نقاط على الحروف

بقلم
فتحي الزغل
في البداية يجب أن نشير إلى حقيقة هامّة وهي: أنّ المنهج في مشروع أركون النّقدي شكّل حلقة هامّة ومركز
 وقع كما هو معلوم الإعلان مؤخّرا عن اتفاق لوقف إطلاق النار بين الصّهاينة ولبنان ممثّلا في حكومته، الاتفاق الذي تكشف بنوده العديد من التّساؤلات والنّتائج التي يمكن أن تكون أسسا لوضعيّة جديدة أو لأحداث أخرى جديدة كذلك قد تتمخّض عنها الأيام في تلك المنطقة، لعلّ الحدث الأبرز الذي لحقها هو سقوط النّظام في سوريا وما ستحمله هذه الحادثة من تبعات أخرى في المستقبل.
حيث عاشت الحدود اللّبنانيّة مع شمال فلسطين المحتل ومنذ 7 أكتوبر 2023 حربا بين «حزب اللّه» وآلة الاحتلال الظّالمة، بدأت مناوشات تحت سقف ما يسمّى بتفاهمات الاشتباك وقواعده، لتتطوّر إلى حرب ضروس خلّف العدوان الصّهيوني فيها ما يقارب الـ 4000 شهيد وأكثر من 15ألف جريح، ونحو مليون ونصف لاجئ. حرب، كانت شرارتها موقف مشرّف جدّا لـ «حزب اللّه» أعلنه منذ بداية العدوان على «غزّة» وهو وحدة الجبهات وعدم ترك غزّة وحدها أمام آلة القتل والقمع الصّهيونيّة. الموقف الذي انفرد به الحزب مع جماعة «أنصار اللّه الحوثيّين» في اليمن وبعض الفصائل المقاومة في «العراق» من دون كلّ الدّول والنّظم والجيوش العربيّة والإسلاميّة. فكان أن فرض جلب الاحترام والإكبار من كلّ الشّعوب العربيّة والإسلاميّة التي ترى نفسها عاجزة عن تقديم أيّ شكل من أشكال المساندة لإخوانهم في فلسطين بحكم الحصار المغلق عليها وعلى غزّة من الاحتلال نفسه، وبمشاركة مفضوحة من دول الطّوق العربيّة، ومن دول أخرى تفيد التّسريبات التي تخرج من هنا وهناك، بأنّها تساند العدوّ ضدّ المقاومين، في مشهد مزرٍ مخزٍ يلامس القاع في سلّم الأخلاق والأخوّة والواجب الدّيني والعرقي وحتّى الإنساني.
وحيث من باب المسلّم به أنّ العدوّ قد أثخن في حزب اللّه وقوّته وتركيبته العتاديّة والبشريّة من خلال ما نراه كلّ يوم من قصف وهدم وقتل وتهجير واستهداف لعناصر المقاومة ولقيادتها العليا، فإنّه من المتأكّد منه أنّ العدوّ قد وقع إيلامه ألما شديدا بما وقع عليه من صواريخ مختلفة، ومن طائرات انقضاضيّة، ومن عمليّات التحام برّيّة أظهرت تفوّق عناصر الحزب على جنود العدوّ الجبناء الذين لم يجدوا حلّا في اختراق الجبهة برّيّا سوى ببضع كيلومترات، دون القدرة على المحافظة على نقاط وصولهم، بحكم المقاومة الشّديدة في القتال على الأرض. إلّا أنّ كفّة العدوّ لا تدوم الخسارة فيها بحكم الدّعم اللاّمحدود من كلّ المجتمع الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكيّة التي لا يشكّ أيّ ملاحظ لتلك الحرب أنّها مشاركة فيها لا ملاحظة كما تدّعي هي: مشاركة بالسّلاح وبالاستخبار وبالمال وبالعتاد وبالدّبلوماسيّة.
ولأنّ المقاومة اللّبنانيّة قد أصيبت إصابات بليغة جدّا في تركيبتها منذ أشهر، وما أثّر ذلك على قدرتها القتاليّة وشدّة إيلامها للعدوّ، وذلك من خلال استهداف أجهزة اتصالاتها (البيجر) في مرحلة أولى، واغتيال أمينها العام ونائبه في مرحلة ثانية، واغتيال كوادر الصفّ الأوّل في قيادتها في مرحلة ثالثة، فإنّي لحظتُ ظهور التّعب عليها والرّكن إلى المفاوضات والدّبلوماسيّة التي فوّضت لها شخصيّات سياسيّة لبنانيّة نافذة تشاركها الرّأي والموقف وأقصد حركة «أمل» في شخص رئيسها رئيس مجلس النوّاب «نبيه برّي» ومن ورائه لبنان الرّسمي في شخص الحكومة اللّبنانية كلّها. ليقع التّفاوض بوساطة من؟ بوساطة إسرائيلي المولد والجنسيّة، من خدم حتّى في جيش الاحتلال في أوّل حياته، قبل أن يصبح أمريكيّا ويلتحق بفريق الدبلوماسيّة الأمريكيّة الرّسميّة وأقصد «آموس هوكشتاين» مع ما يمثّله هذا الوسيط من انحياز ومساندة لموقف الاحتلال ضدّ الطّرف المقاوم ككلّ.
وفعلا، أعلنت وسائل الإعلام على ولادة ما يسمّى بوقف إطلاق النّار، الاتفاق الذي كان في خمس صفحات بـ 13 قسما، ذكّرني – ولا أعلم لماذا – باتفاقات استسلام الحرب العالميّة الثّانية التي أمضاها المنهزمون قبل أن تتمّ محاكمتهم. فهو لم يحقّق فعليّا للمقاومة اللّبنانيّة شيئا سوى وقفا للقصف وللقتل. وهذا الوقف، رغم أنّه في حدّ ذاته مكسب لآلاف المدنيين ولآلاف الأسر المهجّرين، إلّا أنّ وراءه بنودا فيها خسارة لهم أوّلا وللبنان ثانيا وللمقاومة أساسا وثالثا.
فالاتفاق ينصّ وجوبا على انسحاب «حزب اللّه» إلى شمال نهر اللّيطاني، وهي مسافة في حدود الـ 30 كيلومترا شمال خطّ التّماسّ الحدودي. وهذا  البند في حدّ ذاته يعدّ في نظري واجهة الخسارة السّياسية والعسكريّة. حيث ولسنوات عديدة خلت، كان العدوّ يطالب بدموع التّماسيح بأن يتراجع «حزب اللّه» إلى هناك، والحزب كان يصرّ على أنّه حرّ في أيّ شبر من مساحة بلده التي يقاوم من أجلها، وأنّه طليق الحركة فيها لا تستوجب إذنا من عدوه، مع ما يمثّل تلك الحرّيّة من ردع للعدوّ، ومن سهولة استطلاع، ومن توازن للقوّة تجعله لا يفكّر في استباحة أراضي لبنان الضّعيف رسميّا والقويّ بمقاومته، لأنّ انتشار الجيش اللّبناني في تلك المناطق لا أراها تُخيف العدوّ أو تردعه عن اعتداءاته المتكرّرة على الحدود، بالعكس عن ذلك فإنّي أراه قد ضمن أخيرا بهذا الاتفاق جيشا نظاميّا رسميّا على حدوده، لأنّه ومتى كان جيش نظاميّ على حدوده، كان له الأمن والاستسلام، بل وخدمة أجندته طويلة المدى، وأقصد الاستلاء على الموارد الطّبيعيّة للبنان، فلولا قوّة ردع المقاومة وخوف الصّهاينة منها، لما كان تقسيم الحدود البحريّة في منطقة الجنوب لتجلب منافع للبنان في موارد بتروليّة هو في أشدّ الحاجة إليها. 
ولا أخفي خوفي من مدلول تصريح وزير الطّاقة الصّهيوني الذي ألمح إلى أنّه قد يعتبر الاتفاق الحاصل في تقسيم الحدود البحريّة ملغى في المستقبل لأنّ ذلك الاتفاق «لا يلبّي المصلحة الإسرائيليّة» على حدّ تصريحه. فمتى غاب الرّدع المسلّح حضر الغصب والاغتصاب كما تعوّدنا مع هذا الكيان الغاصب.
كما أنّ من بنود هذا الاتفاق «تفكيك كلّ المنشآت العسكريّة غير المرخّصة والمعنيّة بصناعة السّلاح في لبنان، ومصادرة جميع الأسلحة غير المرخّصة بدءا من منطقة جنوب اللّيطاني»، البند الذي يترجم بأنّه تفكيك لسلاح «حزب اللّه» لا شكّ في ذلك. والذي وإن سيتغافل عنه العدوّ ومن ورائه الغرب في أوّل الأمر، إلاّ أنّه سيكون له مكسب قانوني وسياسي في محطّات أراها آتية لا ريب فيها، سيعتمده كأسّ اتفاق ممضى من كلّ الأطراف ليقع تنفيذه، مستغلّا في ذلك الوقت كلّ وضعيّة سياسيّة أو على الأرض لصالحه، كما تعوّدنا على الغرب في تعامله معنا.
أمّا ما ذُكر في الاتفاق، وهو إشراف أمريكا وفرنسا على تنفيذه وضمان تطبيقه، فهو في اعتقادي كمن يدخِلُ عدوه في ضمان بيته ليلا عند غيابه بدعوى الثّقة. فمنذ متى يقع الاطمئنان إلى تينك الدّولتين خصوصا وإلى كلّ دول الغرب عموما في تنفيذ الاتفاقيّات؟ فالتّاريخ قد علمّنا أنّهم يسهرون على تنفيذ ما يخدم مصالحهم ومصالح حلفائهم فقط وبدون ماء وجه، وأنّهم لا يعيرون الاهتمام لنا عند وجودنا في موقف المظلوم أو المُتعدّى عليه.
لذلك، وممّا سبق، فإنّني وباختصار لا أرى أنّ لبنان ومن ورائه المقاومة وأقصد حزب اللّه قد كسب الاتفاق أو قد كسب الجولة، بقدر ما أرى أنّه خسرها فعلا، وأنّ خسارته هذه لم تبدأ من الاتفاق نفسه، بل منذ وصل العدوّ إليه وتفجير أجهزة اتصالاته المحمولة (البيجر) عند كوادره وأعضائه، مرورا باستهداف قياديّيه من زعيمه «نصراللّه» ونائبه، إلى بقيتهم التي كنا نسمع بلاغات نعيهم كلّ يوم، ووصولا بسقوط نظام الطّاغية في سوريا الذي كان الحزب يبرّر قتله للسّوريين الثّائرين عليه في سوريا بوحشيّة كبيرة بأنّهم، وبثورتهم تلك، إنّما يغلقون خطّ الإمداد الوارد إليهم من إيران عبر نظام «بشّار» اللاّجئ الآن في روسيا.  
فهل سيتموقع الحزب مع أسياد «دمشق» الجدد ليضمن الإمداد؟ أو أنّه سيفكّر جهة البحر في الغرب وينسى خطوط البرّ في الشّرق؟ أو أنّه سيُراجع ما فعله ببني أمّته ليجد فيهم النّصر والمساندة؟ فلعلهم يكونون أعداء حقيقيّين للعدوّ وأكثر حماسة لقتاله ولو بعد حين.