تحت المجهر
بقلم |
![]() |
مليكي مروى |
العلمانية في فكر محمد أركون (4-5) ملامح مشروع أركون النّقدي وسماته |
في البداية يجب أن نشير إلى حقيقة هامّة وهي: أنّ المنهج في مشروع أركون النّقدي شكّل حلقة هامّة ومركزيّة في بنية هذا المشروع، بحيث يصعب فصل المنهج عن الأهداف التي أراد الوصول إليها. ولقد استفاد أركون من وجوده في الغرب، واطلاعه على التّطور الذي توصّلت إليه المناهج العلميّة في دراسة التّاريخ المتعدّد الجوانب، وهي مناهج لم يسبق أن تعرّف عليها العقل العربي قبل أركون. ويشير أركون في كتابه «نزعة الأنسنة في الفكر العربي» إلى أنّه: «ينبغي على المنهج أن يدرس الظّواهر من خلال التّداخل والتّفاعل المستمر بين نسق الرّوح من جهة، ونسق الأشياء المادّية الواقعيّة من جهة أخرى، فالتّأمّلات الأكثر تجريدا، والأكثر مجانيّة من حيث الظّاهر، لها دائما علاقة مع بواعث فرديّة» (1) .
ينطلق أركون في أطروحته النّقدية للفكر العربي الإسلامي، من مفاهيم رئيسيّة ثلاثة، تصدّرت تقريبا كلّ دراساته، وإن كان ذلك بأشكال مختلفة وهي الدّين، والدّولة، والدّنيا. وقد عمد في المجال الإسلامي إلى تحديد الظّاهرة الدّينيّة وبلورتها مفهوما وصولا إلى ما تطرحه من إشكالات، وهو يعتقد اعتقادا جازما أنّها تحتاج أكثر من غيرها إلى شرح وتفسير داخل الفضاء الإسلامي انطلاقا من الخطاب القرآني(2).
ويحاول أركون في مشروعه النّقدي أن يحيلنا إلى إشكاليّة إبستمولوجية كبيرة تحتل مكانة في الفضاء المعرفي المعاصر وهي مدى عمق المسافة الإبستمولوجيّة التي تفصل بين الفضاء العربي الإسلامي والفضاء الأوروبي العلماني.
إنّ المشروع النّقدي الذي تزعمه أركون لاستكشاف بنية العقل الإسلامي لا ينحاز إلى مذهب ضدّ المذاهب الأخرى، ولا يقف مع العقيدة ضدّ العقائد التي ظهرت، وإنّما هو مشروع تاريخي أنثروبولوجي في آنٍ معًا. كما أنّ مشروع أركون النّقدي للعقل الإسلامي لا يكتفي بالبحث عمّا يخصّ الإسلام كدين وفكر وثقافة ومدنيّة. إنّ هذا المشروع النّقدي عنده لم يكتف بالإسلام كمدوّنة دينيّة، بل تعدّاه إلى العقل اللاّهوتي عند أهل الكتاب والبحث في الجذر المشترك بين هذه الكتب(3).
برنامج أركون لعلمنة الإسلام
يتمثّل العنصر الأول من هذا المشروع في فصل الإسلام عن الحياة الاجتماعيّة. ويتمحور العنصر الثّاني حول نقد التّراث، والذي يعني به القرآن والسّنّة بالدّرجة الأولى وفق آليّات جديدة، هي ما انتهى إليه العقل الغربي من أدوات كاللّسانيّات والعلوم النّفسيّة والاجتماعيّة والأنثروبولوجيّة.
وقراءة النّصوص الدّينيّة على هديها، باعتبارها هي وحدها القادرة على تجاوز الشّحنة العاطفيّة من جهة والمقدّس من جهة ثانية لتتناول الموروث الدّيني بغير خلفيّات مهما كانت، وهذا يتيح إعادة تشكيل العقل المسلم بعيدا عن الإديولوجيّة، لينسجم مع العصر الحديث والاتجاه الإنساني، وهذا امتداد لمشروع أركون لعلمنة الإسلام وأنسنته من خلال التّعامل مع ثوابته تعاملا بشريّا عاديّا عقليّا بحتا، يجرّدها من ثباتها وقدسيتها، ليغدو الدّين فكرا بشريّا (4).
ويهدف مشروع أركون النّقدي كما يُصرّح بذلك إلى تجديد الفكر الإسلامي عبر إحداث ثورة داخليّة عارمة، لا تدع مجالا معرفيّا إلاّ سلكته، ليتمكّن المسلمون من الالتحاق بركب الحضارة، والحقيقة التي ينتهي إليها هي إفراغ الفكر الإسلامي من محتواه الدّيني المُغلق وعرضه على السّاحة الفكريّة البشريّة، ليتسنى انصهاره في المنظومة الغربيّة، التي يرى أركون أنّ الصّواب والحقيقة والخلاص يكمن في الجدل الفكري بين الثّقافات(5).
ومن أهداف مشروعه النّقدي أيضا تأسيس نظريّة جديدة في التّعامل مع التّراث تقوم على نقد بنيته التّكوينيّة وآليّاته المعياريّة، ثمّ إخضاعه للنّموذجيّة الغربيّة في التّفكير، كما يهدف أيضا إلى إعادة كتابة جديدة لكلّ تاريخ الفكر الإسلامي والفكر العربي(6).
والمقصد الأساسي لهذه العمليّة هو تتبّع المساحات الخفيّة التي ظلّت بعيدة عن مجال النّقد والتّفكير لذا يقول: «ينبغي للتّراث الكلّي أن يتعرّض لتفحص أركيولوجي صبور وعميق من أجل العثور على أجزائه المجهضة والمستبعدة والمحتقرة، وإعادة كتابة تاريخها أو تركيبها إذا أمكن وليس فقط من أجل التركيز على صيغه الثابتة واتجاهاته الراسخة المرتبطة إلى حدّ كبير بالدّولة الرّسميّة والدّين الرّسمي. إنّه يعمل على خرق الممنوعات وانتهاك المحرّمات التي أقصت كلّ الأسئلة التي كانت قد طرحت في المرحلة الأوّليّة والبدائيّة للإسلام، ثمّ سكّرت وأغلقت عليها» (7) .
ومن أهداف أركون في مشروعه النّقدي بناء إسلاميّات تطبيقيّة وذلك بمحاولة تطبيق المنهجيّات العلميّة على القرآن الكريم، ومن ضمنها تلك التي طبّقت على النّصوص المسيحيّة، وهي التي أخضعت النّصّ الدّيني لمحكّ النّقد التّاريخي المقارن والتّحليل الألسني التّفكيكي والتّأمّل الفلسفي المتعلّق بإنتاج المعنى، ولقد طرح أركون هذا المشروع في الدّراسات الإسلاميّة لكي يهتمّ به الباحثون العرب المسلمون عموما، لاسيّما وهو مشروع متصل بالبحوث في النّصّ الدّيني بصفة عامّة، إنّه مشروع مبني بالأساس على التّعرّف على الظّاهرة الدّينيّة حتّى تحلّ هذه الظّاهرة في أفق أوسع من الأفق الإسلامي. ويفتح مشروع أركون بابا أوسع لتاريخ الأديان إذا انطلقنا من القرآن ومن منطقه الذي يطرح قضيّة تاريخ النّجاة، أي كيف نعيش حياتنا كمؤمنين متلقّين كلام اللّه حتّى نطبقه على حياتنا (8).
يمكن استنتاج أنّ مشروع محمد أركون لعلمنة الإسلام كان يهدف إلى خلق بيئة فكريّة تسمح بتعدديّة التّأويلات والانفتاح على مختلف القراءات للنُّصوص الدِّينيّة. أراد أركُون من خلال علمنة الإسلام تحرير الفكر الدّيني من احتكار المؤسّسات التّقليديّة والتّفسيرات الجامدة، ممّا يسمح المجال لتطوير فهم ديني يتماشى مع متغيّرات العصر الحديث. كان أركون يسعى لتأسيس مقاربة جديدة تعترفُ بالتّنوّع الثّقافي والدّيني داخل المجتمعات الإسلاميّة، وتدعو إلى الحوار بين الإسلام ومختلف الفلسفات والعلوم الإسلاميّة. بهذا، أراد أركُون بناء فكر إسلامي قادر على المساهمة في الحضارة بشكل فعّال.
المنظور الأركوني للعلمنة
يقوم المنظور الأركوني للعلمنة، على اعتبارها إحدى مكتسبات الرّوح البشريّة وفتوحاتها، وهي مكسب قد افتتح في أوساط مختلفة وتجارب ثقافيّة عديدة منها التّجربة العربيّة الإسلاميّة «هي موقف الرّوح من أجل امتلاك الحقيقة أو التّوصّل إلى الحقيقة»(9)، ويشرح هذا المعنى انطلاقاّ من الشّعور بمسؤوليّتيْن، الأولى هي مسؤوليّة الرّوح الدّائمة أمام المعرفة، أمّا الثّانية فهي مرتبطة بمناقشة كلّ الوسائل الموصلة إلى المعارف إلى الآخرين دون المساس بحرّيتهم أو تقييدها أي الارتباط بالعمليّة التّعليميّة التّدريسيّة اليوميّة المسؤولة. ومنه يفهم أركون العلمنة على أنّها: عمليّة التوتّر المستمر من أجل الاندماج في العالم الواقعي، وتساعد على نشر الحقيقة حسب اعتقاده في الفضاء الاجتماعي. كما يركز على الجانب التّواصلي منها، أي النّقاش في المجال العام، وهو الموضوع الذي يركّز عليه الفكر ما بعد الحداثي وبشدّة الجانب التّواصلي الحواري للمساهمة في حلّ الإشكاليّات المختلفة(10).
العلمنة عند أركون:
يعبّر محمد أركون على «العلمنة المعيشة كتوتّر مستمر من أجل الاندماج في العالم الواقعي، والتي تساعد على نشر ما تعتقد أنّه الحقيقة في الفضاء الاجتماعي، وكلّ ما عدا ذلك وكلّ ما يمكن أن يقال بعدئذ عن العلمنة أو العلمانويّة، ناتج عن كلّ نواقصنا في عمليّة البحث العلميّة من أجل معرفة الواقع، وعن نواقصنا التّربويّة في توصيل هذه المعرفة فيما بعد إلى الآخر، حيث بيّن من خلال ما سبق أنّه تنتج سلسلة من الأحداث والصّراعات العلمانيّة أو المضادّة لها، حيث يصرّح بأنّ هذه الصّراعات في فرنسا أصبحت بشكل خاصّ رهانا سياسيّا بائسا على الرّغم من تجربتهم التّاريخيّة المهمّة في إضفاء التّصوّر المفهومي الفلسفي للعلمنة بأفضل معاني الكلمة وأوسعها، فهم لم يعرفوا كيف يتجاوزون المواقع الجداليّة والصّراعيّة التي ترسّخت بينهم سواء على الصّعيد الدّيني أو السّياسي» (11) .
كانت نظرة أركون سالفة الذّكر، عبارة عن إلصاق أو ربط وثيق للمفهوم من حيث مجال ظهوره، أي بالدّولة الفرنسيّة، وهذا ما من شأنه أن يحصر المفهوم في مجال ضيّق جدّا، وبالتّالي صعوبة الجزم بأحقّيته في إصدار مفهوم مضبوط.
يرى محمد أركون أنّ المشكلة هي مشكلة العلمنة لأنّها تظلّ مفتوحة بالنّسبة إلى الجميع، سواء المسلمين أو غيرهم. وبالنّسبة إلى العلمانيّين المتطرّفين نجد أنّهم يمزجون بين العلمنة الصّحيحة وبين الصّراع ضدّ طبقة رجال الدّين، وفي الوقت ذاته يحاولون إيهامنا بأنّه يكفي بأن يكون المدرّس حياديّا في تعليمه لكيْ يتوصّل إلى المثال العلماني ويعانقه، ولكنّه يزعم أنّ الأمور ليست بهذه البساطة لأنّ مسألة المعرفة بأسرها تجد نفسها مطروحة، ولهذا يقول: «بأنّه لا يوجد اليوم باحث في أيّ اختصاص علمي كان، يقدر أن يقدّم لنا مقاربة علمية، وموضوعية، مقنعة عن ماهية الظّاهرة الدّينيّة، بالرّغم من توافر كلّ أنواع الدّراسات الوضعيّة والتّفسيرات والتّحدّيات والتّعريفات، فإنّه لا توجد أيّ طريقة قادرة على تحقيق هذا الإجماع الذي يتجاوز كلّ الإيديولوجيّات والصّراعات التّأويليّة والتّفسيريّة بين الأديان والمذاهب المختلفة، كما يزعم بالقول أنّه إذا كانت العلمنة أو الموقف العلماني يشكّل تقدّماً بالنّسبة إلى الرّوح البشريّة، فإنّنا لسنا جميعا معاصرين لبعضنا البعض على هذا الصّعيد، ذلك أنّه فيما يخصّ المعرفة وتوصيلها للآخرين، فإنّنا نجد أنّ الحظوظ ليست متساوية، وبالتّالي فالمواقف والمستويات مختلفة، وهذا الكلام ينطبق على نفس المجتمع الواحد كالمجتمع الفرنسي مثلا، كما ينطبق نسبيّا على ثقافات أخرى ومجتمعات كالمجتمعات التي يسودها الإسلام(12).
فقد عالج أركون مسألة العلمنة والدّين لأنّه رأى في ذلك نظرة أشمل وأوسع، فتجاوز مثال الإسلام إلى غيره من الأديان، فحاول أخذ الظّاهرة الدّينيّة بعين الاعتبار، ككل وليس فقط أحد تجليّاتها كالإسلام أو المسيحيّة، حيث أقرّ أنّه توجد أدبيّات غزيرة حول العلمنة أو حول المسيحيّة والدّين، «حيث رأى في ذلك عدم وجود دراسات حول العلمنة والدّين، إذ يطرح سؤال لماذا؟، ثم يجيب على ذلك بأنّ البحث العلمي متقدم أكثر في الغرب» (13) .
فمعالجة أركون للظّاهرة الدّينية بتجاوزه للإسلام على غرار الأديان الأخرى، يجعله يقف موقفا سلبيّا تجاه دينه (الإسلام)، وهذا من شأنه أن يخلق التّناقض القيمي والأخلاقي بالخصوص على أفكاره تجاه الدّين الإسلامي عند مقارنته بالفكر العلماني.
كما أنّ دراسة المفهوم العلماني من وجهة نظر ذات جذور مسيحيّة، وأما المعرفة بالأديان الإفريقيّة فهي أقل لأنّها بحسب زعمهم ذات أصل وثني، فقد كانت إحدى نتائج ما يدّعى العلمنة أو الدّنيويّة، حصول الاستبداد العقلي والعلمي لقطاع كامل من قطاعات المعرفة، على الرّغم من أنّه قد أدّى دورا أساسيّا في التّوليد التّاريخي لمجمعاتنا بما فيها المجتمعات الأوروبيّة أو العربيّة، وهنا بالذّات تنبثق حالة الإسلام بصفتها تحدّيا، إذ أنّه يعتبر أنّ الإسلام مرتبط من النّاحية العقليّة بالفكر الغربي لكنّه غير مدروس وغير معروف بل هو مرفوض ومرمي في الفضاء الشّرقي (14) .
نلاحظ في هذه النّقطة، أنّ أركون حاول أن يقدّم للقارئ العربي فكرة مفادها أنّ المجال العلماني لو فهم بطريقة أصحّ من طرف المسلمين، وسُمح بالمناظرة والجدل، باعتباره من القضايا العقليّة ما كان وضع المسلمين يصل إلى هذه المستويات من ضيق الأفق والاستبداد بالرّأي، وهو بهذا الطرح يدعو إلى تجديد الفكر الإسلامي. كما تحدّث أركون عن نوعيْن من العلمانيّة:
العلمانيّة السّطحيّة (النّضاليّة الوضعيّة الصّراعيّة)
بعد الحديث عن العلمانيّة السّطحيّة التي تتمّ بالتّبسيط وتفتقر إلى العمق الفكري في فهم العلاقة بين الدّين والسّياسة، ننتقل إلى مفهوم أعمق وأكثر تعقيدًا كمَا قدّمه محمد أركون، وهو العلمانيّة المنفتحة. يرى أركون أنَّ العلمانيّة لا يجب ألاّ تكُون مجرَّد فصل آلي بين الدّين والدَّولة، بل ينبغي أن تكُون عمليّة نقدية مستمرة تستند إلى الانفتاح الفكري وإعادة النّظر في المسلّمات الثَّقافيَّة والدِّينيَّة. هذا النَّوع من العلمانيَّة لا يهدف إلى إقصاء الدِّين، بل يسعى إلى إيجاد توازن يمكن من خلاله للدِّين والفكر النَّقدي التَّعايش والتَّفاعل بشكل إيجابي في إطار مجتمعي حديث.
ينطلق من منطلقات عقلانيّة سطحيّة عفى عليها الزّمن، فهذه العقلانيّة التي تشكّل أساس الحضارة الغربيّة، تذهب إلى ضرورة سيادة العقل البشري القائم على الفحص والتّجريب والقياس الرّياضي الدّقيق، والعقل هنا، كما يصفه أركون، عقل ضيّق جادّ متصلّب، عقل أدائي حسابي.
ويضرب أركون مثليْن على هذه العلمانيّة الصّراعيّة السّطحيّة:
الأول: هو الثّورة الفرنسيّة، حينما اعتقدت بإمكانيّة إخلاء عبادة الكائن الأعلى وطقوسه محلّ العبادة المسيحيّة وطقوسها، وقد أخفقت الثّورة في هذا تماما، ولا تزال العقيدة المسيحيّة هي عقيدة الملايين في فرنسا.
أمّا المثل الثّاني: «فهو ثورة أتاتورك، التي كرّست انتصار العقل الوضعي على الوعي الأسطوري الذي يهيمن على الأغلبيّة العظمى من المؤمنين، حيث يبين أنّ أتاتورك انطلق من منظور أحادي وضيّق يذهب إلى أنّه لا توجد إلاّ حضارة واحدة، هي الحضارة الغربيّة، وينبغي استيرادها وفرضها كما هي»(15)، وهذا ما فعله ظنّا منه أنّه سيقضي قضاءً مبرمًا على التّراث الدّيني بمجرد استرداد العلمنة وفرضها بالقوّة، من الخارج لا من الدّاخل، ولذا لم يكتف أتاتورك بإلغاء الخلافة، وإنّما انقضّ على المناخ السّيميائي، أو الرّمزي لكلّ المسلمين، ولكن أتاتورك فشل في هذا الجهد، ولا يزال الشّعب التركي مسلما متديّنا في غالبيّته السّاحقة.
ومن خلال النّظرة الأركونيّة نستنتج أنّ أركون أراد القول بأنّ القيمة أو البعد الدّيني الموجود لدى الإنسان له أثر بالغ وراسخ في نفس كلّ فرد، فهو أمر لا يمكن إضافته للإنسان أو حذفه منه، حيث يرتبط بوجوده، فأركون يرى بأنّ ذلك ليس حلاّ، بل يريد أن يتجاوز الإنسان ذلك البعد المادّي من وقت إلى آخر، كما يرفض أركون المقولة العلمانيّة الشّاملة المشهورة في بلادنا: «الدّين للّه والوطن للجميع».
العلمانيّة الجديدة أو العلمانيّة المنفتحة
«في مقابل العلمانيّة السّطحيّة الصّراعيّة التي جاءت بعد الثّورة الفرنسيّة، وبعد فشلها الذي أوضحه بمثليْن هما: الثّورة الفرنسيّة والثّورة الأتاتوركيّة، كان لابدّ أن يكون هناك تقارب بين الكنيسة والدّولة للعثور على صيغة من أجل علمنة جديدة، تتيح إمكانيّة وجود روحانيّة جديدة» (16) .
ويتساءل أركون: هل يحقّ للإنسان أن يعرف أسرار الكون والمجتمع أم لا يحقّ له؟ وبعدها يجيب على سؤاله بأنّ هناك إجابتيْن:
الأولى: أنّ الإنسان بحاجة إلى قوّة خارجيّة (فوق طبيعيّة،غيبيّة)، لكي تسيّره وتسيّر أموره.
والثّانية: تتمثّل في أنّ الإنسان قادر بحدّ ذاته على تسيير أموره، وحلّ مشاكله وتشكيل الصّيغة الأمثل والأفضل في المجتمع، دون الحاجة إلى قوّة غيبيّة سماويّة من وحي ورسل وكتب سماويّة.
لكنّ أركون يرى «أنّه لابدّ من الجمع بين النّظريتيْن، فلابدّ للإنسان من هذه الثّنائيّة، أي القبول بالغيبيّات، وفي نفس الوقت القبول بقدرة الإنسان على تسيير أموره في هذه الدّنيا وحلّ مشاكله فيها، وهذا ما سمّاه أركون: بالعلمانيّة المنفتحة، وهي علمانيّة تولّي أهمّية كبرى للبعديْن الرّوحي والدّيني لدى الإنسان، ولا يجوز عند أركون حرمان الإنسان من حرّية التّفكير باسم المقولات الثّيولوجيّة (علم الإلهيّات المسيحي)، أو بحجّة الدّفاع عن المقدّسات، كما أنّه لا يجوز منع الإنسان من دراسة الدّين والتّعمّق فيه، باعتباره الظّاهرة الدّينيّة مجالا جادّا للمعرفة والفهم (17).
وما يُطرح على الدّارسين أو باحثين في الفكر العلماني الأركوني هو ذلك السّؤال الذي طرحه أركون: هل يحقّ للإنسان أن يعرف أسرار الكون والمجتمع أم لا يحقّ له؟ ومنه نستطيع أن نسأل ما الذي جعل محمد أركون أن يطرح هذا السّؤال؟ لأنّه سؤال غيبي لا يتجّرأ أي إنسان أنّ يسأله لأنّ أسرار الكون والمجتمع لا يعلمها إلاّ اللّه سبحانه وتعالى، فيمكن أن يكون السّبب الذي أدى بمحمد أركون إلى قول هذا الكلام هو كونه عاش في الحضارة الغربيّة المسيحيّة وترعرع فيها، أين ساد الصّراع بين اللّه والإنسان، باعتقادهم أنّ اللّه عندهم لا يريد للإنسان أن يعرف أي شيء.
وينتهي أركون إلى القول: «لابدّ من إقامة مقارنة جادّة وصارمة بين البعد الدّيني بكلّ ما يعنيه من قيمة روحيّة بالنّسبة إلى وجود البشر من جهة، وبين معطيات العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة وفتوحات الحرّية التي حقّقها العقل العلماني في أوروبا من جهة أخرى، والتي لا ينبغي إنكارها أو التّراجع عنها بأيّ حال من الأحوال».
ويضيف أركون: «إنّ هذا لا يعني إلغاء التّعليم التّقليدي للأنظمة العقائديّة والدّينيّة، ولكنّه يعني ضرورة موازنته في مجتمعاتنا عن طريق إنشاء المعاهد والكلّيات لعلم اجتماع الأديان، والتّاريخ المقارن للأديان، والأنثروبولوجيا الدّينيّة، وفي ذلك الخير للعلم والمجتمع والدّين»، هنا يكمن الحلّ في رأيه، وهذه العلمنة بالمعنى الواسع والمنفتح للكلمة.
وبما أنّ أركون أستاذ جامعة في السّوربون فإنّه يقول: «كلّ ما أطلبه من أجل إدخال العلمنة تصحيح العلمنة في فرنسا هو إدخال تعليم تاريخ الأديان في الثّانويّات والجامعات، بصفتها أنظمة ثقافيّة كبرى سيطرت على البشريّة الأوروبيّة طوال قرون وقرون» (18).
أمّا بالنّسبة إلى البلاد العربيّة فيقول: «كلّ ما أطلبه من أجل إدخال العلمنة الصّحيحة في المجتمعات العربية والإسلاميّة هو إلغاء برامج التّعليم السّائدة، وإلغاء الطّريقة اللاّتاريخيّة والعقائديّة التّبشيريّة لتعليم الدّين في المدارس العامّة، وإحلال تاريخ الأديان والأنثروبولوجيا الدّينية محلّه، ثمّ تدريس تاريخ الأنظمة الثيولوجيّة (علم الإلهيات)، بصفتها أنظمة ثقافيّة، وبالتّالي تتمّ علمنة الدّين وتحويله إلى مادّة دراسيّة أنثروبولوجيّة فحسب» (19) .
نستنتج من خلال هذا أنّ أركون أراد إقامة دراسة تاريخيّة أنثروبولوجيّة، بغض النّظر عن أهمّية الدّين في المجتمع بالرّغم من أنه أكّد من قبل أهمّية البعد الدّيني في نفسيّة الإنسان الغربي.
ويمكن استنتاج أنّ تقسيم محمّد أركون للعلمنة إلى «علمنة سطحيّة» و«علمنة جديدة» يعكس تمييزه بين مقاربات تفتقر إلى العمق النّقدي وأخرى تسعى إلى إحداث تحوّل بنيوي في بنية الفكر الإسلامي. «العلمنة السّطحيّة» بحسب أركون، تمثّل محاولة تجميليّة لا تلامس جوهر الإشكالات المرتبطة بعلاقة الدّين بالمجتمع، حيث تبقى حبيسة إطار تحديث ظاهري دون مراجعة جذريّة للمفاهيم الدّينيّة في المقابل، يدعو أركون إلى «علمنة جديدة» تتجاوز حدود الفصل التّقليدي بين الدّين والدّولة، لتشمل نقدًا معرفيًّا شاملًا يستهدفُ إعادة تشكيل العقل الإسلامي وفقًا لمنهجيّات حديثة متعدّدة التّخصُّصات، تفتح المجال لإعادة بناء العلاقة بين المُقدّس والزّمان المعاصر بشكل يضمن التّفاعل الخلّاق مع متطلّبات الحداثة، دون الانسلاخ عن الجذور الثّقافيّة والدّينيّة.
الهوامش
(1) أركون(محمد):نزعة الأنسنة في الفكر العربي جيل مسكويه والتوحيدي،تعريب هاشم صالح، دار الساقي، بيروت،لبنان، طبعة أولى، 1997، ص260.
(2) أركون(محمد):تحريرالوعي الإسلامي نحو الخروج من السياجات الدغمائية المغلقة، تعريب هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت،ط 1، 2009، ص71.
(3) أركون(محمد):تحريرالوعي الإسلامي نحو الخروج من السياجات الدغمائية المغلقة،م.س،ص71.
(4) أركون(محمد):الفكر العربي، تعريب عادل العوا، منشورات عويدات، بيروت باريس، ط3، سنة 1985، ص 117.
(5) م.ن، ص119.
(6) أركون(محمد): الإسلام الأخلاق والسياسة،م.س، ص174.
(7) أركون(محمد):الفكر الإسلامي قراءة علمية،تعريب هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، رأس بيروت المنارة، ط2، 1996، ص 31.
(8) ولد قابلة (إدريس):جولة في فكر أركون، دار ناشري، ط 1، دون مكان طبع،2003 ، ص7
(9) أركون (محمد):العلمنة والدين الإسلام المسيحية والغرب، م.س، ص9.
(10) بقدي (فاطمة):إعادة اكتشاف العلمنة والدين في الفكر الإسلامي:قراءة في منظور محمد أركون (1928-2010) ضمن المجلة الجزائرية للسياسات العامة، العدد 5، أكتوبر 2014،ص ص 237 - 238
(11) أركون(محمد):العلمنة والدين، الإسلام المسيحية والغرب، م.س، ص9.
(12) أركون(محمد):العلمنة والدين، الإسلام المسيحية والغرب، م.س،ص10.
(13) م.ن،ص11.
(14) أركون(محمد):العلمنة والدين، الإسلام المسيحية والغرب،م. ،ص11.
(15)علي بار،(محمد):العلمانية أصولها وجذورها،دار القلم،دمشق، ط 1، 1429 ه، 2008م، ص39.
(16) م.ن، ص39.
(17) علي بار،(محمد):العلمانية أصولها وجذورها،م.س، ص39.
(18) م.ن، ص 41.
(19) علي بار،(محمد):العلمانية أصولها وجذورها،م.س، ص42.
|