نوافذ

بقلم
د.علي رابحي
الفكر الإسلامي وأسئلة النهضة
 قبل اجتياح الغرب أرض الإسلام، كان الفكر الإسلامي يعيش مرحلة من الرّكود والانحطاط وانعدام الإبداع، باستثناء بعض أبنائه من مثل ابن خلدون؛ فأُغلق باب الاجتهاد، وتعطّل العقل الإسلامي، وكفّ النّاس عن التّدافع، واتباع هذه السّنة الكونيّة لبلوغ المرام، وحصول التّمكين -وعدا من اللّه- لمن اجتهد وأصاب؛ فبعد أن كان المسلم يصنع التّاريخ، أصبح إنسانا مستهلكا في حالة انتظار، خارج الفعل الحضاري الإنساني. هذه الوضعيّة هي التي عبّر عنها مالك بن نبي بقابليّة الاستعمار، أي مهيّأ لمن يغزوه، حتّى صحا والفكر الغربي الوافد في عقر داره، فقام من سباته العميق من أجل العودة إلى الذّات ومواجهة هذا الدّخيل. 
وفي ظلّ هذا السّياق تبلور سؤال النّهضة، بمفهومها الخاصّ -أعني باعتبارها حركة إحياء وتجديد-، لاسترجاع الشّهود الحضاري. فتضافرت الجهود في محاولة لتجاوز صدمة الانبهار بالغرب، وتحقيق القطيعة مع الانهزاميّة والوضع السّلبي القائم، والانتقال إلى مرحلة الحضور الفعلي الفاعل في المجال العام، باستدعاء تجارب البعث الإسلامي الأولى المهجورة، أو بمحاكاة مشاريع التّنوير الغربيّة المنظورة.
تعالت الأصوات، وتعدَّدت الأقلام والمنابر والمؤسّسات، وقامت بالتّدافع، والتّرافع وتلمّس الإجابة عن سؤال النّهضة، وتقاطعت الرّؤى والتّصوّرات حينا، وتباينت أحيانا أخرى باختلاف المواقع مكانا أو زمانا أو مقاما، أو باختلاف زوايا النّظر والمراجع القيميّة والمعرفيّة، كما تماهى بعضها أيضا مع تجارب أجنبيّة.
ساهم الفكر الإسلامي في تلمّس الإجابة عن أسئلة النّهضة، وبسط الرّؤية المعرفيّة والرّسالة المجتمعيّة لمشروع الثّقافة الإسلاميّة، وفي تراكم المعرفة العلميّة الإنسانيّة، وفي ترقّي الحضارة البشريّة، وبصم حضوره بقوّة في سجل النّبوغ الفكري الإنساني.  فكيف يمكن تصور هذا العلم الأصيل من العلوم الإسلاميّة؟
من أجل ذلك نبدأ ببيان حده من جهة ما اصطلح عليه في تعريفات الأصوليّين. فمصطلح «الفكر الإسلامي» مركّب لفظي إضافي يتكوّن من كلمة «الفكر» وكلمة «إسلامي».  فهو «فكر» يبحث قضايا كليّةٍ بإِعماله العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة مجهولٍ، غير أنّه اكتسب وصف «إسلامي» باعتبار المنهج المعتمد بضوابطه النّاظمة للنّظر في المسائل والنّوازل انطلاقا من المرجعيّة الإسلاميّة، وتصوّراتها الحاكمة لتحقيق مقاصد الشّريعة المعتبرة. 
من دواعي الفكر الإسلامي التّجديد وإحياء وبعث ما اندرس من أحكام الشّريعة وتنقيتها من غلو الغالين وانتحال المبطلين، ومحاربة البدع التي تخالف الدّين، وتخليصه من المحدثات التي أضيفت له. وﺑﺬل اﻟﺠﻬﺪ ﻓﻲ اﺳﺘﻨﺒﺎط اﻷﺣﻜﺎم وتنزيلها على واقع الحياة ومستجداتها. 
ومن الأحاديث النبوية الشّريفة المؤسّسة لفكرة التّجديد في الدّين الإسلامي نجد قول رسول اللّه ﷺ: «إنَّ اللهَ يبعثُ لهذه الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ من يُجدِّدُ لها أمر دينها»، وإذا كان هذا الحديث يؤصل لفعل التّجديد، فإنّ التّجديد المطلوب لا يقع على ذات الدّين، وإنّما يقع على التّديّن، وإنتاج المعرفة من مصادرها الأصليّة، وفق ضوابط العقل والنّقل معا، بتحرير التلمّس الحسّي والتّدبّر العقلي للسّنن الجارية في الكون المنظور مادّة وحياة، واستحضار حدود الوحي الإسلامي المسطور من مضانه قرآنا وسنّة.
وإذا كانت الرّبانيّة خصيصة فريدة من خصائص الفكر الإسلاميّ باعتبار مصدره، فإنّه أيضا يتميّز بالعقلانيّة من خلال تطبيق المنطق لإدراك الأشياء بوعي والاستدلال عليها، وبناء الحقائق والتحقّق منها؛ ويتفرّد بالشّموليّة والتّجديد والانفتاح على الفكر الإنساني والاشتغال في كلّ الأبعاد، أبعاد المكان والزّمان والسّببيّة والإنسان، دينا ودنيا وآخرة، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، في انسجام تامّ مع النّسقيّة المعرفيّة في العلوم الإسلاميّة ووسطيّة رسالة الإسلام واعتداله.
ووحدة المعرفة في الإسلام تقتضي أن يشمل التّجديد كلّ المباحث الإسلاميّة، انطلاقا من العقيدة ووصولا إلى السّلوك، ومنه:
1 - التجديد في علم العقيدة: ويكون بتجديد المنهج وفق ما يقتضيه العصر، وترشيد علم الكلام والفلسفة الإسلاميّة.
2 - التّجديد في علم التّفسير: ويكون بإحياء علوم القرآن والتّفسير والتّأويل، وتنقية كتب التّفسير من الإسرائيليّات والخرافات والأباطيل التي ليس لها أصلٌ تستند إليه.
3 - التّجديد في علوم السّنّة: ويكون بإحياء علوم الحديث والجرح والتّعديل والسّيرة النّبويّة الشّريفة.
4 - التّجديد في علم الفقه: ويكون بفتح باب الاجتهاد أمام المجتهدين، ومحاولة التّوفيق بين المذاهب الإسلاميّة، وتقريب آراء الفقه المذهبي المتباينة.
5 - التّجديد في علم التّزكية والسّلوك: ويكون بتصحيح فهم التّزكية. 
6 - التّجديد في علم السّيرة والتّاريخ: ويكون بتمييز الأخبار والأحداث التّاريخيّة وتوثيقها.
صفوة القول، يجب أن يكون المجدّد مجتهدا وواسعٍ الاطّلاعٍ على كلّيات الدّين وفقه الواقع وفقه الأولويّات وفقه الموازنات ومقاصد الشّريعة الإسلاميّة، ومنفتحا على العلوم الإنسانيّة وتراكماتها.