تحت المجهر

بقلم
مليكي مروى
العلمانية في فكر محمد أركون (2-5) في مفهوم العلمنة
 مدخل مفاهيمي للعلمنة
ينطق البعض هذه الكلمة بكسر العين وينسبها إلى العلم، وينطقها البعض الآخر بفتح العين وينسبها إلى العالم. وهي من المصطلحات حديثة الاستعمال في اللّغة العربيّة، ولم تكن موجودة بلفظها ومفهومها في المجتمع الإسلامي منذ تاريخه المديد، بل من المصطلحات الوافدة. كما يرى بعض الباحثين أنّ كلمة علمانيّة لا يمكن أن تنسب للعلم، فترجمة الكلمتين:secularite secular  والتّرجمة الصّحيحة عند البعض الآخر هي اللاّدينيّة، أو الدّنيويّة، لا بمعنى ما يقال الأخرويّة فحسب، بل بمعنى أخصّ ودوما له صلة بالدّين. تُعرّف دائرة المعارف البريطانيّة العلمانيّة كونها «حركة اجتماعيّة تهدف إلى صرف النّاس وتوجّههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدّنيا وحدها». لقد بدأ النّاس في عصر النّهضة يظهرون تعلّقهم الشّديد بالإنجازات الثّقافيّة والبشريّة أو بإمكانيّة تحقيق مطامعهم في هذه الدّنيا، وظلّ هذا الاتجاه يتطوّر باستمرار خلال التّاريخ الحديث كلّه باعتباره حركة مضادّة للدّين ومضادّة للمسيحية (1) .
مفهوم العلمنة عند أركون
كان محمّد أركُون أحد المفكٍّرِين العرب البارزين في مجال الدٍّراسات الإسلاميّة والفكر النّقدي، ويتمحور مفهوم العلمنة عنده حول ضرورة إعادة النّظر في التُّراث الإسلامي وفصله عن السّلطة الدّينيّة والسّياسيّة وإعادة الفكر الإسلامي على أسس عقلانيّة وعلميّة.
يرى أركون أنّ العلمنة ليست مجرّد فصل الدّين عن الدّولة بل هي عمليّة أعمق تشمل إعادة التّفكير في الأسس المعرفيّة والثّقافيّة التي يقُوم عليها المُجتمع الإسلامي. ويعتقِدُ أنّ العلمنة يمكن أن تُساعد في تحرير الفكر الإسلامي من التّفسيرات التّقليديّة والجامدة وبالتّالي تعزيز التّقدّم الاجتماعي والثّقافي.
قدّم محمّد أركون تعريفًا معقّدًا وشاملا للعلمانيّة يتجاوزُ التّعريفات التّقليديّة، فهي بالنّسبة له ليست مجرّد فصل الدّين عن الدّولة، بل هي عمليّة ديناميكيّة تتطلّب إعادة النّظر في الأطر الفكريّة والثّقافيّة التي تحكُمُ المُجتمعات الإسلاميّة، ويُمكن تلخيص رؤية أركُون للعلمانيّة في النّقاط التّالية:
1. العلمانيّة النّضاليّة
لقد قام صاحب نقد العقل الإسلامي بتحليل العلمانيّة من خلال ممارساتها في الغرب، فهناك أوّلا «ما يُمكنُ أن ندعوه بالعلمانويّة المناضلة والوضعيّة التي تعتبر -بدأ من عصر النّهضة- أنّ الموقف الدّيني لا يتوافق أبدًا مع موقف العقل المستقلّ وهذه المرحلة [أي مرحلة التّقدّم الذي حقّقه الغرب في ميدان المعرفة] تحذفُ كليّا الموقف الدّيني وتعتبره شيئا قديما باليًا»(2)، لذلك قامت العلمانيّة الصّراعيّة بتحرير الفكر وصنّاع القرار من رجال الدّين الإكليروسين، وسُلُطاتِهم المرعبة، وقادت على مهل تفسيراتهم الكهنوتيّة، وتأويلاتهم المتوحّشة للشّرع والمستندة إلى الأوهام، والشّكوك والأساطير(3). وهكذا تمّ تبنّي هذا الموقف فترة طويلة من الزّمن، في أوروبا الغربيّة، وخصوصا في فرنسا، هيمنت على الأوساط الفكريّة والثّقافيّة، وأوساط الباحثين، وليس فقط على السّياسيّين الذين يريدون فصل الكنيسة عن الدّولة»(4). وبالتّالي اقترنت العلمانيّة كشعار إيديولوجي موجّه أساسا من طرف نخبة المجتمع الغربي، بحرّية التّفكير وذلك من الفضاء العقلي القروسطي إلى الفضاء العقلي الحديث، وأصبح علماء الطّب والبيولوجيا والقانون هم الذين يحدّدون السّلوك الأخلاقي المستقيم وليس رجال الدّين(5)، وهكذا أصبح العقل الغربي الذي يشكّل أساسا الحضارة الغربيّة نظاما معرفيّا معبّرا عن حاجات معيّنة بمضامين عمليّة، وهذا ما مكّنه من فرض هيمنته على «العالم حسب نجاحاته التكنولوجيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة الصّارخة»(6). وبذلك «انتزعت الدّولة الأوروبيّة الحديثة من الدّين ذروة القيم الأخلاقيّة التي تؤمّن المحافظة على التّماسك الاجتماعي للشّعب، وترسّخ التّضامنات الحيويّة اللاّزمة لحياة المجتمع، وبالتّالي لم يكن للدّين من وجود يذكر في الحياة العامّة للمجتمع»(7). ومن هنا تبلور الموقف الصّراعي، والنّضالي الموجّه أساسا ضدّ سلطة الإيكليروس، وراح هذا الموقف العلماني يفرض إيديولوجيّته عن طريق «الفلسفة الذّرائعيّة [أي الفلسفة التي تعتمد على العقل الأدواتي الذي يسعى لتحقيق المزيد من الرّبح المادّي] والوظائفيّة التي تقبع خلف الممارسة منذ تمّ حذف كلّ أشكال التّعالي»(8)، وهذا من شأنه أن يعرض البشريّة لتمزّقات لا نهاية لها.
ويؤكّد صاحب العلمنة والدّين أنّ هذا الموقف الصّراعي الذي فرضته ظروف عديدة في الغرب ضدّ السّلطة قد تفاقم «في الغرب إلى حدّ بعيد بسبب الماركسيّة، فقد نظرت الفلسفة الماركسيّة لتطوّر الأمور على هذا الشّكل ... وراحت هذه النّظريّة تقول بأنّ العامل الدّيني ليس إلاّ قشرة سطحيّة أو بنية قليلة الأهمّية»(9)، ما جعل التّجربة الماركسيّة في صراعها مع الدّين الرّجعي الخاصّ بالتّراث الأوروبي الغربي تعبّر عن تحرّر الفكر من الدّين.
ومن هنا يمكن القول بأنّ هذا الموقف أي موقف العلمانيّة النّضاليّة شكل إيديولوجيا أحاديّة الجانب تتموضع داخل عقلانيّة وضعيّة تحذف الجانب الدّيني من ساحة اهتماماتنا، غير أنّ أركون يرفض هذا التّفسير الاختزالي والنّاقص لأنّ «التّجربة تثبت لنا وعلم الأنثروبولوجيا المقارن يثبت لنا أنّه لا يمكن أن يوجد مجتمع بشري بدون تقديس أو دين، فالتّقديس حاجة إنسانيّة والعامل الدّيني حاجة إنسانيّة أيضا» (10).
2. العلمانيّة المنفتحة 
في مقابل العلمانيّة الوضعيّة، كما أوضحها أركون، كان لابدّ من إيجاد صيغة جديدة للعلمنة، تكون منفتحة على كلّ أبعاد الإنسان بما فيها البعدين الرّوحي والدّيني، لذا ألحّ أركون على تأصيل ما يسمّيه «العلمانيّة المنفتحة» التي تولي أهمّية كبرى للبعديْن الرّوحي والدّيني لدى الإنسان. وربّما ساعد إلحاح صاحب نقد العقل الإسلامي على ضرورة علمانيّة جديدة ذلك البتر في الحضارة الغربيّة خاصّة في أوروبا «للبعد الرّوحي أو البعد الثّقافي، والتّاريخي للأديان، فيما أنّه لا توجد ثقافة دينيّة، أي ثقافة تهتم بدراسة الأديان، وكيف نشوئها، وتطوّرها، ووظائفها في المجتمع، فإنّ النّاس يظلّون الطّريق ويذهبون لأي مكان لإشباع حاجيّاتهم الرّوحيّة»(11) .
ومن هذا المنطلق نلاحظ أنّ «التوتّر الدّاخلي، والحنين إلى الخلود، والأبديّة يشكلان بعدان أساسيّان من أبعاد الإنسان»(12)، لأنّ الإنسان كما يعتقد أركون «لا يعيش فقط بالمادّيات والاستهلاك المادّي فقط ... الإنسان بحاجة إلى أن يتجاوز شرطه المادّي من وقت لآخر، لكي يعانق شيئا أكثر دواما، واتساعا، أي أقلّ عبوديّة وآنيّة»(13)، ما يعني أنّ البعد الرّوحي يمثّل بعدا أساسيّا من أبعاد الإنسان التي يعمل الدّين على إشباعها، لأنّ «الدّين اليوم يمثل بعدا مهمّا لا يمكن تجاهله حتّى، ولو لم يكن ذلك إلاّ نظرا للعدد الكبير من النّاس المؤمنين به»، لهذا ألحّ أركون على ضرورة «إقامة مقارنة جادّة وصارمة إلى أبعد حدّ ممكن بين البعد الدّيني بكلّ ما يعنيه من قيمة روحيّة بالنّسبة لوجود البشر، وبين فتوحات الحرّية التي حقّقها العقل العلماني في أوروبا»(14)، ومن ثمّ فهو يدعو إلى إقامة ثيولوجيّة حرّة، وجادّة، وحياديّة بين المفكّرين العلماني والدّيني تهدف إلى إلغاء ملابسات الاستبعاد القائمة بينهما من جهة، ومحاولة الحفاظ على التّعدّدية الدّينيّة أو المذهبيّة بين الجميع من جهة أخرى.
من هنا يمكن القول بأنّ صاحب نقد العقل الإسلامي يلحّ على إبعاد الطّريقة التّقليديّة في التّعليم لأنّها تثير الحساسيّة الدّينيّة بين الطّلاب (إسلامي ، يهودي ، مسيحي ...)، أو حتّى داخل الدّيانة الواحدة (الكاثوليك مع البروتستانت والسّنّة مع الشّيعة ... )، وفي المقابل أكدّ على «إدخال مادّة تاريخ الأديان المقارن، والأنثربولوجيا الدّينيّة: أي دراسة الدّين كظاهرة أثربولوجيّة (أوإنسانيّة) لا يمكن أن يخلو منها أي مجتمع بشري، فقيرا كان أم غنيّا، متخلّفا كان أم متقدّما»(15)، لأنّ «علم تاريخ الأديان ... يقف موقفا حياديّا من كلّ الأديان، والمذاهب، والطّوائف»(16)، وهذا ما مارسه أركون في تعليمه، ودروسه في جامعة السّربون من خلال تدريسه للأنظمة الدّينيّة واللاّهوتيّة ضمن منظور تاريخي، وعملي مسؤول، أمّا بعض «مفكري أوروبا [أمثال فوكو، ودريدا، وهبرماس] إذ يستمرون بالعمل، والتّفكير داخل إطار الفكر المعلمن كلّيّا، ويستبعدون بشكل قطعي كلّ ما يخصّ البعد الدّيني من إنتاج المجتمعات البشريّة فإنّهم يجترحون عملا تعسفيّا، لا منطقيّا، لا عقليّا»(17) فمثلا «يؤلّف هابرماس كتابا [أي كتاب «الخطاب الفلسفي للحداثة»] فكريّا عالي المستوى عن أربعة قرون من الحداثة الفكريّة، والفلسفيّة، ولا يشير ولو بإشارة واحدة إلى الفكر الدّيني المسيحي أو غيره، وفوكو يفعل الشّيء نفسه»(18)، وهذا ما يرفضه أركون لأنّه «من غير المقبول أن لا تهتمّ هذه الثّقافة العلميّة المتقدّمة بتاريخ الأديان، وبالمقارنة العلميّة الحرّة، والصّريحة بينهما»(19) لأنّ هذه المقارنة هدفها تنمية الحسّ النّقدي لدى الطّلاب، وتوجّههم للتّحلّي بالفهم الحرّ تجاه العقائد الدّينيّة التي فرضت سلطتها على البشريّة عدّة قرون.
إنّ المفهوم المنفتح الذي قدّمه أركون عن العلمنة يضع العاطفة الدّينيّة في منأى عن كلّ الأغراض، كما يفكّ الارتباط بين مؤسّسات الدّولة وخاصّة المؤسّسات التّعليميّة وطبقة رجال الدّين، لأنّ الدّولة العلمانيّة حياديّة، تتعاط مع التّعدديّة بمختلف أشكالها تعاطيا قائما على المساواة.
 لقد كان لمحمد أركون المفكر والفيلسوف الجزائري دور كبير في تناول موضوع العلمانيّة داخل الفكر الإسلامي، فقد ركّز على إعادة تفسير النّصوص الدّينيّة الإسلاميّة بطرق جديدة تتناسب مع متطلّبات العصر الحديث. وهو يرى أنّ العلمانيّة ليست مجرّد فصل الدّين عن الدّولة، بل هي إطار تحليلي يسمح بفهم الدّين بطرق جديدة. ويؤكّد أنّ العلمانيّة توفّر فضاءً للتّفكير النّقدي ممّا يساعد في تجاوز التّفسيرات الجامدة والتّقليديّة للنّصوص الدّينيّة.
موقف محمد أركون من العلمنة
يحثّ أركون صراحة ودون أيّ إحراج المجتمعات العربيّة الإسلاميّة على انتهاج المنهج العلماني، فهو يراها إحدى المكتسبات البشريّة، وهي في تصوّره «مفيدة جدّا عندما نفهمها جيّدا ونستطيع أن نتفهّمها ونهضمها ونسيطر على تعاليمها وما تتيح لنا أن نفعله»(20). كما يعتقد أركون أنّ العلمانيّة هي المبدأ الضّروري لأيّ مجتمع، يهدف إلى تحقيق الحداثة بنوعيّتها المادّية والفكريّة، والخروج من التّخلّف والانحطاط، لأنّه بفضل العلمانيّة فقط يتخلّص المجتمع من سيطرة رجال الدّين، وذلك بتحديد وظيفة الدّين في الجانب الرّوحي فقط دون الدّنيوي، ممّا يكسب الفرد حرّية مطلقة على مستوى التّفكير بالأساس وخلق مجتمع وطني متماسك وهذا ما شهدته الدّول الأوروبيّة والمجتمع الفرنسي بشكل خاصّ.
انطلاقا من هذا الفهم للعلمنة يعتقد أركون أنّه من الضّروري بل من الواجب علينا أن نعيد تعريف العلمانيّة فيقول: «أنا شخصيّا علماني وأناضل في الأوساط الإسلاميّة تماما، كما أناضل هنا في فرنسا، من أجل علمانيّة منفتحة»(21)، فمشكلة العلمنة تظلّ مفتوحة للجميع، والمجتمعات الإسلاميّة في حاجة ملحّة للتّنظير للعلمانيّة لتحويلها من «مفهوم يعبّر عن روح تجربة تاريخيّة معينة، إلى مفهوم قابل للاستثمار الرّمزي في أفق فكري أشمل وأعم»(22)،  فهناك حاجة داخل المحيط العربي الإسلامي إلى بناء نظريّة للعلمنة من شأنها أن توفّر الشّروط والإطار الذي يمكّنها من حلّ العديد من المشاكل التي تعانيها «فوحده الموقف العلماني في اعتقاد أركون، بشرط أن نفهمه جيّدا، قادر على تحريك الأمور وطرح الإشكاليات»(23).
فأركون يدعو إلى علمانية منفتحة ذات وجه إسلامي مستنير ليست متناقضة للدّين وإنّما متناقضة بأن يحوّل الدّين إلى نظام إيديولوجي هدفه الوصول إلى السّلطة أو تحقيق المزيد من السّلطة(24)، وفي هذا الصدد يقول: «أقول بأنّ العلمنة التي أدعو إليها العالم الإسلامي ليست مضادّة للدّين، وإنّما هي فقط لمنع استخدام الدّين لأغراض سلطويّة أو انتهازيّة أو منفعيّة، يجب تنقية الدّين الإسلامي من الشّوائب التي علقت به على مرّ القرون»(25).
من أهداف العلمنة بشكل أساسي المطالبة بالحرّيّة الفكريّة من خلال مجابهة السّلطات الدّينيّة التي تخنق هذه الحرّية. فالسّياسة الحديثة تقوم بشكل أساسي على الانفصال التامّ بين الدّولة والدّين الذي يؤدّي إلى الانفصال بين الدّولة والمجتمع المدني، ما يحقّق الحرّية التّامّة للدّين واستقلاليّة مطلقة للدّولة عن الدّين، وهذا ما يسمّيه موريس باريه بالحداثة السّياسيّة. وهذا ما حاول المجتمع الأوروبي بشكل عام وفرنسا بشكل خاصّ تحقيقه، وقد ثمّن أركون عمل البورجوازيّة العلمانيّة لأنّها تمكّنت من تقويض سلطة الكنيسة،وفرض سلطتها بشكل مطلق، إذ يقول «إنّ البورجوازيّة العلمانيّة عندما قضت على السّلطة الكهنوتيّة لرجال الدّين قد أنجزت عملا ضخما وقفزت إلى الأمام خطوة كبيرة في اتجاه التّقدّم وتحقيق الشّرط البشري»(26). وهذا التّحرّر لم يكن ليتحقّق لولا الفصل بين السّلطة المدنيّة والسّلطة الدّينيّة وذلك بتحديد وظيفة كلّ منهما، على أنّ وظيفة الأولى خاصّة بالشّؤون الدّنيويّة، أمّا الثّانية فهي تتعلّق بالشّؤون الرّوحيّة فقط، وليس لها حقّ التّدخّل في السّياسة ومساندة سلطة سياسيّة معيّنة لأنّ ذلك سيفقدها حتما هيبتها الرّوحيّة ويدخلها في الصّراعات الدّنيويّة، وهذا ما حدث في المجتمع الأوروبي بالضّبط، ذلك أنّ«تخليص المسيحيّة من الهموم السّلطويّة والدّنيويّة العابرة وإعادتها إلى وظيفتها الأساسيّة كان مفيدا جدّا للمجتمعات الأوروبيّة بل وللدّين المسيحي بالدّرجة الأولى»(27) .
وعند تحقيق هذا المبدأ، أي فصل الدّين عن الدّولة يتحقّق مبدأ المساواة المطلقة بين مختلف أفراد الشّعب، وذلك للقضاء على التّعصّب والصّراع الذي يؤدّي لا محالة إلى الانهيار والانحطاط، ولذلك عمد المجتمع الفرنسي إلى منع تدريس الدّين في المؤسّسات التّربويّة للحفاظ على وحدة المجتمع ومن ثمّة النّهوض به.وهذا في نظر المجتمع الفرنسي يحقّق الوحدة بين مختلف الفئات لأنّهم يدرسون مادّة واحدة وهي مادّة العلم لا الدّين، والعلم بطبيعة الحال لا علاقة له بحقيقة مذهبيّة معيّنة ما يجعل المجتمع أكثر مدنيّة وأكثر تماسكا، ذلك أنّ تعليم الدّين على الطّريقة المذهبيّة التّقليديّة سوف يخلق التّمايز بين التّلاميذ، ويثير العصبيّات الدّينيّة القديمة التي عانت منها فرنسا كثيرا، ولذلك كان عليها إقصاء الدّين من البرنامج الدّراسي حتّى تقضي على الفرقة والشّقاق، وتتمكّن من توحيد المجتمع المدني(28).
انتبه أركون إلى أنّ العلمانيّة قد تقع في المشكل نفسه الذي وقع فيه الدّين وتصبح هي الأخرى عقيدة إيديولوجيّة تضبط الأمور وتحدّ من حرّية التّفكير كما فعلت المسيحيّة سابقا، والعلمانيّة النّضاليّة المعادية للكهنوت في الغرب ربّما تسير في هذا الاتجاه نفسه(29). ووقوع العلمانيّة في هذا المشكل، راجع بشكل أساسي في نظر محمد أركون إلى أنّها لم تحلّ مشكلة الدّين بطريقة عقليّة وإنّما حلّتها عن طريق القوّة، وهذا يؤدّي بالضّرورة إلى الاضطهاد ومن ثمّ إلى التّمرّد(30).
هذا يعني أنّ العلمانيّة الفرنسيّة لم تكن منفتحة تماما على كلّ العلوم، بما فيها الدّين، لأنّها اهتمت بالعلم المادّي، وأهملت الدّين وبذلك فهي علمانيّة مغلقة، كانت تظنّ أنّ العلم بإمكانه أن يحلّ كلّ المشاكل التي تطرح على الفرد على مرّ العصور، ولكن هيهات فقد حلّ مشاكل كثيرة لكنّه لم يحلّ كلّ شيء(31)، وخاصّة ما يهمّ الجانب الإنساني الرّوحي، فهذه تتجاوز حدود العلم وآلياته ولذلك لابدّ أن نعتمد في حلّها على الدّين، ذلك أنّ الأديان لا تتعلّق وظيفتها فقط بالشّرح والتّفسير وإنّما بتقديم أجوبة عمليّة قابلة للتّطبيق والاستخدام المباشر، في ما يخصّ علاقتنا بالوجود والآخرين والمحيط الفيزيائي الذي يلفّنا وحتّى الكون كلّه(32)، مثل تعريفه للخالق وغيرها، فجهل المجتمع الفرنسي بدينه أصبح من غير الممكن تجاوزه لأنّ الدّين مبثوث في شتّى القضايا المعرفيّة وخاصّة الأدبيّة والتّاريخيّة منها لا يمكن فهمها إلاّ بتاريخ المسيحيّة لأنّ النّصّ مليء بالمرجعيّات والإشارات إلى تاريخ المسيحيّة، وبدون تلك المعرفة لن يتمكّن من فهم النّصّ وشرحه للتّلاميذ(33).
وعليه فإنّ حذف المجتمع الفرنسي العلماني جانب الدّين من برنامجه الدّراسي، أنتج إنسانا جاهلا بحقيقة دينه من جهة وبحقيقة الأديان من جهة أخرى وخاصّة الدّين الإسلامي باعتباره يشكّل الدّين الثّاني في فرنسا (34)، وعلى المجتمع الفرنسي أن يهتمّ بالجانب الرّوحي مثل اهتمامه بالجانب المادّي، وأن يحدث التّوازن بينهما لتتّزن شخصيّة الفرد ويستقيم سلوكه ويبتعد عن كلّ ما هو جنوني ولا عقلاني. 
وهكذا فالعلمانية الإيجابيّة هي التي تهتمّ بالدّين وتحافظ على وظيفته داخل المجتمع إلى جانب اهتمامها بتحقيق المساواة بين مختلف الأفراد باختلاف دياناتهم، يمكننا معرفة ذلك من خلال استقراء مكانة محمد أركون في المجتمع الفرنسي من خلال نقده للعلمانيّة المطبّقة في فرنسا، فهو يحدّد الايجابي منها في الانفتاح والتّطوّر على الجانب العلمي إلاّ أنّها لم تهتم بالجانب الدّيني تماما، وهذا موقف سلبي منها تجاه الدّين(35).
هذا الموقف لأركون موقف علمي مؤسّس، غير أنّه لم يحض بالحرّية الفكريّة التي تنادي بها فرنسا في إطار العلمنة وإنّما تعرّض إلى الاضطهاد. يقول أركون في هذا الصّدد: «انهالت عليّ أعنف الهجمات بسببها ولم يفهمني الفرنسيّون أبدا، أو قل الكثيرون منهم، ومن بينهم بعض زملائي المستعربين على الرّغم أنّهم يعرفون جيّدا كتاباتي ومواقفي، لقد أساءوا فهمي ونظروا إليّ شزرا وشعرت بالنّبذ والاستبعاد إن لم أقل بالاضطهاد».(36) 
في الحقيقة يرجع هذا الاضطهاد إلى كون أركون إنسانا جزائريّا مسلما، وهذا الانتماء يجعله أقل شأنا من الإنسان المسيحي الفرنسي الذي يحقّ له نقد كلّ شيء، ومن ثمّ فالحقوق ليست واحدة وكذلك الواجبات، فالفرنسي له الحرّيّة المطلقة في نقد أمور كثيرة والتّعليق عليها أمّا الفرنسي ذو الأصل الأجنبي فليس له الحقّ فيها، فهو مجبر على تقديم أمارات الولاء والطّاعة والعرفان بالجميل، وباختصار فإنّه مشوه باستمرار خاصّة إذا كان من أصل مسلم (37) ،وهذا يعني أنّ مكتسبات العلمانيّة وفي مقدّمتها المساواة بين الجميع على اختلاف مذاهبهم وأديانهم غير متحقّقة على أرض الواقع، ذلك أنّ الشّيء الملموس هو الاضطهاد الذي يتعرّض له المضطهد والمنبوذ، فالعلمانيّة هنا هي علمانيّة متطرّفة، ودليل أركون على ذلك أنّ نقد عقل التّنوير يعود إلى فترة أقدم من حيث الزّمن، إذ فرضت الحركات العمّاليّة في القرن التّاسع عشر وكذلك التّنظيرات الماركسيّة النّقد النّظري والعملي لهذا العقل، وإن كان هذا النّقد قد انجرّت عنه نتائج سلبيّة منها سقوط الشّيوعيّة وانحسار الايديولوجيّة الماركسيّة، إلاّ أنّه بقي مقبولا مقارنة لو أنّ مثقّف مسلم فإنّه يُتّهم على الفور بالأصوليّة ومحاولة إحلال العقل الإسلامي المتزمّت محلّه(38)، وهذا دليل قاطع على أنّ المسلم إلى اليوم مازال متّهما من الغرب لا لشيء إلاّ لاعتناقه الدّين الإسلامي.
هذا إلى جانب أنّ وسائل الإعلام في فرنسا كما في غيرها من البلدان الغربيّة تقوّي المتخيّل السّلبي أو الصّورة السّلبية المشكّلة على الإسلام والعرب وتقلّص من حجم المكانة التي تولّيها إلى المثقّفين الجادّين والقادرين على توضيح الأمور بشكل صحيح وضروري، وهذا ما تعرّض له أركون ذاته فيقول في ذلك: «كثيرا ما يتاح لي أن أتحدّث أمام الجمهور الأوروبي في فرنسا وألمانيا أو هولندا أو إنجلترا ... وعندما أتطرّق إلى دراسة التّطوّر التّاريخي للعقل في أوروبا من جهة نظر نقديّة فلا أحد يهتمّ بكلامي، فقط يهمّهم التّركيز على الصّورة الهوسيّة للإسلام باعتباره خطرا يهدّد الغرب وحضارته ... وما عدا ذلك لا يريدون أن يسمعوا منّي شيئا»(39). ومن هنا يمكننا القول أنّ العلمانية التي ينشدها الغرب هي علمانيّة طوباويّة لا يمكن تحقيقها في الواقع لأنّ الإنسان لا يمكن أن يتجاوز رغباته وأنانيته وطموحاته السّلطويّة. ما تحقّق سابقا في عهد الأرثوكسيّة الكلاسيكيّة يتحقّق اليوم وإن كان بأقلّ حدّة فقط وهذا ما يعكس موقف السّلطة الفرنسيّة العلمانويّة على حدّ تعبير أركون من الحجاب الإسلامي.
إنّ محمد أركون يرى أنّ العلمنة تتعلّق أساسا بإرادة المعرفة والفهم، وهي نضال من أجل تحرير هذه الإرادة من كلّ عائق أو ضابط لها، «فالعلمنة يجب أن تؤخذ كمصدر للحرّية الفكريّة وكفضاء تنتشر فيه الحرّية»(40)، لأنّ العلمانيّة والحرّية مفهومان مترادفان في اعتقاده، ويؤكّد أركون هذا المعنى في قوله: «فالعلمنة التي أفهمها تتركّز في مجابهة السّلطة الدّينيّة التي تخنق حرّية التّفكير في الإنسان ووسائل تحقيق هذه الحرّية... إنّ العلمنة تتركّز فقط في الإلحاح على حاجة الفهم والنّقد داخل توتّر عام في الإنسان، بمواجهة (ضابط) ما موجود وضروري أن يوجد، سواء كنّا نعيش في مجتمع الدّولة - الكنسية أم في مجتمع الدّولة القوميّة الحديثة»(41)، وبهذا نستنتج أنّ قناعة أركون تتمثّل في أنّ العلمنة «أوّلا، وقبل كلّ شيء، إحدى مكتسبات الرّوح البشريّة وفتوحاتها»(42).
يرى محمد أركون أنّ العلمانيّة ليست مجرّد فصل الدّين عن الدّولة، بل هي إطار يسمح بإعادة قراءة النُّصوص الدّينيّة وفهمها بعيدا عن السّلطة السّياسيّة أو الاجتماعيّة التي قد تحرّف معانيها. كان يعتبر العلمانيّة شرطًا ضروريا لفتح المجال أمام حريّة التّفكير والنّقد، وتطوير فهم ديني يتماشى مع متطلّبات العصر. لم يكن أركون معاديًا للدّين، بل كان يدعُو إلى علمانيّة مرنة تراعي الخصوصيّات الثّقافيّة والدّينيّة للمجتمعات الإسلاميّة، بهدف تحرير الفكر الدّيني من الجمود والانغلاق.
الهوامش
(1) بن عبد الرحمان الحوالي(سفر) العلمانية نشأتها وتطورها في الحياة الإسلامية المعاصرة، مكة: دار مكة للطباعة والنشر والتوزيع، د ط، ص ص21ـ22.
(2) أركون، (محمد):العلمنة والدين الإسلام والمسيحية الغرب،دار الساقي، الحمراء، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1996، ص  ص72-73.
(3) الجميل،(سيار):العرب والأتراك والانبعاث والتّحديث من المثمنة إلى العلمنة، مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت لبنان، الطبعة الأولى،أكتوبر1997،ص305
(4) أركون،(محمد): العلمنة والدين الإسلام والمسيحية الغرب، مصدر سابق ، ص 7.
(5) أركون،(محمد): الإسلام، أوروبا،الغرب رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، تعريب هاشم صالح، دار الساقي،بيروت،  لبنان، الطبعة الثانية، 2001،ص 14.
(6) المصدر نفسه، ص 14.
(7) المصدر نفسه، ص 15.
(8) المصدر نفسه، ص92.
(9) أركون،(محمد):العلمنة والدين الإسلام والمسيحية الغرب،مصدر سابق ص ص 73-74. 
(10)  م.ن،  هامش ص128
(11) أركون،( محمد): الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، تعريب هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، لبنان،  الطبعة الرابعة، سنة 2007،  ص211. 
(12) م.ن، ، ص262.
(13) م.ن، ص 262.
(14) أركون،( محمد): الفكر الإسلامي نقد واجتهاد،مصدر سابق، ص 256. 
(15)  أركون،(محمد):الإسلام، أوروبا، الغرب رهانات المعنى وإرادات الهيمنة،م.س، ص213.
(16) م ن، ص214.
(17) أركون(محمد):الفكر الإسلامي نقد واجتهاد،م.س،ص 255. 
(18) م.ن، ص257.
(19)  أركون (محمد) الإسلام، أوروبا، الغرب رهانات المعنى وإرادات الهيمنة،م.س، ص208.
(20) أركون(محمد):تاريخية الفكر الإسلامي، تعريب هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، رأس بيروت ــــ المنارة، الطبعة الثانية، 1996، ص292. 
(21) هالبير(رون):العقل الإسلامي أمام تراث عصر الأنوار في الغرب(الجهود الفلسفية لمحمد أركون)، تعريب جمال شحيد، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، سورية ، الطبعة الأولى، 2001م، ص33.
(22) عبد اللطيف(كمال):مفاهيم ملتبسة في الفكر العربي المعاصر،دار الطليعة للطباعة والنشر،بيروت، لبنان،الطبعة الأولى،1992،ص44.
(23) أركون(محمد):العلمنة والدين،الإسلام والمسيحية الغرب، م.س، ص7.
(24) أركون(محمد):قضايا في نقد العقل الديني، م.س، ص226.
(25) أركون(محمد):الإسلام، أوروبا، الغرب (رهانات المعنى وإرادات الهيمنة)،م.س، ص203.
(26) نقلا عن أركون(محمد):الإسلام، أوروبا، الغرب (رهانات المعنى وإرادات الهيمنة)،م.ن، ص.203
(27) م.ن، ص 203.
(28)  م.ن، ص205.
(29)  أركون(محمد):تاريخية الفكر الإسلامي، م.س، ص ص 293-294. 
(30) أركون(محمد):الإسلام،أوروبا،الغرب(رهانات المعنى وإرادات الهيمنة)، م.س، ص202.
(31)  م.ن، ص202.
(32) أركون(محمد):العلمنة والدين، م.س، ص23.
(33) أركون(محمد):الإسلام،أوروبا،الغرب(رهانات المعنى وإرادات الهيمنة)، م.س، ص207.
(34)م.ن ص208.
(35) أركون(محمد):الإسلام،أوروبا،الغرب(رهانات المعنى وإرادات الهيمنة،م.س ص205.
(36) م.ن، ص105.
(37) م.ن، ص ص 105-106.
(38) م.ن، ص106.
(39) أركون(محمد):الإسلام أوروبا الغرب(رهانات المعنى وإرادات الهيمنة)، م.س، ص106.
(40) أركون(محمد):الفكر الإسلامي قراءة علمية،م.س، ص183.
(41)  أركون(محمد):تاريخية الفكر العربي الإسلامي،م.س، ص294.
(42) أركون(محمد):الإسلام أوروبا الغرب(رهانات المعنى وإرادات الهيمنة)، م.س،ص9.