رسالة فلسطين
بقلم |
أ. د. محسن محمد صالح |
حماس والتَّصعيد القيادي |
بالرّغم من خسارة حماس الكبيرة والقاسية باستشهاد قائدها ورئيس مكتبها السّياسي إسماعيل هنية رحمه اللّه، إلاّ أنّها تمكّنت من انتخاب رئيسها الجديد خلال بضعة أيّام؛ حيث تولّى أبو إبراهيم يحيى السّنوار القيادة خلفاً له. وقد كان ذلك لافتاً للكثيرين، إذ إنّ الظّروف والتّحديات الكبيرة التي تمرُّ بها حماس، من حيث ضخامة المعركة التي تخوضها، ومن حيث استهداف قياداتها ومؤسّساتها، وحرمانها من حرّيّة العمل في معظم البيئات العربيّة والعالميّة، وصعوبة التّواصل والاجتماع والتّحرّك، وصعوبة المحافظة على السّريّة والخصوصيّة؛ كلّ ذلك يجعل إنفاذ العمليّة الانتخابيّة الشّوريّة أمراً بالغ الصّعوبة. غير أنّ حماس تمتّعت منذ تأسيسها ببناء تنظيمي وشوري متماسك، وبآليّة صناعة قرار مرنة وقادرة على التّكيّف، والتّعامل مع الظّروف المعقّدة للاحتلال والحصار في الدّاخل الفلسطيني، وظروف التّشتّت والتّباعد خارج فلسطين.
عوامل مؤثّرة في التَّصعيد القيادي:
أولاً: أسهم التّكوين الدّيني الإيماني التّربوي لكوادر الحركة وقياداتها في تسهيل العمليّة الانتخابيّة الشّوريّة إلى حدّ بعيد، وتخفيف حدّة التّدافع نحو تولّي المواقع القياديّة، باعتبارها مسؤوليّة وأمانة كبيرة يجب أن تؤخذ بحقّها، وأنّه سوف يحاسب عليها أمام اللّه سبحانه.
ثانياً: أسهم التّراث والتّجربة الشّوريّة والانتخابيّة الدّاخليّة لمدرسة الإخوان المسلمين، التي تنتمي إليها حماس في صقل تجربة حماس والبناء عليها.
ثالثاً: أسهم وضوح المبادئ والمنطلقات العقائديّة والفكريّة والدّعويّة والسّياسيّة والجهاديّة في وجود قواعد فهم مشتركة لدى معظم الكوادر والقيادات، بحيث أصبحت هوامش الاختيار والتّفاضل القيادي محدودة في تقديم الخبرة والكفاءة والتّجربة، ما دام «البرنامج» واحداً تقريباً.
رابعاً: لم تقع حماس تحت وطأة «الزّعيم الخالد» ولا «الرّئيس المؤبد» ولا الرمزيّة القياديّة «المقدّسة»، وسمحت لوائحها ودينامياتها بمحاسبة الجميع، وحتّى سحب الثّقة إن استدعى الأمر (وإن لم يحدث ذلك عمليّاً).
خامساً: إنّ الآليّات الانتخابيّة المعتمدة لا تسمح للقائد بتولّي القيادة لأكثر من دورتين متتاليتين (ثماني سنوات)، وهي آليّة تنطبق على رئيس الحركة وعلى رؤساء المناطق أو الأقاليم (غزّة، والضّفة، والخارج) وحتّى أعضاء القيادة نفسها لا يجوز لأيّ منهم تولّي المنصب نفسه لأكثر من دورتين متتاليتين. وقد وفّرت هذه الآليّة استعداداً نفسيّاً لدى القيادات للنّزول عن مواقعها، والجاهزيّة للانتقال إلى مواقع ومسؤوليّات أخرى، أو إفساح المجال للتّوريث القيادي، وإعداد قيادات بديلة وإظهار رموز جديدة.
سادساً: ربّما أسهم في «تنقية وتصفية» العمليّة الانتخابيّة والتَّصعيد القيادي أنّ العمل القيادي في حماس طوال المرحلة السّابقة وحتّى الآن قائم على «المغرم» وليس «المغنم». وعلى أنّ التّقدّم للقيادة في ظروف العمل لفلسطين والعمل المقاوم المسلّح ومجابهة المشروع الصّهيوني، والمعاناة من خصومة الأنظمة العربيّة والنّظام الدّولي للتّيار الإسلامي ولخطّ المقاومة، تعني عمليّاً التّضحية بالنّفس والوقت والمال، وربّما التّحوّل إلى قيادي برسم «الاستشهاد»؛ ولذلك فليس ثمّة ما يُتنافَسُ عليه من «حُطام الدّنيا».
سابعاً: إنّ من العوامل التي ساعدت على ديناميّة العمليّة الانتخابيّة أنّ حماس تنظيم واسع كبير، زاخر بالكفاءات والكوادر في الضّفة الغربيّة وقطاع غزّة والخارج؛ وأنّ الكثير من قياداته الكبيرة ظلّت معروفة ومؤثّرة وفاعلة على المستوى الدّاخلي ولها دورها في صناعة القرار، دون أن تكون بالضّرورة معروفة سياسيّاً أو إعلاميّاً؛ وهذا أعطى الحركة نوعاً من صمام الأمان الدّاخلي، وقدرة على تقديم هذه القيادات للبروز العلني إن استدعى الأمر.
ومع ذلك، فليس أعضاء حماس مجموعة من «الملائكة»، والنّقاط المشار إليها أعلاه تُخفّف التّدافع القيادي لكنّها لا تلغيه بالضّرورة، ولا تمنع وجود اختلافات في الاجتهادات والأولويّات وتقييم الرّجال وأدائهم، وفي إعطاء أوزان أكبر أو أقل لبعض المعايير المرتبطة بالسّابقة في الحركة، وبالعلم والكفاءة والخبرة والانسجام الشّخصي والجغرافيا والاحتكاك والتّعايش المشترك. غير أنّ حماس تجاوزت كافة استحقاقاتها الانتخابيّة منذ تأسيسها وحتّى الآن بقدر كبير من الانسيابيّة، وسرعان ما كانت تلتف حول القائد الجديد، حتّى لو كان ثمّة اجتهادات واختلافات في إطار الأداء الشّوري في أثناء العمليّة الانتخابيّة.
وربما كانت حماس أحد التنظيمات والفصائل القليلة في العالم العربي التي عَبَرت كافة الاستحقاقات الانتخابية منذ تأسيسها وحتى الآن بشكل منتظم ودونما توقف، بالرغم من أنها من أكثر التنظيمات والفصائل تعرضاً للملاحقة والمطاردة. وهذا يعني أن العملية الشورية الانتخابية أصيلة في بنيتها وتكوينها.
قيادة حماس:
في حماس لم تكن الرّمزية الكبيرة تعني بالضّرورة تولّي العمل التّنفيذي. فعلى سبيل المثال، فإنّ شخصيّة الشّيخ أحمد ياسين ورمزيته الكبيرة كقائد مؤسّس وراعٍ للمشروع، لم تكن تعني بالضّرورة توليه القيادة التّنفيذية للحركة، غير أنّه ظلّ «أباً روحيّاً» وملهماً للحركة حتّى استشهاده رحمه اللّه.
وعندما أعلنت حماس عن نفسها في كانون الأول/ ديسمبر 1987 كان الشّيخ أحمد ياسين حاضراً في القيادة، لكن الذي كان يتولّى إدارة مكتب قيادة غزّة هو الأستاذ عبد الفتاح دُخَان، وكان يدير أيضاً مكتب الدّاخل (الضّفة والقطاع)، وهو مكتب كان يتبع جهاز فلسطين برئاسة الأستاذ خيري الأغا (المقيم في الخارج)، الذي كان يتبع بدوره قيادة تنظيم بلاد الشّام في الأردن برئاسة الأستاذ محمد عبد الرحمن خليفة.
ومنذ تشكيل حماس وحتّى 1993 ظلّ خيري الأغا أوّل رئيس لها في الدّاخل والخارج (وكان قائداً مجمعاً عليه)، حتّى استعفى وأصرّ على الاستقالة، فحلّ مكانه نائبه د. موسى أبو مرزوق، حيث تابع القيادة حتّى 1995 عندما اضطر لمغادرة الأردن، ولم يجد مكاناً مناسباً للإقامة في العالم العربي، فعاد للولايات المتّحدة وقُبِض عليه، فحلّ مكانه نائبه خالد مشعل، الذي تولّى رئاسة الحركة في الاستحقاقات الانتخابيّة التّالية وبدرجة عالية من التّوافق حتّى سنة 2017 (أُقرّ في عهده قرار الاكتفاء بولايتين متتاليتين للرّئيس، حيث انتهت ولايته الثّانية بحسب القرار في تلك السّنة)، وانتخب بعده إسماعيل هنية وبتوافق كبير في استحقاق 2017 وفي التّجديد للمرّة الثّانية 2021.
انتخاب السّنوار:
عندما استشهد هنيّة كان قد بقي على انتهاء ولايته الثّانية نحو عام واحد، وكان قد سبقه إلى الشّهادة نائبه صالح العاروري رحمه اللّه في أوائل كانون الثاّني/ يناير 2024. ولذلك، لم يكن مستغرباً أن تتّجه الأنظار إلى رئيسي الحركة في غزّة يحيى السّنوار وفي الخارج خالد مشعل، اللّذان يُعدّان كرؤساء مناطق (أقاليم) بمثابة نواب للرّئيس. ولأنّ خالد مشعل كان قد عبَّر قبل طوفان الأقصى بعدّة أشهر عن عدم رغبته في العودة لقيادة الحركة؛ فإنّ السّنوار كان مرشّحاً طبيعيّاً متوقّعاً لقيادة الحركة.
مركزيّة قطاع غزة في العمل المقاوم وقيادة حماس لها، ومعركة طوفان الأقصى التي أطلقتها حماس من القطاع، والنّموذج البطولي الذي تُقدِّمه غزّة تحت قيادة السّنوار، في مواجهة عدوان صهيوني وحشي وتحالفٍ عالمي من قوى كبرى، وحالة الإجماع لدى حماس في الدّاخل والخارج على استمرار الصّمود والمواجهة، ورفع درجة التّحدّي في وجه العدوان إثر اغتيال هنيّة... كلّ ذلك كان يصبُّ في اتجاه انتخاب السّنوار. ولذلك، لا غرابة في حصول توافق داخلي على اختياره.
والسّنوار من أصحاب السّابقة، ومن القيادات الكبيرة في حماس منذ ثمانينيّات القرن الماضي، فقد كان له دور أساس في تشكيل جهاز أمن الدّعوة سنة 1983 بقيادة عبد الرحمن تمراز. وفي سنة 1986 تولّى السّنوار رئاسة منظّمة الجهاد والدّعوة «مجد» التي تمّ تشكيلها كقوّة عسكريّة ضاربة تتبع الجهاز الأمني؛ وكانت مهمّتها مقاومة الفساد والمفسدين، ثمّ تشعَّبت مهامها إلى مقاومة العملاء وغير ذلك. واعتقل السّنوار سنة 1988، وحكم عليه بالسّجن أربعة مؤبَّدات، وتولّى في السجن مواقع قيادية من بينها رئاسة الهيئة القياديّة العليا لأسرى حماس، وأُطلق سراحه في صفقة وفاء الأحرار سنة 2011. وفي السّنة التّالية انتخب عضواً في قيادة حماس في غزّة، ثمّ انتخب رئيساً لحماس في القطاع في دورتي 2017 و2021.
والسّنوار معروف بصلابته وقوّة شخصيّته، وطبيعته الجادّة العمليّة وأنّه صاحب قرار. وقد أسهمت ميوله وخبرته الأمنيّة العسكريّة في اهتمامه القوي بهذا الجانب، وانسجامه مع إخوانه المعنيين بإدارة هذا العمل، وهو ما ظهرت أبرز تجليّاته في طوفان الأقصى.
خلاصة:
وبشكل عام، فإنّ حماس ستتابع عملها المؤسّسي، وقد سبق أن استشهد لها قادة كبار كالشّيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرّنتيسي وصلاح شحادة وإبراهيم المقادمة وإسماعيل أبو شنب وأحمد الجعبري وجمال منصور وجمال سليم ويحيى عياش... وغيرهم؛ كما استعفى عدد من القادة الكبار أمثال خيري الأغا وسليمان حمد وعبد الفتاح دخان وحسن القيق ومحمد حسن شمعة... وغيرهم. ومع ذلك فإنّ الحركة زادت قوّة واتساعاً مع الزّمن؛ ذلك أن ّحماس ليست حركة قائمة على الرّمز أو بالفرد وإنّما على الفكرة، كما أنّ قادتها القادمين يراكمون على منجزات إخوانهم السّابقين ويبنون عليها. ولذلك، فإنّ مراهنات نتنياهو والاحتلال الإسرائيلي على إضعاف حماس خاطئة، وثبت فشلها. وعلى الأرجح فإنّ استشهاد هنية سيعطي مزيداً من الإلهام والدّفع للحركة للاستمرار في
مشروع المقاومة، وفي تتبُّع خطى شهدائها وشهداء شعبها وأمتها. |