في محراب الأدب
بقلم |
![]() |
د.حسن الأمراني |
محمود درويش يغرف غرفة من القرآن |
محمود دروش من أكثر الشّعراء استثمارا للقرآن الكريم.
وإن هو كان قد زلّ في طريقة التّعامل مع كتاب اللّه جلّ وعلا، في مرحلته الأولى، وساير ما كان شائعا عند اليسار من انتهاك لقدسيّة النصّ القرآني، كما هو الشأن في قصيدته: التّسجيليّة: «مديح الظّل العالي»، التي تعود إلى عام 1983، فإنّه ما لبث أن استقام على الطّريقة، واستثمر القرآن العظيم بشكل إيجابي.
وقد سبق لي أن بيّنت الطّريقة الأولى، في دراستي عن قصيدته الطّويلة: «حالة حصار»، كما بيّنت الطّريقة الثّانية، عندما وقفت على ديوانه: «لماذا تركت الحصان وحيدا؟».
وأريد الآن، أن ننظر في قصيدته «سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا» ليتبيّن بعض ذلك، وذلك لخصوصيّة هذا القصيدة.
فمن خصوصيّة هذه القصيدة أنّها خطاب لسرحان بشارة سرحان، وهو فلسطيني مسيحي، اتهم باغتيال روبرت كينيدي، وحكم عليه بالسّجن المؤبّد، وهو ما يزال أسيرا حتى اليوم، رغم أنّ الوقائع أثبتت أنّه، وإن كان من أطلق الرّصاص، إلاّ أنّه ليس القاتل.
ومع أنّ سرحان مسيحي، لم يتوكّأ درويش في قصيدته على الإنجيل، بل اعتمد على القرآن الكريم.
تفتتح القصيدة بهذا المقطع:
«يجيئون،
أبوابُنا البحرُ، فاجأنا مطرٌ. لا إله سوى اللّه. فاجأنا
مطرٌ ورصاصٌ.
هنا الأرضُ سُجّادةٌ، والحقائب
غربهْ!»
فكلمة التّوحيد: (لا إله إلاّ اللّه)، هي شهادة المسلمين، واللّه تعالى يقول: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ (محمد: 19)
وقول درويش: «هنا الأرض سجّادة»، تعبير إسلامي، من الحديث الشّريف: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا».
وفيها يقول أيضا:
«وتناسل فينا الغُزاةُ تكاثر فينا الطّغاة. دم كالمياه.
وليس تجفّفه غير سورة عمّ وقبّعة الشرطيّ
وخادمة الآسيوي. وكان يقيس الزمان بأغلاله
سألناه: سرحان عمَّ تساءلت؟»
فاستعارة لفظ (سورة عمّ) محقّقة للمراد، فهو يأخذه حرفيّا. ثمّ إنّ الشّاعر يتحدّث عن «الغزاة» وعن «الطّغاة» الذي يتكاثرون، ويجعلون الدّم يجري كالمياه، وإنّنا في «سورة عمّ» نقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا﴾ (عم: 21-22)
وهذا يعني أنّ الشّاعر يتوعّد الطّغاة والغزاة بمصيرهم المشؤوم في جهنّم، وأنّ من نجا منهم من نيل جزائه في الدّنيا، سيناله في الآخرة.
ويقول أيضا:
«سألناه: سرحان عمّ تساءلت؟»
وكان يمكن أن يختار الصّيغة المعهودة بين النّاس في الخطاب العادي، ويقول: «عمّا تساءلت»، ولكنّه فضّل الصّيغة القرآنية «عمّ»، حتّى وإن كان خطابه موجّها إلى مسيحي.
ويأتي بعد ذلك مقطع يجمع فيه صيغا قرآنيّة أخرى، فيقول:
« وما شرَّدوك.. وما قتلوك .
أبوك احتمى بالنّصوص، و جاء اللّصوص
ولست شريداً.. ولست شهيداً..»
والنصّ ينطق بأنّ الشّاعر يعيد صياغة النّصّ القرآني بما يناسب موضوعه، دون أن يعتدي على قداسته، كما هو شأن بعض المارقين من الشّعراء.
فهو نظر إلى قول اللّه تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ (النساء: 157)
فبنى عليها قوله:
«وما شرودك.. وما قتلوك..»
إن هذه القصيدة غنيّة بالاقتباس من القرآن العظيم والتّوكؤ عليه، ممّا قد نعود إليه مستقبلا بإذنه جلّ وعلا.
الهوامش
(*) للاطلاع على القصيدة كاملة : https://poetsgate.com/poem.php?pm=147696
|