كثيرا من جوانب الحياة الأخرى لا تتطلّب ذلك. ويكفي - في العادة وليس دوما - العلم بالحكم الدينيّ فيها. ومن جهة ثالثة بسبب ضمور شديد حوّل « ماليتنا الشّرعيّة الدّينيّة» إلى قفار لا تكاد تظفر فيه بشيء يعالج المشكلات المعاصرة. ومن ذا فإنّ من يتصدّى لمعالجة المشكلات الماليّة المعاصرة بمعيار شرعيّ صحيح ليس هو كلّ من حاز علما شرعيّا فحسب، ولكن من أحاط بالشّريعة والمعاملات الماليّة المعاصرة معا، وعدد هؤلاء أندر من النّدرة. 
العمل في مؤسّسات ربويّة :
من أمثلة التّهافت الذي يغشى حياتنا الدّينيّة حصول ما يشبه الإجماع من لدن المتصدّين للإفتاء بدون أجهزة علميّة كافية على حرمة العمل في المصارف الرّبويّة حتّى من الذين قضوا سنوات طويلات من زهرة شبابهم طلبة في هذا التخصّص. ماذا نفعل بجيش من هؤلاء وخلفهم جيوش من الأطفال والنّساء؟ نفتيهم بكلّ بلادة وجهالة بترك العمل في المجال الذي لا يحسنون غيره. وليس هناك في السّاحة الدّينيّة أقرف من الدّخلاء المتسلّلين الذين يجهلون عن فقه الواقع كلّ شيء. وليس فقه الواقع عدا الشّرط الثّاني لصحّة الفتوى. 
هذا الجيش من الإطارات المتخصّصين في المصارف الرّبويّة يمكن أن يكونوا ثروة كبرى بسبب العلم والتّجربة معا لإدارة المصارف الإسلاميّة ومختلف المؤسّسات الماليّة غير الرّبويّة. ذلك هو الأفق الصّحيح الذي به ينظر إليهم، وليس إحالتهم على البطالة والعطالة والتّسوّل. 
خلاصات هذه السلسلة :
يمكن حوصلة خلاصات لهذه السلسلة «من فقه المعاملات الماليّة في الشّريعة الإسلاميّة» بما يأتي :
1 -  القوّة الماليّة للأفراد والأسر والمجتمعات مطلب إسلاميّ أصيل يتكافل مع قوى أخرى (روحيّة وقيميّة ومادّية) لأجل أن تكون الأمّة في مكانها الأصليّ الطّبيعيّ (خير أمّة أخرجت للنّاس) وليس (فتنة للذين كفروا ). نحن اليوم أجدر النّاس بحسن وعي هذا، إذ جنى علينا ضعفنا ما جنى.
2 -  الشّريعة الإسلاميّة لم توضع مطلقا لتعويق القوّة الماليّة كما يظنّ كثيرون ويغذّي ذلك الدّخلاء عليها. ولكنّها وضعت لغرضين كبيرين : أوّلهما تحرير الإنسان من الفقر والجوع والخوف و«اليد السّفلى» التي تعني الخضوع والرّكوع لغير اللّه والتّبعيّة للعدوّ، وثانيهما تحرير الإنسان من عبادة طاغوت المال والسّجود تحت أقدام زينة الدّنيا. 
3 -  جاءت الشّريعة بكثير من السّياسات الماليّة لأجل تحرير المجتمعات من أيّ طغيان محتمل من الدّولة التي تتشوّف - طبيعة -  إلى التّغوّل. من ذلك نظام الزّكاة كما رأينا، ونظام التّوريث كما مرّ بنا كذلك، ونظام الأوقاف والأحباس الذي ظلّ يحصّن الأمّة حتّى عندما إنحرفت نظم الحكم. ولذلك كان أوّل عمل من العدوّ الذي إحتلّ أرضنا - ومن أذياله الذين إستخلفهم علينا - هو هدم نظام الأحباس وتقويض أركانه. لو لزمت مجتمعاتنا تلك المؤسّسات الثّلاث فحسب (نظام الزّكاة ونظام المواريث ونظام الأوقاف) لتحرّرت ماليّا وتأبّت عن المقايضات المذلّة.
4 -  لا شيء في الدّنيا كلّها يوري الحروب ويهدم المجتمعات أكثر من المال. ولذلك جاء التّفصيل فيه من الشّريعة محكما. هذا السّلطان الأكبر (المال) كفيل بجعل الإنسان حرّا بقوّته (إذ لا حرّية لمقهور مستضعف) عندما يحسن معالجته، وهو كفيل بجعله عبدا مستعبدا مسترقا مخزيا ذليلا. 
5 -  الأصل في التّعاقد الماليّ بكلّ صوره وهويّات عملائه هو المشروعيّة الدّينيّة. ولذلك إمتلأت الحقول العامّة في الشّريعة بالكليّات وليس الجزئيات، وبالمعالم وليس النّصوص الشّرعيّة، وذلك لفسح المجال في وجه المسلمين لعمارة الأرض. ولكنّ الغالب على مدوّنتنا الفقهيّة - وخاصّة المعيشة المسموعة وليس الموثّقة - هو الإتّجاه المضادّ، أي التّحريم والمنع. 
الأسباب معروفة، وهي آثار الإنقلاب المبكّر جدّا على الشّرعية السّياسيّة للأمّة من لدن الأمويّين وضمور الإجتهاد الفقهيّ (أصولا وفروعا معا) في تلك الحقول الماليّة والسّياسيّة وغيرها، وأثرا لذلك تورّم فقهنا العقديّ حتّى أضحت مدوّناته تُخرج النّاس من الإسلام والحال أنّ القرآن والسنّة يدخلانهم إليه بكلّ يسر وسلاسة. كما تورّم فقهنا التعبّديّ حتّى أضحت المذاهب دينا مقدّسا لا يقبل مراجعة. وظلّ التّقليد الأعمى يكرّ علينا كرّا عجيبا حتّى انقلبت فينا تلك القاعدة الأصوليّة العظمى من (الأصل في العقود الإباحة) إلى (الأصل فيها الحظر). 
6 -  كما حرصت الشّريعة في الحقل العام - وليس في الحقول المغلقة، أي العقائد والعبادات - على إباحة ما لا مناص منه للنّاس من عقود ومعاملات بحسب تجربتهم حتّى لو كان الأصل فيه هو المنع وخاصّة سدّا للذّريعة، وهي على وجه الدقّة والتّحديد هنا (الغرر والجهالة وما يفضي إلى أكل أموال النّاس بالباطل)، والأمثلة على ذلك كثيرة. وممّا مرّ بنا منها بيع السّلم وبيع العرايا. وهل أبيحت عقود الإجارة نفسها - وما في حكمها ممّا لا يمكن ضبط المستَهلَك فيها - عدا لحاجة النّاس؟ ولكن طغى سدّ الذّريعة في عامّة فقهنا طغيانا قاسيا أفضى إلى إقتراف ما يغضب اللّه. أي تحريم ما أحلّ اللّه. 
7 -  هجر النّاس - بأثر من انحراف من يفتيهم -  مُحكمين كبيرين جاءت بهما الشّريعة. وأفضى ذلك إلى ضيق شديد ظنّه النّاس دينا من الشّريعة، وليس هو كذلك، إنّما تشدّدات ممّن أردته غزوات التّاريخ صريعا ظنّا منه أنّ التّجربة التّاريخيّة - وليس الخلافة الرّاشدة - هي الأسوة. المحكم الأوّل هو (وأحلّ اللّه البيع وحرّم الرّبا) ومعناه الأوّل ومقتضاه الأعظم هو إلغاء بيع النّقد بالنّقد عينا بعين زائدة عليها في الكمّ، إمّا توافقا إبتدائيّا من طرفي العقد أو نسيئة بسبب العجز عن الأداء. أيّ أنّ الشريعة تضع تلك الجاهليّة القديمة التي يتساوى فيها المال مع مضاربة المضارب في حظوظ الرّبح والكسب فحسب. فإذا أفلس المضارب فإنّ صاحب المال مضمون له ماله وربحه. الحكمة من هذا جليّة لا تحتاج إلى كلمة واحدة. وتضع الشّريعة بديلا عن ذلك القهر إشتراكهما معا (صاحب المال وصاحب المضاربة) في حظوظ الكسب والخسارة معا. كلّ معاملة فيها بيع بأيّ صورة - عفوا من حقل محرّم ومن غشّ وخديعة وقهر - هي بيع حلال فلا مجال فيه إلى ربا. وكلّ معاملة فيها مقايضة نقد بنقد على نحو يلد النّقد نقدا بدون ولوج منطقة المضاربة ومخاطراتها هي ربا. ذلك هو المحكم الأوّل الذي يفرّق كلّ تفريق بين صور البيع والربا. ومن ذا فإنّه في الأصل العامّ - إلاّ إستناءات قليلة تعالج من أهلها - كلّ بيع لا يدخله الرّبا، وكلّ ربا لا يدخله البيع. 
المحكم الثاني هو الحديث المتّفق عليه (لا ربا إلاّ في نسيئة). كيف نركله بأرجلنا؟ هوى فحسب ممّن لا يعلمون، ولا يعلمون أنّهم لا يعلمون. ربا الفضل ليس هو الرّبا المحرّم إبتداء تحريما قطعيّا مقاصديّا. إنّما هو سدّا لذريعة التّرابي فحسب. هكذا حقّق الرّاسخون من مثل الأئمة شلتوت وإبن عاشور وغيرهم كثير ممّن تجاهل الدّخلاء المعاصرون على حرفة الإفتاء. الخلاصة هي جرّ الأمّة إلى تشدّدات مغلظة في قضيّة الرّبا على نحو إستوى فيه - جهلا وهوى - ربا النّسيئة مع ربا الفضل، أي الوسيلة مع المقصد، والمحرّم لذاته مع المحرّم لغيره، والقطعيّ مع الظنّيّ، وغير ذلك ممّا يدوس معالم العلم والتّفقه دوسا. 
فلا مناص إذن من فريضتين :
1 - فريضة الإجتهاد - بأدواته العلميّة المعروفة وفي مجالاته الموضوعة لذلك - لأجل ملء الفراغ التّشريعيّ الإجتهاديّ في معاملاتنا الماليّة (إنشاء وإنتقاء معا)وتجاوز مرحلة الضّمور القاسية المؤلمة التي حوّلت الشّريعة في عيون مسلمين بالملايين - سيما من خرّيجي المعاهد الحديثة - إلى « مسيحيّة جديدة» لا شأن لها بالمجال الماليّ. 
2 -  فريضة تنقية الإفتاء في الشّأن الماليّ من أنصاف المتعلّمين والدّخلاء الذين لا تسعفهم بضاعتهم حتّى لو كانت في كلّ المجالات الدّينيّة الأخرى جيّدة بسبب أنّ الإفتاء في الحقل الماليّ المعاصر معقّد، إذ هو يتطلّب علما واسعا ومعرفة بالمعاملات الرّبويّة نفسها. أمّا التّشدّد فيحسنه كلّ أحد كما قال سفيان الثّوريّ قبل قرون طويلات.