خواطر
بقلم |
![]() |
شكري سلطاني |
البُعد الثالث |
وجود الإنسان وحياته حتميّة ربانيّة ناصعة الدّلالة لأولي الألباب، فقد كتب اللّه سبحانه له الحياة بخلقه وإيجاده في زمن حضوره وعيشه كما كتب عليه الموت نهاية لوجوده الدّنيوي.
وإن كان البُعدان الوراثي والبيئي عاملين أساسيّين مؤثّرين في أفعال البشر ومسيرتهم أوّلا بما يحمله البُعد الوراثي من مورّثات حاملة للخصائص الوراثيّة تنتقل من الأجداد إلى الأباء وإلى الأبناء ومنها إلى الأحفاد حاملة للصّفات النّوعيّة البشريّة وغيرها كالأمراض الوراثيّة، وثانيا البعد البيئي الذي يرتبط بما يكتسبه الفرد من محيطه العائلي والمدرسي ومن مجتمعه من تربية وتعليم ومن تقاليد وعادات مجتمعه بما يسمح للإنسان من اكتساب إمكانيات ومهارات ومفاهيم ومعارف تصوغ أفكاره وأحاسيسه وتُنمذج سلوكه على مقتضيات عصره وزمانه وبيئته. فهل يكفي هذان البعدان لتفسير كينونة الإنسان وصيرورته الحياتيّة؟ أم أنّ الحتميّة الرّبانيّة التّي تتجلّى وتنعكس في مسيرة الإنسان خلقا وإمدادا في توقيت محدّد زمن وجوده الدّنيوي عامل هام في تاريخ البشر؟
1 - البُعد الوراثي :
يؤثّر الآباء في صفات الأبناء الجسديّة المتعدّدة كالطّول والوزن وكذلك القدرات والذّكاء، فالمعلومات الوراثيّة بشكل عام محمولة ضمن الصّبغيّات الموجودة في نواة الخليّة DNA الحامل الأساسي للمورّثات التي يرث نصفها من أبيه والنّصف الآخر من أمّه. ولهذه العوامل الوراثيّة أثر هام في تشكيل شخصيّة الفرد وتحديد أنماط سلوكه وقدراته.
2 - البُعد البيئي:
عوامل عديدة مؤثرة في حياة الإنسان كالوضع الإجتماعي ونوعيّة التّربية والتّعليم والخلفيّة الثّقافيّة والمستوى المادّي حيث تؤثّر في مستوى ذكاء الإنسان وتكوين شخصيّته وتحديد ردود أفعاله. فكلّ الظّروف المحيطة بالشّخص كالعائلة والمدرسة والمجتمع وبيئة الأقران والعمل كلّها محفّزة أو مثبّطة له.
وكلّ حاجات الفرد التي يريد إشباعها وما يسعى لتحقيقه وإنجازه في حياته، وما يتعرّض له من ضغوط نفسيّة وإجتماعيّة وإنفعالات وتعلّقات وتوجّهات، كل ذلك نتاج تهيّئه الذّهني وقدراته وقابليّته ومواهبه ووراثته ونوع الوسط الذي يعيش فيه؟ لهذا يعتبر الإنسان نتاجا لبيئته وزمانه، وطبعا مع عوامله الوراثيّة (تراثه الجيني) التّي تحدّد بدورها أنماط سلوكه وقدراته ومواهبه التي تجد صداها في مجاله البيئي. ولكن أي تأثير في حياة البشر للبُعد الغيبي أو الماورائي الميتافيزيقي الذي قد يتجاهله غالبيّة البشر؟
3 - البُعد الغيبي :
إن كان البُعدان الوراثي والبيئي عاملين أساسيّين مؤثّرين في أفعال البشر ومسيرتهم، فإنّ البُعد الغيبي مُحدّدٌ في صيرورة البشر ومآلهم، وقد كان هذا البُعد حتميّا وباتّ في خلق الإنسان ونحت ملامحه وكيانه البشري بما هو عليه خلقا وصورة وذلك منذ خلقه ومنذ تحديد جنسه وزمن حضوره الدّنيوي.
إنّه جبرٌ إلهيٌّ محتومٌ عنوانٌ للرّبوبيّة الحقّ، يحمل في طياته حكمة الأقدار ورزق الإنسان وعمله وأجله وشقاءه أو سعادته . ذلك أنّ إختيارات الإنسان وتعلّقاته وقراراته وتوجّهاته وأفعاله البعديّة وقبل وقوعها في مسرح حياته هي معلومة مشهودة عند علاّم الغيوب، فاللّه عزّ وجلّ عالم بعبده، مستقره ومستودعه، ذهابه وإيابه، حركته وسكونه، نواياه وخفاياه وأسراره، ومن ذلك يتأتّى التّوفيق أو الخذلان للعبد في حياته الدّنيويّة الفانيّة. فلا يرمي إذن الإنسان بغيب وجوده بحصول حضوره الحسيّ الماديّ وشهوده. فكلّ معادلاته الحياتيّة الوجوديّة-الوجدانيّة -الذّهنيّة والسّلوكيّة هي معلومة مكشوفة قد تمّ حلّ كلّ إشكاليّاتها منذ الأزل بما هو كائن وما سيكون﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾(سبأ: 3).
فليجتهد الإنسان إذن خلال فرصة حياته الدّنيويّة، وليكدح نحو ربّه الذي خلقه صادقا عابدا مُنيبا، وليتسلّح بالعمل الجدّي المستنير، وليسع جادّا لتحقيق ذاته العميقة المعنويّة لا السّطحيّة الحسيّة التّي تتجاهل غيب وجودها وتتناساه بحسّ ظهورها.
إنّ الإيمان واليقين بالبُعد الغيبي كبُعد أساسي في صيرورة البشر ومآلهم يزوّدهم في حياتهم بمقاربة شاملة لوجودهم، فيُنير سبيلهم ويُشحذ هممهم للإرتقاء والسّفر من الظّاهر إلى الباطن. فيجب أن لا ينسى الإنسان ويتكاسل في دنيا الغرور فيُحجب بحجاب الظّلمة عن مطالعة الغيوب ويُسيء فهم القضاء والقدر، فيتقهقر ويضمحل معناه فيتّبع سبيل الشّيطان .
ويتجلّى البُعد الغيبي ناصعا في عديد من آيات القرآن الكريم معبّرا عن صيرورة البشر ومآلهم، حيث يقول تعالى:﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(آل عمران: 6)، ويقول: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(آل عمران: 26)، ويقول:﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾(الزخرف: 32)، وكذلك قوله:﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾(التوبة: 46)، وغيرها من الآيات كثيرة تُنبئ وتخبر عن البُعد الغيبي في حياة البشر الذي ينكره الملاحدة جملة وتفصيلا ويُلغيه اللاّدينيّون إنكارا وجحودا، وتتناساها أوتتجاهلها غالبية البشر لغلبة الحسيّ والكثائف والرّسم والمبنى على المعنى والحقيقة وباطن الحال والأحوال، ولأنّهم لا يقرؤون بإسم ربّهم في دنياهم.
وإن كان هذا البُعد الغيبي يظهر كبُعد ثالث في حياة البشر لسيادة الحياة الدنيويّة وغلبتها بمظاهرها الحسيّة الظّاهراتيّة، فإنّه من خلال أولانيّة المعنى هو في الحقيقة بعد أولّي. ويظهر جليّا في حياة الأنبياء والرّسل والأولياء الصّالحين والعلماء والحكماء من عباد اللّه أولي الألباب والأكياس. وما التّوكّل والإستخارة والدّعاء والإستغاثة والإستجارة باللّه عزّ وجلّ كلّها إلاّ علامات دالّه على عُمق هذا البُعد وأصالته في حياة الإنسان.
|