تأملات
بقلم |
![]() |
د.عبدالله البوعلاوي |
نحو قراءة تدبّرية لفقه السّنن الكونيّة من خلال القرآن الكريم (4) فقه السّنن الكونيّة واجب شرعي |
لا يمكن بحال من الأحوال أن يتخلّف الإنسان «المسلم» أو يتجاهل السّنن الكونيّة لأنّها من الدّين، ذلك أنّ العبادات اليوميّة جعلها اللّه تعالى منسجمة بقوانين كونيّة تتبع نظاما ثابتا من قبل اللّه تعالى وهي ملزمة للبشر. وبموجب هذا المفهوم، يُعتقد أنّ هناك أفعالًا في الكون تعتبر واجبة على الإنسان وفقًا لهذه القوانين الكونيّة، ومن ثمّ يكون العمل بها من واجبات الدّين يؤثم الإنسان على تركها أو يعاقب بالتّخلّف عنها، ذلك أنّ إرادة اللّه تعالى في خلق الإنسان والكون بالغة من حيث التّرابط بينهما.
لقد باتت «حاجة المسلمين اليوم لفهم السّنن الكونيّة وحسن التّعامل معها وتسخيرها للقيام بأمانة الاستخلاف وتعمير الأرض، أشدّ من حاجتهم للحكم التّشريعي الذي تضخّم وتضخّم حتّى كاد يشمل الإسلام بأبعاده كلها، مع أنّ الحاجة إليه تأتي ثمرة لإعمال هذه السّنن»(1)، وإدراك هذه السّنن جزء لا يتجزّأ من دعوة القرآن الكريم ومن تعاليمه وقيمه، والقيام بالنّصوص الشرعية أو العمل بها في معزل عن السّنن الكونيّة تعطيل للنّص القرآني من حيث رؤيته الشّموليّة للإنسان والأنفس والآفاق.
وممّا يدّل على التّرابط القويّ بين ما هو شرعي تعبّدي وبين الآيات الكونيّة، أنّ القيام بالعبادات من صلاة وزكاة وصوم وحجّ ترتبط بالدّورة الكونيّة، بحيث يتمّ تحديد أوقات الصّلاة استنادًا إلى حركة الشّمس ومواقيتها، ممّا يعكس التّنظيم الكوني والتّوازن الذي وضعه اللّه في الكون في دورة سنويّة دقيقة، والزّكاة تعبّر عن المسؤوليّة الاجتماعيّة وتوزيع الثّروة بين أفراد المجتمع بطريقة عادلة، يتمّ تحديد مواعيد تقديم الزّكاة بشكل سنوي، ممّا يوحي بأهمّية الاستقامة والتزام الوقت في العبادة والتّعاطي مع ما يكسبه الإنسان من رزق في مختلف الأطعمة والمال، أمّا الصّيام الذي يعبّر عن التّحكّم في الرّغبات الجسديّة والتّركيز على الرّوحانيّة والتّقوى، لأنّه هو الآخر يتمّ تحديد مواعيده بشكل دقيق استنادًا إلى التّقويم الهجري وحساب الأيام الشّرعيّة للصّوم في شهر رمضان. وتأتي فريضة الحجّ هي الأخرى مرتبطة بسنن كونيّة ومواعيد محدّدة بشكل دقيق وفقًا للتّقويم الهجري، حيث يقوم المسلمون بأداء هذه الفريضة في أيّام معيّنة من شهر ذي الحجّة. إنّ الفريضة التي تعبِّر عن الوحدة والتّوحيد هي تعبير عن الخضوع لأمر اللّه تعالى. إنّ القرآن الكريم يشير إلى التّأمّل في السّنن الكونيّة ويعتبرها جزءا من حياة الإنسان ومن التّعاليم الإسلاميّة، فضلا عن كونها دليلا إلى فهم عظمة الخالق وتدبيره، ودليلا على وجود اللّه وحكمته في خلق الكون. من خلال هذا النّظام الدّقيق يتّضح أنّ هذه العبادات لها توقيتات محدّدة وترتبط بالتّنظيم الكوني وتدفع المؤمن لفهم عظمة الخالق وتوجيهه في حياته.
يشير مفهوم «فقه السّنن الكونيّة» إلى استنباط القوانين الشّرعيّة من الظّواهر الطّبيعيّة والسّنن الكونيّة، مع التّأكيد على أنّ اللّه وضع هذه السّنن الكونيّة في الكون كجزء من تصميمه وخلقه، ويقوم علماء الشّرع بدراسة هذه السّنن والقوانين لفهم كيفيّة التّصرّف والعيش في هذا العالم بما يتماشى مع توجيهات الشّريعة الإسلاميّة. ومفهوم «الضّرورة الكونيّة» يشير إلى القوانين والظّواهر الطبيعيّة التي تحكم الكون وحياة البشر فيه. فهذه القوانين أو السّنن الكونيّة تؤثّر على البشر إيجابا وسلبا بقدر التّعامل معها. أمّا «الواجب الشّرعي» فهو المفهوم الذي يشير إلى الأعمال التي فرضها اللّه على الإنسان وأوجبها عليه من خلال الشّريعة الإسلاميّة في علاقتها مع هذه السّنن.
تكمن العلاقة بين السّنن الكونيّة والواجبات الشّرعيّة، في تثبيت عقيدة المسلم في كونها تسير وفق النّظام الكلّي المدبّر من قبل اللّه تعالى، وأنّها سنن لا تختلف مع الواجبات الشّرعيّة ولا تتبدّل ولا تتعارض معها، بل تكمّلها وتدعّمها، وأنّ فهمها يسهم في الاستفادة من تسخيرها كما تسهم في القيام بالدّور المنوط بالإنسان في أداء واجباته الرّوحيّة والمادّية، لهذا فالإنسان مطالب للعيش وفق هذه السّنن حتّى تنتظم حياته ولا يختل ميزان حياته باطنا وظاهرا، أو بمعنى آخر يتحقّق توازنه الدّاخلي والخارجي. بشكل عامّ، يمكن أن يساهم فهم السّنن الكونيّة في توجيه الإنسان للقيام بالأعمال الصّالحة والمرضيّة للّه، وبالتّالي يساهم في فهم الواجبات الشّرعيّة والعمل بما يرضي اللّه.
تنسجم علوم الوحي بالعلوم الكونية، لأنّهما من جهة من مشكاة واحدة، ومن جهة أخرى أنّ كلّ منهما يساعد على فهم الآخر، فمعرفة الوحي لا تنفك عن المعرفة الكونيّة في القرآن الكريم، فعالم الكون يفسّر الوحي، ويرسم الطّريق إلى معرفة عالم الغيب، والوحي يسع العالم الكوني بكامله، ويضع المنهج للتّعامل معه.
يتحدث القرآن الكريم عن الكون بمشاهد مختلفة وبتصوير يثير الانتباه، وبألوان مختلفة من الأسلوب البياني، وبصيغ الأمر المعروفة في اللّغة العربيّة، فيما تدركه العقول، وما يغيب عن وعينا وما لا يسع فهمه في الزّمن الحاضر، «لكن ما دخل في وعينا، صارخ الدّلالة على عظمة البديع العليم، شاهد صدق على أنّه ذو الأسماء الحسنى، والصّفات العلا. إنّ هذا الكون هو المسرح الأول لفكرنا والينبوع الأول لإيماننا»(2).
إنّ الواجب الشّرعي لفقه السّنن يتجلّى من خلال معرفة الوجود الكوني لأنّه يؤطّر فلسفة وجودنا، حيث يُعتبر الكون نفسه آية من آيات اللّه، وفهم الكون وتأمّله يُعزّز الإيمان ويوجّه النّفس إلى الخالق العظيم، ويعزّز الإيمان بقدرة اللّه وحكمته في الخلق والتّنظيم، كما تعزّز الشّعور بالمسؤوليّة تجاه الخلق كله.
تتمثّل أهمّية فقه السّنن الكونيّة في فهم الغرض والمعنى وراء وجودنا هنا في هذا الكوكب. ومن دون فهم الكون ومكوّناته وتنظيمه، يصعب أو يستحيل فهم غاياتنا من الوجود وماذا نفعل هنا ولماذا نفعله، كما يتجلّى الواجب الشّرعي في فهم السّنن الكونيّة في توطيد العلاقة والتّواصل بين العبد وخالقه، من خلال النّظر في جمال الكون وتنظيمه، يمكن للإنسان أن يشعر بالتّواجد الإلهي ويعزّز روحانيته.
عندما يدرك الإنسان الضّرورة الشّرعيّة لفهم السّنن الكونيّة، يمكنه من جهة التّعامل معها بالمنفعة غير المخلّة بنظام الكون وبالأخلاق الإنسانيّة للحفاظ على مقدراته والبيئة المحيطة به، ويعتبر هذا الاحترام دافعا أساسيّا إلى البحث العلمي والتّقدم الإنساني، من خلال دراسة الكون وفهمه بشكل أعمق، وسبر ألغازه العلميّة لتحسين حياة البشريّة. بهذه الطّرق وغيرها، تبرز أهمّية معرفة الوجود الكوني كضرورة شرعيّة وفلسفيّة مهمّة للإنسان في فهم حياته وعلاقته بالعالم المحيط به وتطويرهما.
إنّ الإيمان بأنّ فقه السّنن الكونيّة واجب شرعيّ يخلق لدى الإنسان ضرورة التّجاوب مع مكونات الكون وقوانينه المنتظمة، والتّعامل معها في جوّ من الإيجابيّة والنّهوض الذي يحفظ للإنسان كرامته. ويعد «الذّهول عن الكون سقوطا إنسانيّا ذريعا، وحجابا عن اللّه تعالى غليظا، وفشلا في أداء رسالتنا التي خلقنا اللّه تعالى من أجلها، وعجزا عن التّجاوب مع وصايا القرآن التي تكرّرت في عشرات السّور. ثمّ إن «الذهول عن الكون ودراسته، باب إلى الجهل والضلال، وأن الإسلام يبني المعرفة على البصر العميق بالكون، والبحث المستمر فيه، وأن انطلاق العلم بعيدا عن هذا المجرى، انحراف إغريقي وليس نهجا إسلاميا، وأن الذين مالوا مع هذا الانحراف أضروا الإسلام ورسالته»(3).
لا يمكن الاستفادة من التسخير الكوني في عدم إدراك الخطاب القرآني الذي ينص على الاستفادة من مقدرات الكون واكتشاف سنن التسخير، أو العلم بأسباب النهوض الحضاري وسقوط الأمم، يقول الله تعالى:﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ﴾(ق: 6-8). لقد تجلى الله تعالى في كونه للإنسان العاقل، بالنظر في السماء كيف بناها بغير عمد وما نزل منها وما عرج فيها، وزينها بالكواكب والنجوم على اختلاف أنواعها وأشكالها وأحجامها، وجعل الأرض قرارا وألقى فيها رواسي، وما بطن في جوفها وما خرج منها وما دب عليها، وأجرى فيها البحار والأنهار، ثم جعل نباتا مختلفا أكله وريحه، ولونه يُسقى بماء واحد. هذا التدبير الكوني في عظمته والنظام المحكم، يدل على قدرة الخالق الذي لا يشبهه الخلق في شيء. قال الطاهر بن عاشور في كتابه التحرير والتنوير في قول الله تعالى:﴿أفَلَمْ يَنْظُرُوا إلى السَّماءِ فَوْقَهم كَيْفَ بَنَيْناها وزَيَّنّاها وما لَها مِن فُرُوجٍ﴾ إن الله استفهم على الكفار مِن تَكْذِيبِهِمْ أنَّهم كَذَّبُوا بِالبَعْثِ، وخَلْقُ السَّماواتِ والنُّجُومِ والأرْضِ... وهذا الِاسْتِفْهامُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ إنْكارِيًّا. والنَّظَرُ نَظَرُ الفِكْرِ ... ومَحَلُّ الإنْكارِ هو الحالُ الَّتِي دَلَّ عَلَيْها كَيْفَ بَنَيْناها، أيْ ألَمْ يَتَدَبَّرُوا في شَواهِدِ الخَلِيقَةِ فَتَكُونُ الآيَةُ في مَعْنى﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما إلّا بِالحَقِّ﴾(الروم: 8)، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهامُ تَقْرِيرِيًّا، والنَّظَرُ المُشاهَدَةُ، ومَحَلُّ التَّقْرِيرِ هو فِعْلُ ”يَنْظُرُوا“، أوْ يَكُونَ ”كَيْفَ“ مُرادًا بِهِ الحالُ المُشاهَدَةُ. هَذا وأنَّ التَّقْرِيرَ عَلى نَفْيِ الشَّيْءِ المُرادِ الإقْرارُ بِإثْباتِهِ طَرِيقَةً قُرْآنِيَّةً... ولقد نعى الله عليهم عدم إعمالهم الفكر والنظر في ما تراه أعينهم من رفع السماء وبنائها بناء محكما ثم النظر إلى حال الأرض وهي أقْرَبُ إلَيْهِمْ مِن أحْوالِ السَّماءِ لِأنَّها تَلُوحُ لِلْأنْظارِ دُونَ تَكَلُّفٍ ...»(4)، ذلك أن النظر في الكون بالرؤية القرآنية يحقق الفقه المطلوب من الكون وأنه جزء من الحكم التشريعي العام يتعبد من خلاله الإنسان اللهَ تعالى، فيصبح الكون فضاء للعبادة ومختبرا خصبا للمعرفة واستنطاق العلوم، فتتكامل العلوم الشرعية بالعلوم المادية، ولا تنمو كل واحدة في معزل عن الأخرى، نبرهن من جهة على صدق النبوة والرسالة ونؤسس من جهة أخرى منهجا معرفيا وعلميا نناقش فيه أهم المحاور المؤسسة للمعرفة الإنسانية عن طريق النظر في الافاق والأنفس، والنظر في قوانين الكون وسننه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً»(5)، ومن الشريعة أيضا في استنباط الأحكام الشرعية فقه الواقع ومعالجة القضايا الإنسانية بما يناسب حال الإنسان والظروف التي يعيشها، «لا بد من فقه دقيق للتعامل مع القرآن، إذ لا يمكن أن أُخاطَب بآيات التمكين وأحكامه بكل مستلزماتها وأنا في مرحلة الضعف والسقوط.. وأن يطبق علي أحكام النصر والمواجهة وأنا أعاني من الهزيمة والانكسار.. ولا يمكن أن أقاتل حتى لا تكون فتنة وأنا في حالة الفتنة والاكراه. لذلك نقول، في كيفية التعامل مع القرآن: لابد أن نحدد الحالة التي نحن عليها، والاستطاعة التي نملكها بدقة، ومن ثم ننظر من خلال الآيات القرآنية والبيان النبوي، وعلى الأخص مرحلة السيرة، أين يمكن أن يكون موقعنا باستطاعتنا: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾(التغابن: 16)(6). وتتدخل السنن الكونية مباشرة في حالات الضعف أو التمكين، والنصر أو الهزيمة، والنهوض أو السقوط... وكل تنزيل لأحكام الشريعة في غياب فقه الواقع والسنن الكونية يعتبر تقطيعا للرؤية القرآنية الشمولية.
تنضبط حياة الإنسان بالسّنن الكونيّة والشّرعيّة وتوجّه سلوكه،وهي سنن تمتدّ إلى العلاقة بين الإنسان واللّه أو الكون وتشكّل حركته الوجوديّة، ويعتبر الوعي واليقظة في تعامل الإنسان مع السّنن الكونيّة والشّرعيّة أمرًا مهمًّا للغاية. هذا الوعي يشمل فهم القوانين الطّبيعيّة التي تحكم الكون، وكذلك فهم التّوجيهات والأوامر الدّينية التي يعتقد أنّها مقدّمة من قبل اللّه أو القوى الرّوحيّة. وعندما يكون الإنسان واعيًا بهذه السّنن، يمكنه أن يستفيد منها بشكل أفضل ويعيش حياة متوازنة وملهمة، ويمكنه أن يتنبّأ بنتائج أفعاله ويتّخذ قرارات مناسبة ليسدّد ويصحّح ليحقق نتائج أفضل، فيرتقي بحياته الرّوحيّة والمادّية على حدّ سواء. يتطلب الوعي واليقظة جهدًا مستمرًا وتطويرًا شخصيًّا. يشير محمد الغزالي إلى أن: «حاجة المسلمين اليوم لفهم السّنن الكونيّة وحسن التّعامل معها وتسخيرها للقيام بأمانة الاستخلاف وتعمير الأرض، أشدّ من حاجتهم للحكم التّشريعي الذي تضخم وتضخّم حتّى كاد يشمل الإسلام بأبعاده كلّها، مع أنّ الحاجة إليه تأتي ثمرة لإعمال هذه السّنن»(7).
ليس من الصدفة أن ينص القرآن الكريم على شيء من أجل الاستمتاع بالقراءة من حيث أنه نص قدسي يستوجب تحصيل الأجر الثواب الأخروي دون الدنيوي، فتمة تكامل بين السنن الشرعية والسنن الكونية، التي وضعها الحق سبحانه من جهة لتنظيم الكون يما يناسب فطرة الإنسان وطبيعته المادية، ومن جهة أخرى أنها تؤطر حياة الإنسان التعبدية في كونها جزءًا من الواجب الديني والشرعي وتعكس التقدير والإدراك لحكمة الله في خلقه.
لا يمكن لإنسان لا يفقه دينه أن ينسجم مع السنن الكونية بالمنطق النفعي القيمي لهذه السنن واستنباط الحكمة في علاقتها مع النصوص الشرعية، يقول الله:﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ* ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾(آل عمران : 190-191). ربط الله تعالى بين الآيات الكونية وقيمة التفكر وهي من أجل القيم وأعظمها في كونها تعزز الإيمان وتقويه كما تعزز العلاقة بين الأمور الدينية والعمل على السياحة في الكون بمنطق المعرفة العلمية الجالبة للمنفعة الإنسانية، كما يسهم فهم السنن الكونية في تطبيق الشريعة بطرق تتماشى مع الطبيعة وقوانينها، مما يعزز من الانسجام بين الإنسان والبيئة. والإنسان المسلم لا يعتبر الكون طرفا معاديا له كما في التصور المادي، بل يعتبره جزءا من الأمانة العامة التي كلفه الله بها في الحفاظ على مقدراته في كونه مستخلفا فيه بما يجب في شتى المجالات لتحقيق منافع عامة للبشرية.
يعكس فقه السنن الكونية التكامل بين العلم والدين في الإسلام، حيث يحث الدين الإسلامي على فهم وإدراك القوانين التي تحكم الكون والالتزام بها. ويعتبر هذا الفقه واجبًا دينيًا وشرعيًا يساهم في تعزيز الإيمان بالله، وتحقيق التوازن بين الإنسان والبيئة، ودفع المسلمين للسعي نحو العلم والمعرفة. من خلال اتباع السنن الكونية، يحقق المسلمون الانسجام مع الطبيعة والعيش بأسلوب يتماشى مع الحكمة الإلهية في خلق الكون.
إن قيمة التفكر في الكون توجب الارتقاء بالإنسان إلى إدراك السنن الكونية والتفاعل معها والتحقق من خصائصها في كونها مرتبطة بالله تعالى من حيث الخلق والتقدير والتدبير، يقول الله تعالى:﴿...سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادهِ...﴾(غافر: 85)، فهي سنّة الله تعالى في الخلق لا تتغير ولا تتبدل بتغير الأزمان والأمكنة بالخير أو الشر لا تحابي أحدا كان مسلما أو كافرا، برا أو فاجرا، يقول الله تعالى:﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾(الفتح: 23). وقد بيَّن الله تعالى في كثير من الآيات العلاقة بين السنن الكونية والسنن الشرعية ليبقى الإنسان المسلم متصلا بها ليحقق أكبر قدر ممكن من التسخير، لأنها من عالمه المادي وحاجته إليها، وتنظم حياته إيجابا وسلبا، فمن أخذ بها منحته من عطاياها ومن تخلف عنها وتنكب يُجزى من جنس عمله الخسران، والله تعالى يقول: ﴿مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾(فصلت: 46).عملية رياضياتية تحصل واقعا وتشمل كلّ الخلائق وتنطبق عليهم ويجدونها تتحقّق في أي مجتمع وأيّ فئة وفي الفرد والمجتمع، وهذه السّنن طبقت على خير الخلق محمد ﷺ نصرا وهزيمة.
إن الواقع يشهد بالأخذ بالسّنن الكونيّة والتّفاعل معها، فقد أخذ العالم الغربي بهذه السّنن فحقّق حضارة بكلّ أبعادها في الجانب المادّي، في حين نجد المسلمين في حالة من الضّعف لتولّيهم عن السّنن الكونيّة واعتبارها لهوا ولغوا، فأشربوا هزيمة وتبعيّة للعالم الغربي، وهذا ما أشار إليه محمد الغزالي رحمه اللّه: «هذا في نظري يجعلني أنظر إلى الحياة الغربيّة التي نعيش فيها، نظرة فيها إنصاف.. الحضارة الغربيّة احترمت الكون، وهذا أصل من أصول الإسلام وبدأت تدرسه، وربّما اقتربت من الفطرة في بعض المراحل أكثر منّا، فنحن أمّة أكلتها التّقاليد التي صنعتها لنفسها وضعت بها قيودًا على مسالكها» (8)ثمّ أضاف: «أظنّ أنّ الحضارة الغربيّة في نظرتها إلى الحياة الدّنيا والكون واكتشافها لسننه، وأخذها من أسراره، تجعلني أقول: هذا هو كتابنا هذا ما عندنا، لكن ما وقعوا فيه من أخطاء إنّما جاء من أنّهم، ما وصل إليهم القرآن، وما عرفوا فكره، فَهُم ظنّوا أنّ الدّين عائق عن الحركة، وعن النّظرة المنطلقة، وذلك ربّما يكون؛ لأنّ الصّورة المجسّدة أمامهم هي صورة معوقة»(9).
لقد فقه الغرب السّنن الكونيّة وتدبّرها، فحقّق بها المتعة المادّية إلى حدّ الإضرار بالنّفس والإنسان والكون، لكن المسلمين اليوم جعلوا من القرآن الكريم كتابا مقدّسا روحيّا فقط، يستنبطون منه الأحكام الشّرعيّة المتعلّقة بالفقه، ولم يأخذوا بالنّظرة الشّموليّة المستوعبة للنّظر في الإنسان والأنفس والآفاق وقيمة التّدبر في حقائق الوجود، ممّا يعكس النّظرة الاستشرافيّة للقرآن الكريم، يقول اللّه تعالى:﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾(فصلت: 53)، على أنّ اللّه سيظهر للنّاس آياته في الكون وفي أنفسهم حتّى يتبين لهم أنّ القرآن حقّ. يقول تعالى:﴿وَفِی الاَرْضِ ءَایَـٰتٌ لِّلمُوقِنِینَ، وَفِی أَنفُسِكُم أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾(الذاريات: 20-21)(10). فأدّى عدم تدبر القرآن الكريم من طرف المسلمين إلى فصل السّنن الكونيّة الدّاعمة لفهم القرآن الكريم، على عكس النبي ﷺ وأصحابه الذين أخذوا بسنن التّغيير والتّدافع الاجتماعي وعملوا بها، فحوّلوا أمّية الجزيرة العربيّة إلى دار علم ومعرفة وحضارة، يقول اللّه تعالى:﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(البقرة: 151)، ويقول سبحانه:﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(الحج: 40).
قد يقول قائل لماذا شرع القتال أو الجهاد في سبيل اللّه؟ شرع القتال، لأنّ النّفس البشريّة مجبولة على الاستحواذ والأنانيّة وحبّ الذّات، فإن لم يكن وازع من الدّين فإنّ الفئة المتغطرسة تبغي على المستضعفة فتنهب وتدمّر وتقتل وتعطّل لتحقّق رغباتها وشهواتها، وما اندلاع الحروب عبر التّاريخ إلاّ رغبة في التّوسّع والاستيطان واستعباد المستضعفين، لهذا شُرع الجهاد من باب أولى للحفاظ على ضروريّات حياة العباد والبلاد، ولمّا خمدت قيمة الجهاد في نفوس المسلمين لعدّة أسباب موضوعيّة وذاتيّة تحكّمت أيادي الباطل على النّفوس والعقول، فاستوحش على النّاس أمنهم الرّوحي والمادّي.
لقد جعل اللّه الكون منتظما بسنن خلت في الأولين لا تتغيّر، وتجري في أحوال العباد بما يملكون من مقومات الحياة الاجتماعيّة، وتؤثّر فيهم إيجابا وسلبا بقدر أخذهم بالأسباب المعينة على مدافعة القدر بقدر خير منه، فيحقّقون منها منفعة لأنفسهم ولبيئتهم أو يكونون عرضة للنّدامة على عدم أخذهم الحيطة والحذر، فيهلك «الحرث والنّسل»، يقول الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾(آل عمران: 140)، أي بين الهزيمة والنّصر آخذين بالأسباب.
لقد أنزل اللّه تعالى القرآن ليعالج الواقع والقضايا المتجدّدة في حياة البشريّة، ولهذا لمّا تعاملت معه الأمّة في العصر النّبوي بشكل جيّد بنت حضارة إنسانيّة، لا تزال رفوف المكتبات شاهدة عليها، ويمكن للمسلمين اليوم أن يرقوْا إلى مستوى الرّيادة ويتجاوزوا عقبة التّخلّف والتّبعيّة، لأنّ القرآن الكريم يحمل الهداية للتّي هي أحسن في جميع مستويات الحياة الإنسانيّة من جهة، ويدلّ على السّنن الدّافعة إلى تجاوز النّكبات الماضية في الذين خلوا من قبل من الأمم من جهة أخرى، فيتدافعون مع الأقدار الثّابتة والمستمرّة في الكون، ليحققّوا منها القدر الكافي من التّسخير الإيجابي.
لو أمعن الإنسان النّظر في كتاب اللّه تعالى وتدبّر آياته، لاهتدى إلى ضرورة التّدبّر في القوانين الكونيّة التي انتظمت بشكل عجيب لا تتبدّل ولا تتغير﴿ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾(يس: 38)، فجميع المخلوقات الكونيّة تجري بحكمة اللّه تعالى خاضعة لأمره﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ﴾(الأعلى : 2-3)، من الذّرة فما دونها إلى خلق السّموات والأرض وما بينهن وما فيهن، كلّ شيء قد جعل اللّه له من أسباب الحركة والنّمو ومن الهداية التي أودعها اللّه في مخلوقاته كلّها «الذي خلق كل شيء فسواه، فأكمل صنعته، وبلغ به غاية الكمال الذي يناسبه...والذي قدّر لكلّ مخلوق وظيفته وغايته، فهداه إلى ما خلقه لأجله، وألهمه غاية وجوده وقدّر له ما يصلحه مدّة بقائه، وهداه إليه أيضا...وهذه الحقيقة الكبرى ماثلة في كلّ شيء في هذا الوجود; يشهد بها كلّ شيء في رحاب الوجود، من الكبير إلى الصّغير. ومن الجليل إلى الحقير.. كلّ شيء مسوى في صنعته، كامل في خلقته، معدّ لأداء وظيفته، مقدّر له غاية وجوده، وهو ميسّر لتحقيق هذه الغاية من أيسر طريق.. وجميع الأشياء مجتمعة كاملة التّناسق، ميسّرة لكي تؤدّي في تجمّعها دورها الجماعي مثلما هي ميسّرة فرادى لكي تؤدّي دورها الفردي... الذّرّة بمفردها كاملة التّناسق بين كهاربها وبروتوناتها وإلكتروناتها، شأنها شأن المجموعة الشّمسيّة في تناسق شمسها وكواكبها وتوابعها.. وهي تعرف طريقها وتؤدّي مثلها وظيفتها...والخليّة الحيّة المفردة كاملة الخلقة والاستعداد لأداء وظائفها كلّها، شأنها شأن أرقى الخلائق الحيّة المركّبة المعقّدة. وبين الذّرة المفردة والمجموعة الشّمسيّة كما بين الخليّة الواحدة وأرقى الكائنات الحيّة، درجات من التّنظيمات والتّركيبات كلّها في مثل هذا الكمال الخلقي، وفي مثل هذا التّناسق الجماعي، وفي مثل هذا التّدبير والتّقدير الذي يحكمها ويصرفها.. والكون كلّه هو الشّاهد الحاضر على هذه الحقيقة العميقة.. هذه الحقيقة يدركها القلب البشري جملة حين يتلقّى إيقاعات هذا الوجود; وحين يتدبّر الأشياء في رحابه بحسّ مفتوح. وهذا الإدراك الإلهامي لا يستعصي على أيّ إنسان في أيّة بيئة، وعلى أيّة درجة من درجات العلم الكسبي، متى تفتحت منافذ القلب، وتيقظت أوتاره لتلقي إيقاعات الوجود»(11).
لقد خلق اللّه تعالى الإنسان وزوّده بمؤهّلات عقليّة دون بقيّة المخلوقات ليفقه السّنن الكونيّة، ويستفيد منها وينتفع ويحقّق استخلافه في الأرض وتمكينه فيها، يقول اللّه تعالى:﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الجاثية: 12). فبقدر تفاعل الإنسان مع السّنن الكونيّة يحقّق غايته من الوجود الكوني وعبادته للّه تعالى، وإن هو تخلّف عن فقهها خذلته فيُرَدُّ إلى مستوى التّخلّف ويفقد مركزيّته وريادته في الكون، يقول الله تعالى:﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾(الفتح: 23).
الهوامش
(1) كيف نتعامل مع القرآن الكريم، للشيخ محمد الغزالي ص:36 المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، عمان،الطبعة2، 1999م
(2) المحاور الخمسة للقرآن الكريم، للشيخ محمد الغزالي رحمه الله ص: 51
(3) المحاور الخمسة للقرآن الكريم، ص:51- 53
(4) التحرير والتنوير للشيخ الطاهر بن عاشور ، بتصرف
(5) مجموع الفتاوي للشيخ ابن تيمية 23/343
(6) كيف نتعامل مع القرآن للشيخ محمد الغزالي ص: 12-13
(7) كيف نتعامل مع القرآن للشيخ محمد الغزالي ص: 63
(8) و (9) كيف نتعامل مع القرآن لمحمد الغزالي ص: 56
(10) سورة الذاريات الآية 20-21، وفي سورة آل عمران الآية 190-191، وسورة العنكبوت الآية 29، وسورة الجاثية الآية 45، وغيرها من الآيات التي تدل وتؤكد على أهمية التفكر في خلق السماوات والأرض والليل والنهار كآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله ويتفكرون في خلقه، وتشير بوضوح إلى العلاقة بين النصوص القرآنية والآيات الكونية، وتشجع على التأمل والتدبر في خلق الله كدليل على وجوده وقدرته.
(11) في ظلال القرآن ، لسيد قطب 6/3883-3884، دار الشروق ، بيروت، القاهرة، الطبعة العاشرة 1400هـ 1980م
|