بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
محدوديّة المناهج في كتب التّفسير(8) «الإعجاز: المفهوم والإشكالات»
 مدخل
لقد تنزّلت اللّغة من حياة الإنسان منزلة الضّرورة الّتي تميّزه عن كلّ الكائنات الأخرى في هذا العالم. وهذه القضيّة تعود جذورها إلى زمن جهّز اللّه فيه آدم بجهاز التّصويت ونفخ فيه من روحه، فأضحى بذلك قادرا على التّصويت والمحاكاة والفصل بين الدّالّ والمدلول، وذلك بما أوتيه من قدرة على التّجريد. ومن هذا المنطلق، أضحى الاستدلال بالبيان، وإظهار المعاني، حجّة تبرهن عن هذه الميزة المتفرّدة في الإنسان. 
والاصطلاح في اللّغة علامات يُستدلّ بها. وبها يتمّ التّفاهم بين النّاس، إذ اللّغة تُرجمان العلم وبها تتّضح تصاريف الأفكار. ولقد بدت عناية اللّغويّين بضبط القواعد النّحوية والبلاغيّة والعناية بها عناية دقيقة من أجل ضبط نواميس الاستعمال وتحديد مجريات اللّسان بصفة عامة. وهكذا تمّت عمليّة تجاوز ما هو خاصّ في التّداول، إلى الوقوف على ما هو عامّ في ضبط النّواميس المنظّمة. ولربّما تسبّب علم الكلام في دفع هذا التّوجّه المنطقيّ في اللّغة، تجريدا وتقعيدا. يورد الجاحظ في الحيوان أنّ «للعرب أمثالا واشتقاقات وأبنية وموضع كلام يدلّ عندهم على معانيهم وإرادتهم، ولتلك الألفاظ مواضع أخر ولها حينئذ دلالات أخر، فمن لم يعرفها جهل تأويل الكتاب والسّنّة والشّاهد والمثل، فإذا نظر في الكلام وضروب العلم وليس هو من أهل هذا الشّأن هلك وأهلك»(1). ولمّا كان الاستعمال المجازيّ غير منضبط لما يحتوي عليه من توسّع وفرديّة، فإنّ الاتّباع لما كان عليه دأب الأوّلين إنّما هو مبرّر ومشروع، ومن ذلك تسرّبت الرّواية والحفظ حين تضافر المعقول مع المنقول تضافر الشّكل مع المضمون. وإزاء فهم القرآن تمّت دراسات تُعنى بفنّ القول لبلورة مدخل بلاغيّ يلج به الدّارس إلى الفضاء القرآنيّ، ومن ذلك توفّرت أجهزة تحليليّة عمادها المفاهيم الثّاوية في بعض  اصطلاحاته وذلك من أجل اكتناه مكامن البلاغة في الخطاب القرآني وأسرارها.  
ولمّا كان نزول القرآن أهمّ حدث شهدته شبه الجزيرة العربيّة في القرن السّابع للميلاد، فإنّ بعض المستشرقين قد أطلق عليه لفظة الحدث(2). وذلك لبيان آثار القرآن في تشكيل الثّقافة السّائدة آنذاك. فكانت الرّسالة الّتي بشّر بها القرآن متميّزة بخطابها المتّجه لعقل إنسانيّ أكثر نضجا وأشدّ استعدادا للنّهوض بما تضمّنته من أبعاد دنيويّة وإيمانيّة. وقد كانت المسألة اللّغويّة، حسب القدامى، هي الحجّة البالغة الّتي تشهد بصحّتها وإعجازها. وقد أذعن لها أصحاب اللّسان، الّذين كانوا أمّة شِعْر، لما فيها من قوّة البيان وشدّة التّحدّي. وقد أشار الرّمّاني إلى هذه الظّاهرة الدّاعمة لقوّة القول في الخطاب القرآنيّ عندما قال: «الإعجاز هو امتناع الشّيء كامتناع ما يعجز عنه بعض القادرين دون البعض، واللّه جلّ وعزّ قادر عليهم لا يمتنع عليه ما يريده فيهم»(3).
 وإذا دأبت العرب على أفانين من القول، فإنّ المفسّر، حسب ابن قتيبة، يتعيّن عليه الإمساك بهذه الأفانين، يقول: «وإنّما يَعرف فضل القرآن من كثُر نظره واتّسع علمه وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب وما خصّ بها لغتها دون جميع اللّغات، فإنّه ليس في جميع الأمم أمّة أوتيت من العارضة والبيان واتّساع المجاز ما أوتيته العرب»(4). علمًا بأنّ القرآن وإن خرج عن مألوف الكلام فإنّه لم يخرج عن أساليب العرب في أداء المعاني وإنتاجها وقد جرى القرآن من المادّة اللّغويّة وقُدَّ منها. وإذا كان المجاز خروجا عن الكلام العاديّ، فإنّ القرآن قد خرج عن الخروج في الكلام، لذلك سيبحث المفسّرون عن مسالك تضطلع أكثر فأكثر بالمقاصد والمعاني البعيدة(5).
1. المعيار الشّعري
لقد حدت الثّقافة العربيّة الإسلاميّة إلى فهم المعاني القرآنيّة من خلال ما ألفته من المعاني الشّعريّة. وقد اختزل ابن عبّاس هذه المسألة المنهجيّة بقوله:«إذا تعاجم عليكم  شيء من القرآن فانظروا في الشّعر فإنّ الشّعر عربيّ»(6). ولمّا كان الشّعر يمثّل مبلغ علم العرب، فإنّه كان الحجّة البالغة الّتي تشهد بقوّة اللّسان وبلاغته. فقد استقرّ في الوعي البلاغي، أنّ البليغ هو الّذي يقول، مثل امرئ القيس، قولا نابعا من غير رهبة ولا رغبة، بما في ذلك من قصدية البلاغة لأهل البلاغة(7). وقد اعتُبر زهير بن أبي سلمى شاعر الشّعراء، لأنّه لا يتّبع وحشيّ الكلام في شعره ولا يعاظل بين القول(8). 
وتبعا لهذه الرّؤية، انطبع في الوعي التّفسيريّ ما يدلّ على آثار قولة ابن عبّاس. فقد مثّلت الفاتحة، عند المفسّرين، ما يشبه الاستهلال في القصيدة. ولمّا ذُكر في آخر الفاتحة الفريقان: اليهود والنّصارى، فإنّ سورة البقرة استرسلت في الحديث عن اليهود، واستقلّت سورة آل عمران بالحديث عن النّصارى. وقد جاءت سورة البقرة جامعة لأحكام الصّلاة والزّكاة والحجّ. وتواصل بيان هذه الأحكام في آل عمران. يقول السّيوطي في هذا الصّدد: «وهذا وجه بديع في ترتيب السّورتيْن، كأنّه لمّا ذكر اللّه في الفاتحة الفريقيْن، قصّ في كلّ سورة ممّا بعدها حال كلّ فريق على التّرتيب الواقع فيها. ولهذا كان صدر سورة النّساء في ذكر اليهود وآخرها في ذكر النّصارى»(9). وتبعا لذلك، نجد فواتح السّور وأواخرها هي أشبه بما يشترطه النقّاد في القصيدة من حسن ما يقرع السّمع «فعند أهل البيان أنّ من البلاغة حسن الابتداء»(10). ولعلّ الثمرة الطّبيعيّة لانتهاج الاستعانة بالشّعر على فهم القرآن، هو حصول التّوازي بين ديوان العرب الّذي هو الشّعر والكتاب الجديد الوافد الّذي هو القرآن، إنْ لم نقل إنّ الشّعر يُمثّل المعيار الّذي تُقاس به درجة الفصاحة والبلاغة، ولاسيّما أنّ الإشارة قد سلفت إلى ما أورده السّيوطي عن الجاحظ من أنّ: «اللّه قد سمّى كتابه اسما مخالفا لما سمّى العرب كلامهم، على الجمل والتّفصيل سمّى جملته قرآنا كما سمّوا ديوانا وبعضه سورة كقصيدة وبعضها آية كالبيت وآخرها فاصلة كقافية»(11). إلاّ أنّ الذّي فات بعض الدّارسين، هو أنّ هذا المدخل، الّذي يجعل من الذّهنيّة المنطبعة بالشّعر مدخلا منهجيا للولوج إلى عوالم القرآن، قد تسبّب في الكثير من الإشكالات. ولعلّ هذه الدّراسة تقف على البعض منها وسيأتي بيانها في سياقه المناسب.
وما من شكّ في أنّ الإقرار بجريان التّراكيب القرآنيّة على عادة التّراكيب لدى العرب قد حدا بالمفسّرين، منذ وقت مبكّر، إلى البحث عن الشّواهد الشّعريّة والنّثريّة المسندة إلى العرب من أجل فهم المقاصد فيها وتبريرها، حتّى أنّ النّاظر النّاقد يعتريه الشّكّ في أنّ هذا الجريان وراء الشّواهد يكون من وضع هؤلاء اللّغويّين، حتّى أنّ من أعوزه التّدليل بشاهد مأثور يكتفي بالإشارة  إلى أنّ الآية القرآنيّة تخالف القاعدة الجارية على الألسِنة وإرجاعها إلى اللّطائف. ومثال ذلك ما ورد في الآية التّالية: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾(البقرة: 83). وقد قيل فيها إنّ التقدير يكون بـ «أن لا تعبدوا إلاّ اللّه». فلمّا حُذفت «أن» عادت النّون في آخر الفعل(12). ومعنى ذلك أنّ اللّغويّين يقرّون، من طرف خفيّ، بفرادة النّصّ القرآنيّ وتجاوزه للاستعمالات العربيّة الجارية على الألسِنة.
وبالإضافة إلى الأعطاب المنهجيّة الّتي نجمت عن قول ابن عبّاس المذكور آنفا، والّتي تتمحور حول تحويل الشّعر من كونه علما مستقلّا بذاته عند العرب إلى أداة يُستعان بها على فهم غيره من النّصوص، فإنّ الجدير بالملاحظة، هو أنّه بمرور الزّمن تشابكت المعارف وتداخلت الأفكار، حتّى أن عبد القاهر الجرجاني، في زمن لاحق، وهو الّذي فهم أنّ الأسس النّظريّة التّحليليّة الّتي يقوم عليها مفهوم الشّعر تنهض بالأساس على التّخييل، قد ارتأى أنّه مفهوم يتعالق شديد التّعالق مع بقيّة الظّواهر بوصفها عناصر ترتبط أوثق الارتباط بالشّعر وتكشف عن قيمته الجماليّة بعيدة عن لغة المنطق ولغة العلم، ولعلّه بذلك قد عمل على ترسيخ أسلوب التّخييل في دراسات الإعجاز القرآني(13). 
وبالرّغم من أنّ مسيرة الإعجاز كلّها تنحو نحو بيان الفوارق النّوعيّة بين الخطاب الإلهي والخطاب البشري، فإنّ المفسّرين يتوسّلون إلى تعميق هذا المعنى بمجريات اللّغة الشّعريّة والنّثريّة. وهذا من سبيل توخّي الأدوات المدنّسة لفهم آليات الخطاب المقدّس، وهو ما يُطلق عليه حمّادي صمّود عبارة «عجيب المفارقات الّتي لم ينتبه إليها النّاس ولا أعطوها حقّها من النّظر والتّمحيص»(14).
أمّا وقد تمازجت الثّقافات وتمّ تطعيم المقول الشّعري بالتّفكير العلمي والمنطقي، فقد انبرى العديد من الجماعات والفرق إلى معالجة القضايا القرآنيّة بما يتجاوز حرارة الإيمان وحدها إلى الأدلّة العقليّة والحجج المنطقيّة(15). وهذا الاعتماد على المنطق اليوناني البادي في الرّبط بين المقدّمات والنّتائج دون غيره بغضّ النّظر عن فحص المقدّمات وتدقيقها وتحقيقها، هو السّبب في كثير من السّقوط في الوهم الّذي وقع فيه علماء الكلام المسلمون، إذ اعتمد علم الكلام عندهم على الرّبط بين الحدود فقط، بغضّ النّظر عن طبيعة المسألة الكلاميّة أحقيقيّة هي أم وهميّة(16). ولعلّ المعتزلة هم من أهمّ الفرق المستفيدة من هذه المعارك الفكريّة والبلاغيّة، الّتي كانت سائدة في القرون الهجريّة الأولى. ولقد مثّلت قضيّة الإعجاز محور هذه المعارك. وهذا ما يدفع بالدّارس إلى تقصّي حدود مفهوم الإعجاز وما يُثيره من إشكالات.
فما هو الإعجاز؟ وما هي مستتبعاته؟ هذا ما سنتعرض إليه بالتدقيق في الحلقة القادمة إن شاء اللّه.
الهوامش
(1)  الجاحظ، الحيوان، ج1، م س، ص ص 153،154.
(2)  انظر حمّادي صمّود، التّفكير البلاغي عند العرب، م س،  ص33.
(3)  الرّمّاني، التّفسير، م س،  ص257.
(4)  ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن، م س، ص20.
(5)  انظر حمّادي صمّود، التّفكير البلاغي عند العرب،  م س، ص331.
(6)  الفرّاء، معاني القرآن، ج1، م س،  ص ص 289،290.
(7) انظر ابن رشيق، العمدة في صناعة الشّعر ونقده، مركز التّحقيقات للعلوم الإسلامية، د ت، وبالتحديد باب البلاغة ، ص ص 382،399. 
(8) الجرجاني، الرّسالة الشافية، وهي رسالة ضمن كتاب ثلاث رسائل في إعجاز القرآن،  نسخة حسين حلبي، مخطوطات الجامعة العربية، دار الوفاء للطباعة والنّشر والتّوزيع، المنصورة، القاهرة، ط3، 1992، ص131.
(9) جلال الدّين السّيوطي، أسرار ترتيب القرآن، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار بوسلامة للنّشر، تونس، د.ت، ص82.
(10) السّيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج2، النّوع الستّون: في فواتح السّور،  م س،  ص 136.
(11) أورده جلال الدين السّيوطي في الإتقان في علوم القرآن، ج 1، م س، النّوع السابع عشر: في معرفة أسمائه وأسماء سوره، ص50.
(12)  انظر الزّجاج، إعراب القرآن، ج2، م س، ص630.
(13) زينة عبد الجبار المسعودي، الأسلوبيّة الأدبيّة النقديّة في كتب إعجاز القرآن، مقال ضمن مجلة دواة، العراق، عدد 175، 2015، ص185.
(14) انظر حمّادي صمّود، من تجلّيات الخطاب البلاغي، دار قرطاج للنّشر والتّوزيع، تونس، ط1، 1999، ص37.
(15)  انظر حمّادي صمّود، التّفكير البلاغي عند العرب، م س، ص36.
(16)  انظر محمّد شحرور، الكتاب والقرآن، م س، ص364.