الإنسان والكون
بقلم |
![]() |
د.نبيل غربال |
مفهوما الليّل والنّهار في القرآن (5) 2. اللّيل في القرآن (تتمة) |
تناولنا في العدد 204 الآية 29 من سورة الغاشية، ورأينا أنّ صيغة «الإغطاش» التي تستعملها تفيد أنّ هناك ظلام يسمّيه القرآن ليلا، وقد زاده اللّه ظلمة، وأنّ النّهار حديث بالنّسبة إليه حيث ظهر بالتّزامن مع عمليّة «الإغطاش». وقد أكّدت المعارف العلميّة المتعلّقة بتطوّر تركيبة الغلاف الغازي وما ترتّب عنه على الحالة البصريّة التي يبدو عليها ذلك ما تخبر به الآية. سنرى في هذا العدد أنّ الآية 37 من سورة يس والآيتين 14 و15 من سورة الحجر تدعّم ما ذهبنا اليه، وهو أنّ القرآن يسمّي الظّلام الذي يوجد حول الأرض ليلا، حيث سنركّز على الظّلام الذي يوجد فوق النّهار، وهو ظلام تابع للأرض باعتبار أنّه خاصّية لغلافها الغازي الذي يمكن أن يصل الى 800 كم الى الأعلى.
3.2. النهار في القرآن هو لِلَّيل كالجلد بالنسبة للحيوان
1.3.2 السّلخ لغة (السّلخ هو نزع جسم رقيق ملتصق بآخر)
يصف الشّنفرى، في بيت شعر يعود الى السّنة 50 قبل الهجرة، فتى لا يجيد السّلخ، قد أفسد إهابا(1): «وَكفّ فَتىً لم يَعرفِ السَّلخَ قَبلها *** تَجورُ يَداهُ في الإِهابِ وَتَخرُجُ»، حيث «سلخ الشاة ونحوها: نزع جلدها وكشطه»(2). ولذلك قيل: «وَالْأَصْلُ سَلَخْتُ جِلْدَةَ الشَّاةِ سَلْخًا»(3)والمَسْلوخُ «الشاةُ سُلِخَ عنها جلدُها»(4). وفي العين: «سَلَخَتِ المرأة درعها: نزعته. قال (يعني الفرزدق 20 - 110 ه): إذا سَلَخَتْ عنها أمامة درعها *** وأعجبها رابي المجسّة مشرف»(5) وهو ما يعتبره الأصفهاني استعارة حيث كتب: «السَّلْخُ: نزع جلد الحيوان، يقال: سَلَخْتُهُ فَانْسَلَخَ، وعنه استعير: سَلَخْتُ درعه: نزعتها، وسَلَخَ الشهرُ وانْسَلَخَ، قال تعالى:﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ﴾(التوبة: 5)، وقال تعالى:﴿ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ ﴾(يس: 37)، أي: ننزع، وأسود سَالِخٌ، سلخ جلده، أي: نزعه، ونخلة مِسْلَاخٌ: ينتثر بُسْرُها (ثَمَرُها قَبْلَ أَنْ يَرْطُبَ) الأخضر»(6). وفي المعجم الاشتقاقي نجد ما يسمّيه مؤلّفه المعنى المحوري للجذر (سلخ) وهو: نَزْع ما هو ملتصق محيط بظاهر الشّيء فينكشف الشّيء: كسلخ الجلد عن الشّاة»(7). وعن العبارة (انسلخ من) ننقل عن الجوهري ما يلي: «وانْسَلَخَ الشّهرُ من سنته، والرّجلُ من ثِيابه (الثّياب محيط بالرّجل. إذا قال تعالى أنّه يسلخ النّهار من اللّيل فهذا يدلّ على أنّ اللّيل محيط بالنّهار)، والحيَّةُ من قشرها، والنّهار من اللّيل»(8). وتقريبا للمعنى نضيف التّالي: «كلّ شيء خرج من شيء فقد انسلخ منه»(9).
هذا عن لفظ سلخ في اللّسان فكيف فُسّرت الآية؟
2.3.2 سلخ النّهار من اللّيل في التّفاسير
سننقل فيما يلي وباختصار شديد وتصرّف ما نعتبره عيّنة كافية تمثّل ما قيل في شأن الآية عند المفسّرين مع إبداء الرّأي فيه، ونبدأ بالماوردي الذي يرى أنّ سلخ النّهار من اللّيل هو «إخراج ضوء النّهار منه»(10) وذلك «مأخوذ من سلخ الشّاة إذا خرجت من جلدها»(11). نلاحظ أنّ هذا القول قد ابتعد عن أصل استعمال السّلخ، وهو كما سبق فعل مسلّط على الجلد وليس على جسم الشّاة، فلم تقل الآية أنّ اللّيلَ قد سُلخ بل النّهار. واستعمال السّلخ بمعنى الإخراج ذهب اليه آخرون مثل القرطبي الذي قال:«والسّلخ: الكشط والنّزع، يقال: سلخه اللّه من دينه، ثمّ تستعمل بمعنى الإخراج. وقد جعل ذهاب الضّوء ومجيء الظّلمة كالسّلخ من الشّيء وظهور المسلوخ ... لأنّ ضوء النّهار يتداخل في الهواء فيضيء، فإذا خرج منه أظلم»(12). إنّ القول بأنّ السّلخ جاء بمعنى الإخراج يتعارض مع المعنى الأصلي الذي يتعلّق بالجلد، واستعمال الإخراج لا يصف ما حصل للجلد بل ما حصل للجسم الذي فصل عنه الجلد. إنّ معنى الإخراج يتحقّق في المسلوخ وليس في السِّلْخِ. يعكس القول بأنّ السّلخ مستعمل بمعنى الإخراج عدم تقيّد المفسر بالمعنى الأصلي للسّلخ واعتباره مرادفا للإخراج في حين أنّ الكلمة القرآنيّة لا يمكن تبديلها بكلمة أخرى الاّ تقريبا للمعنى وليس تغييره. فالفرق بين السّلخ والإخراج هو « أنّ السّلخ هو إخراج ظرف (كلُّ ما يستقرّ غيره فيه كالوعاء والكيس-معجم اللّغة العربية المعاصرة) أو ما يكون بمنزلة الظّرف له، والإخراج عامّ في كلّ شيء وهو الإزالة من محيط أو ما يجري مجرى المحيط»(13).
« التزم الزمخشري في تفسيره بما يقتضيه الفعل سلخ وما ينتج عنه من انكشاف الجسم المسلوخ حيث رأى أنّ في الآية استعارة لسلخ جلد الشّاة إذا كشط عنها وأزيل «لإزالة الضّوء أو كشفه عن مكان اللّيل وملقى ظله»(14). لكنّ مكان اللّيل ليس اللّيل، وملقى ظلّ اللّيل ليس اللّيل، والآية واضحة، فالسّلخ هو للنّهار من اللّيل، كما أنّ سلخ الشّاة هو نزع جلدها من جسمها وليس شيئا آخر. إنّ إزالة الجلد يؤدّي الى انكشاف الجسم الذي كان ملتصقا به وليس مكانه. ويوضح بن عاشور مفعول فعل السّلخ والفرق بين (سلخ) و(سلخ من) حيث كتب: «والسّلخ إزالة الجلد عن حيوانه، وفعله يتعدّى إلى الجلد المزال بنفسه على المفعوليّة... ويتعدّى فعل سلَخ إلى الجسم الذي أزيل جلده بحرف الجرّ، والأكثر أنّه مِن الابتدائيّة، ويتعدّى بحرف عن أيضاً لما في السّلخ من معنى المباعدة والمجاوزة بعد الاتصال. فمفعول {نَسْلَخُ} هنا هو {النَّهَارَ} بلا ريب، وعدي السّلخ إلى ضمير {اللَّيْلُ} بـ «من» فصار المعنى اللّيل آية لهم في حال إزالةِ غشاء نور النّهار عنه فيبقى عليهم اللّيل، فشبّه النّهار بجلد الشّاة ونحوها يغطّي ما تحته منها كما يغطّي النّهار ظلمةَ اللّيل في الصّباح. وشبّه كشف النّهار وإزالته بسلخ الجلد عن نحو الشّاة فصار اللّيل بمنزلة جسم الحيوان المسلوخ منه جلده، وليس اللّيل بمقصود بالتّشبيه وإنّما المقصود تشبيه زوال النّهار عنه، فاستتبع ذلك أنّ اللّيل يبقى شبه الجسم المسلوخ عنه جلده. ووجه ذلك أنّ الظّلمة هي الحالة السّابقة للعوالم قبل خلق النّور في الأجسام النيّرة لأنّ الظّلمة عدم والنّور وجود...»(15). لا يرى ابن عاشور ريبا في أنّ مفعول السّلخ هو النّهار وأنّ في ذلك تشبيه للنّهار بجلد الشّاة ونحوها، بحيث يصير اللّيل بمنزلة جسم الحيوان المسلوخ منه جلده وهو ما سنذهب إليه عند عرض رأينا في الآية، لكن ما لا نتفق معه فيه هو جعله تغطية النّهار للظّلمة مقصورا على الفترة الصّباحيّة. فقصره التّغطية على هذا الوقت لأنّه ظاهريّا هو الوقت الذي يجتمع فيه النّهار واللّيل مفهوم ولكن ليس الظّاهر دائما كافيا لفهم موضوع النّظر وهو سلخ النّهار من اللّيل.
وبالنّسبة لـ{مُّظْلِمُونَ} فهي في أغلب التّفاسير تعني «داخلون في الظّلام» حيث «يقال: أظلمنا أي دخلنا في ظلام اللّيل، وأظهرنا دخلنا في وقت الظّهر، وكذلك أصبحنا وأضحينا وأمسينا... ﴿فَإذَا هُمْ مُظْلِمُونَ﴾ أي في ظلمة لأنّ ضوء النّهار يتداخل في الهواء فيضيء فإذا خرج منه أظلم»(16). أنهينا هذه الفقرة بمسألة خروج ضوء النّهار لأنّ في القول نصيبا من حقيقة الطّبيعة.
3.3.2 النّهار جسم مادّي
سنذهب إذا الى ما ذهب اليه ابن عاشور الذي لا يرى ريبا في أنّ مفعول السّلخ هو النّهار وأنّ في ذلك تشبيه للنّهار بجلد الشّاة ونحوها بحيث يصير اللّيل بمنزلة جسم الحيوان المسلوخ منه جلده. لذلك، فعندما تقول الآية أنّ النّهار يُسلخ من اللّيل فهذا يتضمّن أمرين متلازمين يتطلّبهما معنى السّلخ: الأمر الأول هو أنّ النّهار واللّيل جسمان مادّيان جسم الأول رقيق بالنّسبة لجسم الثّاني كالجلد بالنّسبة للشّاة والأمر الثّاني هو أنّ اتصال النّهار باللّيل لا بدّ أن يشمل كامل جسم النّهار وليس مقصورا على ما يبدو من اتصال وقت الغروب أو الشّروق الذي أشارت اليه التّفاسير.
كنا قد رأينا أنّ النّهار هو بالفعل جسم مادّي يتكوّن من خليط من غازي الأكسجين الحرّ والنّيتروجين وفوتونات الضّوء المرئي، وأنّ شكله نصف كرة مقعّر محيط بنصف سطح الأرض المواجه للشّمس ولا يتجاوز سمكه جزءا من عشرين جزءٍ من سمك الغلاف الغازي، فيمكن إذا، وبهذه الخاصّية، تشبيهه بالجلد. ولتتحقّق دلالة استعمال لفظ السّلخ يجب أيضا أن يكون هناك جسم ماديّ مظلم ملتصق بالكامل بالنّهار وموجود فوقه يسمّيه القرآن ليلا، لتلازم وجودهما معا كما يتطلّب تشبيههما بالجلد وجسم الشّاة. فهل هناك جسم مادّي مظلم فوق النّهار؟ وماذا سيترتّب على تسمية القرآن لهذا الظّلام ليلا؟ سنبيّن في الفقرة التّالية أنّ في الآيتين 14 و15 من سورة الحجر إجابة على السّؤال المتعلّق بوجود ظلام فوق النّهار، وسنعود لعرض الإجابة العلميّة عليه في الجزء الثّاني من هذا الفصل المعنون: «اللّيل في القرآن».
4.2. انعدام الضّياء عند العروج في السّماء نهارا.
موضوع هذه الفقرة يتعلّق إذا بالآيتين 14 و15 من سورة الحجر: ﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباٗ مِّنَ اَلسَّمَآءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ* لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَٰرُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْم مَّسْحُورُونَ﴾.
1.4.2 المعنيون بقوله تعالى: {فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ}
«اختلف أهل التّأويل في المعنِيِّينَ بقوله: ﴿فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ﴾فقال بعضهم: معنى الكلام: ولو فتحنا على هؤلاء القائلين لك يا محمد ﴿لَوْمَا تَأْتِينا بالمَلائِكَةِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (سورة الحجر 7) باباً من السّماء فظلّت الملائكة تعرج فيه وهم يرونهم عياناً، (ابن عباس)، وقال آخرون: إنّما عُني بذلك بنو آدم. ومعنى الكلام عندهم: ولو فتحنا على هؤلاء المشركين من قومك يا محمد باباً من السّماء فظلّوا هم فيه يعرجون (الحسن)»(17). ومن المؤولين الذين قالوا إن ضمير الجمع في (عليهم) يعود للمشركين نذكر الألوسي الذي يسمّيهم «المقترحين» وهو (أي التّأويل) عنده «الظّاهر المروي عن الحسن وإليه ذهب الجبائي وأبو مسلم»(18). وقد نحا ابن عاشور نفس المنحى إذ قال في الآيتين أنّهما:«عطف على جملة ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ (سورة الحجر 13) وهو كلام جامع لإبطال جميع معاذيرهم من قولهم ﴿لَوْمَا تَأْتِينا بالمَلائِكَةِ﴾ (سورة الحجر 7) وقولهم ﴿إنّكَ لمجْنُون﴾ (الحجر 6) بأنّهم لا يطلبون الدّلالة على صدقه، لأنّ دلائل الصّدق بيّنة، ولكنّهم ينتحلون المعاذير المختلفة. والكلامُ الجامعُ لإبطال معاذيرهم أنّهم لو فتح اللّه باباً من السّماء حين سألوا آيةً على صدق الرّسول، أي بطلب من الرّسول، فاتصلوا بعالم القدس والنّفوس الملكيّة، ورأوا ذلك رأي العين لاعتذروا بأنّها تخيّلات وأنّهم سُحِروا فرأوا ما ليس بشيء شيئاً. ونظيره قوله ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ (سورة الأنعام 7)(19).
سنحاول تقديم قراءة متكاملة للآيتين، منطلقين من أن المعنِيِّينَ بقوله:﴿فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ﴾ هم المشركون ومن خلالهم كافّة البشريّة التي سيأتي عليها يوم تتحقّق فيه ممّا جاء فيهما. وسنؤسّس قراءتنا على التّالي: يمثّل القرآن نصّ الرّسالة الإلهيّة للإنسان الى انتهاء المدّة المقدّرة له لإعمار الأرض. وبناء عليه، نرى أنّ هذا النّوع من الآيات التي تستعمل حرف (لو) لا يمكن أن يستوفي قيمته كدليل صدق الاّ إذا كان بلوغ البشريّة القدرة على التّحقّق ممّا يقوله ممكنا. لذلك نستبعد التّفاسير التي ذهبت الى أنّ المشركين سيشاهدون الملائكة وهي تعرج لو فتح عليهم بابا من السّماء، أو أنّهم هم الذين سيعرجون في هذا الباب ليروا الملائكة أو أشياء غيبيّة أخرى. ففي كلتا الحالتين سيبقى مضمون الآيتين غيبيّا يتجاوز العقل وقدراته على التّحقّق ممّا جاء فيهما.
2.4.2 دلالة حرف (لو)
ننطلق من حرف (لو) الذي قال في دلالته سيبويه أنّه «حرف لما كان سيقع لوقوع غيره»(20) فهو يفيد في السّياق الذي ورد فيه أنّ المشركين سيكون لهم موقف محدّد لو فتح اللّه عليهم بابا في السّماء فضلّوا فيه يعرجون. وقد أخبر اللّه بهذا الموقف وهو إخبار لحقيقة لا بدّ وأنّها قابلة للتّثبت والاّ ما الفائدة في ذكرها. فكيف تكون دليلَ صدق كما قال ابن عاشور وهي خارج قدرات حواسّ الإدراك البشري؟
إنّ استعمال (لو) من طرف اللّه يعني أنّه لو يعرج فعلا بمثل هؤلاء فسوف يعيشون حقيقة تجربة يدركونها بأبصارهم، وسيشكّون في حاسّة الرّؤية لديهم في البداية ثمّ سيعتبرون أنّفسهم مسحورين. فهل وصلت البشريّة الى مرحلة التّحقّق الفعلي ممّا يخبر به اللّه؟ وللإجابة على السّؤال، لا بدّ من التّدقيق في معاني بعض الألفاظ والمركّبات الواردة في الآيتين.
3.4.2 (ظلّ) في اللّسان العربي
ظاهريّا، تعتبر الآية 14 مفهومة، فهي تقول بوجود باب في السّماء يمكن أن يفتح فيعرج فيه. والعروج هو في الأصل الذّهاب صعودا مع تفاصيل أخرى يمكن أن توصف بها حركة العروج. لن نتطرّق إليها لأنّه لا علاقة لها مباشرة بما يهمّنا في الآية. تتضمّن الآية إذًا معنى أنّ السّماء جسم مادّي مغلق يمكن أن يُزال غلقه ويُدخَل فيه صعودا. فهل لهذا المضمون ما يمثّله حقيقة؟
رأينا سابقا أنّ الغلاف الغازي المحيط بالأرض جسم مادّي يتوفّر فيه شرط العلوّ بالنّسبة لسكّان الأرض فهو بذلك سماء. لذلك يمكن أن نقول إنّ الآية تشير إليه، فهل يمكن أن يُفتح باب منه ويصعد فيه؟ نعلم الآن أنّ الحركة صعودا في الغلاف الغازي أصبحت حقيقة أي أنّ الإنسان استطاع أن يفتح أبوابا من السّماء ويتحرّك فيها صعودا. لكن عندما يرد في الآية لفظ (ظلّوا) فهذا يتطلّب انتباها شديدا. لماذا؟ لأنّه «لا تقول العرب ظلّ يظلّ إلاّ لكلّ عَمَل عُمِل بالنّهار، كما لا يقولون بات يبيت إلاّ باللّيل، والمصدر الظّلول»(21). وهذا معطى أساسي لفهم الآية: إنّها تتكلّم عن الصّعود في الغلاف الغازي نهارا وليس ليلا. فما أهمّية ذلك؟
إنّ اللّه يخبرنا من خلال ما يتوقّعه (وتوقّعه حقيقة مطلقة) من المشركين أنّه لو صعد بهم في الغلاف الغازي نهارا سيقولون إنّ أبصارهم سكّرت، ثمّ يستدركون ويقولون إنّهم مسحورون. فماذا يعني لفظ سُكِّرَتْ؟
4.4.2 معنى {سُكِّرت}
اختلف القرّاء في قراءة لفظ سُكِّرَتْ، حيث قُرأ بصيغتين «إحداهما بتشديد الكاف (سُكِّرت)، والثّانية بتخفيفها (سُكِرت)... وفي اختلافهما وجهان: أحدهما: معناهما واحد، وفيه سبعة تأويلات: سُدّت، عميت، أخذت، خدعت، غشيت وغطيت، حبست، والوجه الثّاني: أنّ معنى سكرت بالتّشديد (سُكِّرت) والتّخفيف (سُكِرت) مختلف، أحدهما: أنّ معناه بالتّخفيف (سُكِرت) سُحِرَتْ، وبالتّشديد (سُكِّرت): أخذت. الثّاني: أنّه بالتّخفيف (سُكِرت) من سُكر الشّراب، وبالتّشديد (سُكِّرت) مأخوذ من سكرت الماء»(22). و«هذه أقوال متقاربة يجمعها قولك: مُنِعت»(23) وهو ما استنتجه القرطبي ونكتفي به في تدبّرنا للآتين.
5.4.2 ظلام فوق النهار!
إنّ القول بأنّ أبصارهم سكّرت بمعنى أنّهم منعوا من الإدراك بحاسّة الرّؤية يعني أنّ الضّياء الذي كانوا فيه قد انعدم وهم يعرجون في باب من الغلاف الغازي نهارا، إنّه وصف لما سيحدث عند انتقالهم، وهم يرتقون في الغلاف الغازي مبتعدين عن سطح الأرض، من ضياء النّهار الى ظلام يعلوه لن تكون فيه عمليّة الإبصار ممكنة. إنّ اخبار اللّه لما كان سيقوله المشركون لو صُعد بهم في الغلاف الغازي نهارا، اخبار بحقيقة طبيعيّة لم تكن ترد ببال أحد زمن النّزول، وقد وصلت البشريّة الى مرحلة من التّقدّم العلمي والتّكنولوجي مكّنتها من التّأكّد منها، وهي أنّ فوق النّهار ظلام كما سنرى في الجزء التّالي المخصّص للّيل في القرآن. فكيف يمكن تصوّر وجود ظلام فوق النّهار في زمن كان يعتقد فيه أنّ ضياءه يملأ الوجود؟ إنّ قولهم بتسكير أبصارهم أي منعها من الإبصار إقرار بانعدام ما يتطلّبه الإبصار وهو الضّياء الذي كان سائدا في بداية رحلة عروجهم. أمّا تداركهم أو تراجعهم عما قالوه فذلك لقناعتهم أنّ المشكلة ليست في عيونهم بل في السّحر الذي مورس عليهم كما سيدّعون، وهو هروب من الإقرار بالحقيقة التي عاينوها الى ما لا يمكن تفسيره، لأن العقل سيقودهم حتما الى التّصديق بالرّسالة وصدق الرّسول.
إنّ التّأليف بين آية السّلخ وآيتي الحجر سيؤدّي الى نتيجة هامّة لها تأثير حاسم في تحديد مفهوم اللّيل في القرآن وهي أنّ القرآن يسمّي الظّلام الذي يعلو النّهار ليلا إضافة الى تسمية الظّلام الذي يعقب النّهار بنفس الاسم، وهو الأصل في التّسمية، وكذلك تسميته للظّلام الذي سبق النّهار ليلا كما بيّنّاه في العدد الماضي من المجلة.
الهوامش
(1) الإِهاب: جلد الحيوان قبل دبغه (https://www.almaany.com/)
(2) معجم الدوحة التاريخي للغة العربية https://www.dohadictionary.org/dictionary
(3) مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م
(4) منتخب الصحاح-أبو نصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م (سلخ)
(5) العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ/940م (سلخ)
(6) مفردات ألفاظ القرآن — الراغب الأصفهاني (٥٠٢ هـ)
(7) المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
(8) منتخب الصحاح-أبو نصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م
(9) جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
(10) تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ) مصنف ومدقق (11 م)
(11) المرجع السابق
(12) تفسير الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف ومدقق
(13) الفروق في اللغة-أبو هلال العسكري-395ه
(14) تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ) مصنف ومدقق
(15) تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف ومدقق
(16) تفسير الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف ومدقق
(17) تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف ومدقق
(18) تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف ومدقق
(19) تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق
(20) البرهان في علوم القرآن -الزركشي -بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي (لو)
(21) تفسير مفاتيح الغيب، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف ومدقق مرحلة اولى
(22) تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ) مصنف ومدقق (بتصرف)
(23) تفسير الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف ومدقق
|