تمتمات
بقلم |
![]() |
م.رفيق الشاهد |
العري |
خُلق الإنسان على طبيعته عاريا فتستّر ثمّ تعرّى. والعريّ والتّعرّي شيئان مختلفان، عادة ما يُنظر إلى كليهما من منظور أخلاقي (عقائدي وديني) على أنّه تلميح شبقي، ولكن يحمل كلّ منهما عند العديد من المفكّرين والفلاسفة أبعاداً ذات مدلولات اجتماعيّة وفكريّة متنوّعة.
العُرْيُ لغة من عَرِيَ عَرْيَةً وعُرْياً، والشّيء عَارٍ وعُرْيَانٌ. واصطلاحا يصف العُري حالة الشّيء مجرّدا ممّا يستره جسدا كان مادّيّا أو حسّيّا أو ذاتا معنويّة، وتختلف درجة العريّ بالنّسبة للجسد وتقديراته حسب التّقاليد والثّقافات السّائدة. أمّا التّعرّي فهو فعل إرادي شائع للتّعبير عن رغبة جنسيّة تحرّكها تفاعلات بيولوجيّة أو عن رغبة ذاتيّة في التّمرّد. وبصفة أخصّ أصبحت حالات تعرية الجسد لا تمثّل نوعا من التّحدّي الثّقافي والسّياسي فقط، بل تحيلنا الأضواء المسلّطة على الشّيء العاري إلى مصدر الضّوء أو بالأحرى إلى من يستخدمه ويتلاعب به.
فعمليّة التّعرية والإخفاء المنتظمة والمتواترة غوايةً تحوّل الاهتمام من العاري المتخفّي في ذاته وتركّزه على مصدر الإضاءة والغرض منه. وهي أثارة واستهواء للحريف المستهلك بغاية الإيقاع به في شباك الإغراء والإغواء التّجاري. حيل جديدة تعتمدها كذلك أنظمة الإشهار المرئي. «هل من قناة تقبل بضيافتي للحديث كمواطن عار تماما من كلّ الالتزامات المهنيّة والوظائف السّياسيّة والمجتمعيّة والهيئات الدّستوريّة، ومن كلّ ما يمكن أن يميّزني غير المواطنة؟ ....أي أن تتقبّلوني كما أنا عاريا إلاّ من الحياء، متسترا برداء المواطنة دون سواه».(2).
المسألة معقّدة ومتشعّبة، ولابدّ للباحث في هذا السّياق من تحديد ما يجب تعريته وما يجب حجبه. فبالرجوع إلى النّصّ القرآني : ﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾(طه:121)، جاء التّستّر مرتبطا ومشروطا ببروز السّوءة لدى آدم وحوّاء نتيجة لأكلهما من الشّجرة التي نهاهما اللّه عنها. وكما تشير مفردة السّوءة إلى ما سيخرج من جسميهما من نجاسة غريبة عن بيئة الجنّة النّقيّة من كلّ دنس، فهي تومئ أيضا إلى بؤرة هذه النّجاسة التي بقيت تمثّل أدنى مستوى الحياء عند البشر. وإذ لا خلاف مع رأي هيدغار في أنّ «الحقيقة في جوهرها لا تحجب»، إلّا أنّ عري الحقيقة في ظاهره بشاعة وقبح لا بدّ من طمسه.
الحقيقة بين الرّغبة في تعرية جوهرها ووجوب ستر جليّ عورتها مسألة تناولها الأدباء والمفكرون، عادت بهم بحوثهم إلى عصور قديمة لفهم فلسفة العريّ والتّعرّي، وتلمس أغراضه وأساليبه عبر المعالم الأدبيّة والفنّية التي يرتكز عليها التّراث الفكري للشّعوب. ولكن هل فهمنا يوما جوهر هذه الحقيقة التي «كلمّا أمسكت بها بين يديّ يقينا لا ريب فيه، فاضت وانسكبت بين أصابعي، ثمّ تلاشت حتّى لم يبق إلاّ شذاها ينبئني أنّها بعيدة عنّي بُعد أجزاء اللّحظة وقريبة منّي قرب بوّابتي الدّهر»(3).
ولو اعتبرنا الحقيقة كائنا يكسب الأشياء معانيها لملنا إلى الاعتقاد أنّها لعوبة تهزأ بنا نحن البشر من كثرة تقلّبها وتلوّنها. ولو حسبناها كائنا مثلنا تتمتّع بمشاعر وأحاسيس، لأشفقنا عليها من شدّة المصائب التي حلّت بها. أي حرب من كلّ الحروب التي قامت بين البشر لم يكن غرضها طمس الحقيقة وإفنائها؟ هكذا هي، كلّما تعرّت سترناها، وكلّما طمسناها زاد عريّها وتعرّيها شماتة في كلّ قليل حياء.
ثلاثة نماذج لا تخفى على المهتمّين بالفكر والشّأن الأدبي، بل شغلت أذهانهم وأسالت حولها حبرا كثيرا، نتأمّل من خلالها كيف أنّ المختصّين اليوم لم يتجاوزوا وجهات النّظر السّائدة في شأن خصائص الحقيقة السّافرة – المتحجّبة. فالجاحظ قد عالج بأسلوب مميّز مسألة إخفاء الاسم بالنّسي أو باعتماد الكنية عوضا عنه، وفيما تعمّد من إبهام أو ما سمي «إخفاء ما لا يخفى»(4). فحقيقة الجاحظ أنّه كان يخاف من طعن الحاسدين إن نسب إلى نفسه الكتاب الذي يخرج من بين يديه، وذلك لجودة نظامه وحسن بيانه ووفرة معانيه. وكان في نفس الوقت يحسد من سينسب إليه ما كتب، فوجد الجاحظ نفسه يظهره مبهما غُفلا حتّى يبقى الكتاب مجهول المؤلّف. هذا الأسلوب الذي بعد قرون، يفسّره مختصون في علم الاجتماع بنفور الشّعوب من كلّ محدث، حتّى أصبح البعض يتلافى أن ينسب الفكرة لنفسه وينسبها إلى شخص آخر، أو يحمل المتلقّي على الاعتقاد في أنّه استقاها من دراسات قديمة.
لمّا اعتمد الجاحظ هذا الأسلوب اعتمادا على ذكائه المفرط وثقته في النّفس دون غرور، وهو الذي كان يؤْثر السّهولة على التّعقيد، والوضوح على الغموض، ولم يعرف بكلمة غير مسموعة أو بلفظة غير مصنوعة، فقد تعمّد التّوحيدي إتلاف كتبه بحرقها أو غسلها. ومردّ ذلك حسب زعمه، أنّه شقّ عليه أن يدعها لقوم يتلاعبون بها، ويدنّسون عرضه إذا نظروا فيها، ويشمتون بسهوه وغلطه إذا تصفّحوها، ويتراءى نقصه وعيبه من أجلها.
النّموذج الثّاني هو ما ترمز إليه اللّوحة الفنّية «الحقيقة العارية» التي رسمها جون ليون جيروم سنة 1896 وتشخّص الأسطورة الشّعبيّة حول الصّراع التّاريخي بين « الحقيقة والكذب». وهذا فحواها:
تقابل الكذب والحقيقة في يوم جميل، فاستدرجها لتقضي اليوم تتمشّى معه. وأثناء جولتهما مرّا ببئر. وماء البئر عذب وجذّاب. فاستدرجها الكذب ثانية لينزلا ويغتسلا بالماء النّقي وينتعشا. نظرت الحقيقة إليه في شكّ للمرّة الثّانية، ثمّ لمست الماء، وما لبثا أن تجرّدا من ملابسهما ونزلا الى البئر. ولمّا اطمأن الكذب، خرج من البئر مسرعا ولبس ملابس الحقيقة وجرى هاربا.
وجدت الحقيقة نفسها عارية، ولم تجرؤ المسكينة على الخروج بين النّاس حتّى لا تخدش حياءهم. فرجعت إلى البئر واختبأت به ولم تخرج منه مرّة ثانية من شدّة خجلها. ومن وقتها والكذب في ثوب الحقيقة يلفّ العالم دون حرج.
والعمل الثالث الذي يتزامن فعله وأثره مع كلّ جيل يتمثّل في قصّة «ملابس الامبراطور الجديدة» للدّنماركي «هانز كريستوفر أندرسن» التي كتبها سنة 1837. وتدور القصّة حول ملك يقنعه محتلان بأن يصنعا له بدلة خفيّة لا يراها الذي لا يصلح لمنصبه أو الأحمق وعديم الكفاءة. وعندما يخرج الملك أمام رعيّته بملابسه الجديدة، لا يتجرأ أحد على الجهر بما ترى عيناه، باستثناء طفل صرخ بصوت البراءة فقال «لكنّ الامبراطور لا يرتدي شيئا على الإطلاق!».
لقد استلهم اندرسن قصته من نظائر قديمة لنفس قصّة «الملك العاري»، واستند إليها لتحيينها وإسقاطها على مجتمعه. وذلك لما وجده في الأثر الأدبي من حكمة وثراء، وما تميّزت به القصّة من عمق وصدق.
وتبقى قصّة الملك العاري هذه فاعلة صالحة لكلّ زمان ومكان ودائمة غير قابلة للاندثار. ومن ميزاتها الثّمينة أنّها تفاعليّة حيث يجد كلّ من يقرأها نفسه معنيّا بالخوف الذي يتملّكه، ومهووسا بعريّ الملك المكبوت وغير المعلن. كما بقيت القصّة عارية حيث لا نعرف شيئا عن مصير الطّفل بعد أن انتقل ما قاله «ولكنّه لا يرتدي شيئا على الإطلاق» بين النّاس همسا ثمّ صدح بأصوات عاليّة. ولا نعرف كذلك مصير أبيه الذي هتف: «استمعوا لصوت البراءة».
فقصّة الملك العاري حقيقة عارية عراء قارئها الذي لا يستطيع إلاّ إلباسها من الثّوب الذي يستره. ارتأيت أن أذكّر بمحتواها، مقتبسا بما يتناسب مع واقعنا الحالي، ومنطلقا من المنقول الوارد بكتاب «نسيان ما لا ينسى» للدكتور العادل خضر(5) حيث تناول بيان السّرّ أو ما لا نريد قوله من خلال ما يُرى وما لا يُقال في قصّة الملك العاري. ويأتي هذا البيان كوجه من وجوه القول المسلوب أو ما يسمّى المسكوت عنه، مدعّما ببيان عمليّة الإخفاء والتّستّر كما يراها التّوحيدي وبديع الزّمان الهمذاني. ولمّا أردتّ معالجة النّص والتّصرّف فيه بما يتناسب مع واقعنا، وجدتني ملزما قناعة بأنّ على قدر ما يحمل ما قيل من تأويل لا يتحمّل القول أي تحويل. فانكفأت وتركت القصّة على حالها.
الهوامش
(1) جاك دريدا (بالفرنسية: Jacques Derrida) (1930 - 2004)، هو فيلسوف وناقد أدب فرنسي ولد في مدينة الأبيار بالجزائر يوم 15 يوليو 1930 - وتوفي في باريس يوم 9 أكتوبر 2004.
(2) الشاهد رفيق، تمتمات- «هل تقبلوني ضيفا عاريًًا تمامًًا» ؟ الإصلاح عدد 179 - 03/06/2022
(3) الشاهد رفيق، تمتمات-«سداسية حائر»، :مجلّة الإصلاح عدد 18 - 30/11/2012
(4) «نسيان ما لاينسى أو صور الاصل في الأدب»، أ.د. العادل خضر، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والفنون والانسانيات بمنوبة-جامعة منوبة، الناشر: الدار التونسية للكتاب، الطبعة: الاولى، تاريخ النشر: 2015م
(5) نفسه
|