في النقد الأدبي

بقلم
أ.د.اسعيد محمد الغزاوي
مسرحية حرث الرّيح : التّربية بالمسرح
 يستمر المسرحي الأكاديمي الدّكتور محمد فراح(1) في كتاباته المسرحيّة، بخلق الوفاء المعهود فيه، فيهدي مسرحيّته (حرث الرّيح) لرفيقه في المسرح التّجريبي المرحوم الدّكتور محمد الكغاط(2). اللاّفت في هذه المسرحيّة هو بعدها التّربوي الأسري، الموضوع القديم المتجدّد «علاقة الآباء بالأبناء».
راكم الدكتور محمد فراح، إلى جانب خبرته المسرحيّة الطّويلة، خبرة مماثلة في التّربية والتّعليم، حيث كان أستاذا للّغة العربيّة حتّى التّقاعد، ممّا مكّن مسرحيته الاحتفاليّة (حرث الرّيح) من ممارسة دور تربوي وإصلاحي، وهو ما اخترت له عنوان «التّربية بالمسرح».
ففي مسرحيته (حرث الرّيح) يفتح أربعة نوافذ يطلّ منها أبطاله الأب «عبد الصّبور» والأمّ «أمّ الخير»، و«صابر» الابن، و«أمال» البنت، و«شهريار» و«شهرزاد» و«البلبل» . 
تأسيس المسرحيّة على النّوافذ عوض الفصول، يدخل في صميم الاحتفاليّة التي تطبع مسرح الدّكتور فراح. هكذا يتحوّل إلى مهندس للمسرحيّة في صورة بيت ذي أربعة نوافذ يختار لها عناوين دالّة: 
ـ النّافذة الأولى «كلّ المصائب جاءتنا من هذا اللّحاف». 
ـ النّافذة الثّانية «لا وقت للنوم أو الشخير بعد اليوم».
ـ النّافذة الثّالثة «عليك الأمان يا بلبل ... قل شكواك ...».
ـ النّافذة الرّابعة «ما أنا الآن ... لن أكونه غدا ...»
كنت أتمنّى لو اختصر هذه العناوين الطّويلة نسبيّا في كلمات مختصرة ومعبرة : كـ «اللّحاف» و«الحاسوب» و«الحلم» و«التعايش». فالعناوين المختصرة أكثر جاذبيّة من تلك التي تشرح وتفسّر، كما تتيح فرصة للقارئ للتّساؤل عن دلالة هذا العنوان؟؟؟. 
يمارس الدّكتور فراح وظيفته التّربويّة من خلال المسرح، فيعالج آفة التّنافر والتّباعد بين الآباء والأبناء. يعتمد تقنية لعبة الحلم رمزا لما عرفه جيل الآباء من بطء في مسيرتهم الحضاريّة. هكذا يفتح النّافذة الأولى، فيجعل اللّحاف رمزا آخر لرغبة جيل الآباء في النّوم والكسل عوض الجدّ والعمل. كما يجعل الرّؤية التّقليديّة للمرأة مهيمنة من خلال الأب «عبد الصّبور» مستشهدا بمقطع من رباعيّات سيدي عبد الرّحمن المجذوب : 
«سوق النّسا سوق مطيار
يا الداخلو رد بالك
 إيوريوك من الربح قنطار
ويد يوليك راس مالك» (3)
المرأة شر وبلاء ينبغي الابتعاد عنه . 
موضوع التّخلّف والكسل عند الآباء يرمز له بالنّوم واللّحاف، فهو كما يرد على لسان الأب «عبد الصّبور»: «اللّحاف يا سيدتي هو سبب تأخّرنا، فدفؤه يوحي بالخمول، والخمول يؤدّي إلى الكسل، والكسل يؤدّي إلى النّوم، وهكذا حرقنا الزّمن في سبات عميق ولم نتقدم» هو نوم عميق يذكره بأهل الكهف، فخيوط العنكبوت تحيط بالنّافذة، وفترة النّوم لا يعرف هل دامت تسع ساعات أم هي رقدة الموت ؟؟؟
لكنّ «عبد الصّبور» نفسه يعترف بضرورة الاستيقاظ عوض النّوم: «الاستيقاظ للصّلاة والاستيقاظ للعمل واستيقاظ الضّمير»(4)، أمّا وسيلة الاستيقاظ فهي المصباح يبحث عنه في ظلمة البيت،  المصباح رمز آخر لليقظة والرّغبة في العمل والأمل في التّغيير. كما يبحث عن السّاعة ينفض عنها الغبار وينظر في عقاربها ليتأكّد من الحياة ما دامت السّاعة تشتغل؟؟؟ 
أمّا العبور الحقيقي نحو الحياة، فيتحقّق في خاتمة هذه النّافذة الأولى حين يخرج الأب عبد الصبور ليعود ومعه أبناه صابر وأمال. فكيف ينظر الأبناء لحياة الآباء؟؟؟ 
النّافذة الثّانية تعلن عن نفسها بعنوانها «لا وقت للنّوم أو للشّخير بعد اليوم»: تبدأ الأحداث بدخول البنت «أمال» وتكسيرها المظلّة التي تعتبر رمزا لبداية التّغيير، فهي تعيقها وتحول بينها وبين قراءة جديدة وسليمة  لتاريخ الآباء، ثمّ تأخذ «أمال» و«صابر» في محاكمة والديهما بمراجعة تاريخ أمجاده: كيف يفاخر الأب «عبد الصبور» بمشاركته في الحرب الصّينية، وإنّما هي «(حرث الرّيح) لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع؟؟؟ مجد زائل لأنّه حارب من أجل أرض الغير ونسي أرضه؟؟؟ ضيّع شبابه فوق الجبال والسّهول والوهاد، وساقوه مثل النّعاج إلى معركة لا دخل لهم بها»(5)
هي محاكمة قاسية يمارسها الأبناء على الآباء، ممّا يجعلنا نستحضر أطروحة صراع الأجيال التي سادت في الفكر الغربي، وانتقلت إلى الفكر العربي، ودافع عنها المفكر غالي شكري في كتابه الشّهير «العنقاء الجديدة أو صراع الأجيال في الأدب المعاصر». تبدو القسوة في الأحكام التي أصدرها صابر الابن على والده و أجداده حين يقول : «هذا ما فعله الزّمن بأبي وبجدّ جدي، ضيعوا أنفسهم وضيعونا نحن معهم، لكن لا بأس، لا بأس، علينا الآن أن ننهض، ولا نتأسى لانفراط الزّمن» (6).  
مفتاح التّقدّم والعصر عند الشّباب هو الحاسوب «أمال وصابر»، بينما ترى فيه الأم «أم الخير» مصدرا للمكر والخديعة (التّحراميّات) ؟؟؟»(7). وهذا مظهر آخر من مظاهر صراع الأجيال : الحاسوب بالنّسبة للأبناء مفيد في العلم والفنّ والأدب، دافع لتغيير وجه العالم عند الولد «صابر»(8). أمّا بالنّسبة للأمّ فمصدر قبح العالم «ما أقبحه من وجه وقبح حامله»(9) ؟؟؟ 
يمتلك الدّكتور فراح قدرة عجيبة على تصوير جدليّة صراع الأجيال من خلال الحوار الفكري بين الآباء والأبناء : أطروحة الأبناء (رفض الواقع لتغييره بالصحو والغضب)، وأطروحة الآباء (قبول الواقع والخلود إلى النوم) بدعوة «أمّ الخير» ابنها للذّهاب إلى الفراش لأخذ قسط من الرّاحة ؟؟؟ وعندما يأبى الاستجابة لدعوته للنّوم لأنّه تكريس للتّخلّف ، تعانق أمّ الخير وسادتها حتّى تتمكّن من الحلم فيخاطبها ابنها صابر في سخريّة قاسيّة:«إذن نامي واحلمي أمّ صابر .. أحلمي كما يحلو لك» (10). 
لننتقل إلى النافذة الثالثة من المسرحية لنتابع حلم أم الخير وهي تتحول إلى شهرزاد داخل قصرها الجميل ، أما عبد الصبور فهو الملك شهريار : 
تمارس أم الخير / شهرزاد استبدادها { سيدة كل نساء الأرض» (11) ص 39 على بلبل أسير عندها في قفصها حيث الحب والماء والسكن بالمجان ، لكن البلبل يرفض كل ما في القفص بحثا عن الحرية { أريد أن أرفرف بجناحي في الفضاء بدل هذا الحصار» (12) ص 39 .   
يتدخل الملك شهريار ليبحث مع البلبل عن معنى الحرية التي يبحث عنها خارج القصر، ويقبل محاكمة عادلة مع البلبل دفاعا عن الحرية والحق في التعبير أنا { بلبل يريد أن يعيش حياة كريمة ، له ما لكم في الشمس في النور في الضياء في تنفس النقي من الهواء في البحر في الأرض في التطبيب في الدواء في التعليم وفي كل ما نشاء(13). 
 يتمرد البلبل على شهريار وشهرزاد ، ويصدح بنشيد الحرية . وهو نشيد يتضح فيه التناص  مع نشيد الحرية عند الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي : 
«إذا الطير يوما أراد الفضاء *** فلابد أن تستجيب السماء
أنـا بلبل عاشــق للبهــاء *** فإما حياة و إمـا فنـــاء» (14)
هي ثورة يقودها البلبل رمزا للحرّية ، وهو مطلب جيل الأبناء في صراعهم مع الآباء. سلاحهم التّقنيات الحديثة ووسائل التّواصل الاجتماعي الحديثة. فتكون نهاية شهريار وشهرزاد فرارهما من القصر وهم يسمعون الثّوار : «يلعنون زمني فرادى وجماعات، أحصنة جامحة في الميادين و الطّرقات ... أسمع الرّفض في حناجرهم مشتعلا في أعينهم يسابقني نحو الموانئ والمطارات ... غفرانك يا وطني ...»(15). 
نهاية الحلم هي بداية الإطلالة على الواقع من النّافذة الرّابعة. حيث يعود شهريار إلى شخصيته الحقيقيّة الأب «عبد الصّبور»، وتعود شهرزاد إلى شخصيتها الحقيقيّة «أمّ الخير» لمواجهة واقع الصّراع بينهما وبين ابنيهما  «صابر» و«أمال» .   
وهنا يبدأ الدّكتور فراح المواجهة بالاستمداد من نظريّة التّطهير الأرسطيّة : فتفريغ عبد الصبور أمعاءه : «لقد انتهيت والحمد للّه .. الأمعاء كلّها صافية الآن من كلّ خبائث العصر»(16) شبيه بالتّطهير الذي يمارسه المسرح على الإنسان، ممّا يهيئه للمواجهة والمراجعة مع ابنيه «صابر» و«أمال»:
يراجع عبد الصبور تاريخه المجيد حسب قراءته القديمة ، ويكتب مع ابنيه تاريخا مشتركا جديدا : «هيّا لنخرج معا لكتابة التّاريخ الجديد مع صابر وأمال» (17).
ويراجع العلاقة مع الغرب، حيث الإحساس بالدّونيّة والهزيمة : «استرجعت تاريخنا فأدركت أنّنا نمنا قرونا مسيّرين لا مخيّرين ... وفي البرّ الآخر انطلق هذا الزّمن مختالا فخورا» (18).
أمّا الحلّ لتجاوز الماضي والتّخلّف فيأتي على لسان «أم الخير»، بالاعتراف بدور الأبناء في التغيير :«كيف نعيش غرباء وقد أنجبنا صابر و أمال ، إنّهما استمرار لنا يا عبد الصّبور»(19).  
لكنّه اعتراف ناقص يصحّحه عبد الصبور بدعوة أمّ الخير لفهم مقتضيات الزّمن الجديد زمن  «صابر» و«أمال» : « لهذه الأسباب قلت لك إنّ زمننا نحن قد انتهى بولادة زمن صابر و أمال . افهميني يا أمّ الخير ولو مرّة واحدة أرجوك ... هذا زمن الفيسبوك والانترنيت وليس زمن الحدائق المعلّقة والأهرامات» (20). 
وأمّا التعايش المنشود بين الآباء والأبناء فيتحقّق بوعي جديد يصرح به «عبد الصبور» : «سنبقى تاريخا للأجيال كما هم أيضا سيأتي عليهم يوم يصبحون فيه تاريخا للأجيال، وهذه حكمة تداول الأيام بين النّاس» (21). 
وتنتهي المسرحيّة بصناعة الأبناء تاريخا جديدا لثورة شبابيّة، يشرك فيها صابر كلّ شرائح المجتمع : «أنا الصّابر عبد الصبور الطّالع من رحم هذه التّربة الحالمة، نشيدها مرسوم داخل جرحي تردّده آهات عمري، وعمري لبلاب يحيط بكلّ أزمنتي، أنا الفلاّح المقهور، الطّالب التّائه، الأستاذ المتعب، العامل اللائع، الأجير المصلوب بين المطرقة والسندان، العاطل المعطّل بين التّسويف والانتظار، أنا الصّابر بن عبد الصّبور الجندي المكبّل في ثكنة الجند بالشّام، ممنوع عليّ أن أحارب من اغتصب الأرض وصادر الغناء وأحبط السّلام»(22).
بهذا النّشيد الشّبابي من «صابر»، ينشده أمام والديه «عبد الصّبور» و«أمّ الخير» وأخته «أمال»، يتحقّق التّكامل والتّعايش بين الآباء والأبناء، ويتجاوز الدّكتور محمد فراح أطروحة صراع الأجيال، لتحلّ محلّها أطروحة البناء الحضاري المشترك. 
وبهذه النّوافذ الأربع المشرّعة على بيت «عبد الصبور»: نافذة «اللحاف» و«الحاسوب» و«الحلم» و«التّعايش»  تدخل مسرحيّة (حرث الرّيح) مجال التّربية بالمسرح من بابه الواسع ، مصحّحا المفاهيم ومعالجا لأمراض المجتمع، ومنها هذا التّنافر والتّباعد بين الآباء والأبناء .
الهوامش
(1) مؤلف وممثل وباحث مسرحي مغربي، من ابرز الوجوه النقدية التي رافقت المسرح المغربي منذ تشكّل بواكيره الأول، يفخر دوما بانتسابه لمسرح الهواة، ولتيار الاحتفاليّة بالتّحديد.
(2)  محمد الكغاط، (1942 - 2001) كان يعمل كمخرج وكمؤلف مغربي، له العديد من الأعمال المسرحية
(3)  حرث الريح، د. محمد فراح،نص مسرحي، مكتبة السلام الجديدة، المغرب، ص14
(4)  نفسه، ص 15
(5)  نفسه، ص 29
(6)  نفسه، ص 31
(7)  نفسه، ص 33
(8)  نفسه، ص 33
(9)  نفسه، ص 33
(10)  نفسه، ص 37
(11)  نفسه، ص 39
(12)  نفسه، ص 39
(13)  نفسه، ص 45
(14)  نفسه، ص 48
(15)  نفسه، ص 50
(16)  نفسه، ص 53
(17)  نفسه، ص 54
(18)  نفسه، ص 55
(19)  نفسه، ص 56
(20)  نفسه، ص 56
(21)  نفسه، ص 65
(22)  نفسه، ص 67