حوارت الاصلاح

بقلم
فيصل العش
محرز الدريسي : « نريد اصلاحا تربويا ضمن مشروع وطني يطمح لإنشاء ملامح المواطن الفاعل» حوار شامل مع ا

 نواصل في هذا العدد الجزء الثاني من الحوار الشامل مع الأستاذ محرز الدريسي  الخبير التربوي وعضو المكتب السياسي لحزب الإصلاح والتنمية  أن تطرقنا في الجزء الأول إلى الجانب السياسي النضالي لضيف المجلة الذي تحدث عن العلاقة بين السياسي والثقافي ومدى نجاح الطبقة السياسية في بلورة المطالب التي قامت من اجلها الثورة . كما قدّم لنا تفسيرا  عن غياب الشباب عن الفعل السياسي بعد أن فجّــر الثورة  وحدّثنا عن التداخل بين الدينيّ والسياسيّ ودور التيار السلفي في الحياة السياسية بتونس بعد الثورة وموقفه من التشتت الحزبي 

في الجزء الثاني نتطرق إلى الإصلاح السياسي و الثقافي والتربوي وكيف يرى ضيفنا آليات الإصلاح المنشود وموقع  تراث الأمة ودور المثقفين ورجال التعليم في هذه العمليّة كما أجابنا بصفته خبير تربوي عن طبيعة القيم التي ترتكز عليها التربية السليمة لجيــل جديــد متوازن و خلاّق  وعن اسباب النقص الكبير في الأبحاث والدراسات المعمقة من قبل الباحثين في الجوانب النظرية والتطبيقية في ميدان علوم التربية والثقافة وموقفه من الخوصصة في الميدان التربوي عموما والتعليمي 
 
(1) ما هـــــي آليــــــــــــــات الإصــــــلاح المنشـــود ؟  وما هو موقــــــع  التــــراث الضخــــم الــذي تمتلكـــــه الأمـــــــــة الإسلاميــــة فـــي عمليـــــة الإصـــــــلاح ؟ وكيف تتعاملــــون معــــه؟
 
موضوع شائك يتطلب معالجات جديدة تنأى بالتراث عن أن يكون خزان نفائس نعجـــب بهـــا أو نبحـــث فيه عــــن أجوبــــــــة لقضايــــا يطرحهـــا عصرنــــا أو حلــــول للتحديــــات الجديــــدة التـــي تواجــه عقلنا و مجتمعنا، أو أن يوظف التراث بإبراز بعض أوجه التقدميـة فيــه والثوريــة، أو أن يحلل المخزون الشعـــــوري الممتــــــــد فــــي اللحظـــة الحاضـــــرة. أنا مع قراءة موضوعية وعلمية للتراث واكتشاف المغزى التاريخي لمنجزات التراث وأن تكشف الاتجاهــات الإيجابيــــة والتقدميــــة فيه كما تكشف الاتجاهات السلبية والتقليدية فيه، تمنحنا الوعي بحقيقة المنجز التاريخي لثقافتنا،وتتيح لنا هوامش التفاعل المتحرك والدينامي مع تراثنا، وتعزز ذاكرتنا التاريخية وتنمي هويتنا المفتوحة وتدفعنا للاهتمام بالحاضر والمستقبل. من السهــــل أن يحول التــــــراث إلـــى "رأسمال رمــــــزي" يستثمـــر في سياقات محــــــددة وفـــــي زمنيـــــة محـــددة، لكـــن بإمكانــــه أن يتبخـــــر فـــــي لحظات مــــا لم يتأسس على فهم دقيق لمتطلبات العصر و تشرب عميق للحاجيات التاريخيـــــــة ولمقتضيــات الواقــــــع المجتمعـــي وأن يتحول إلى محفز لثقافة الإنجاز .
 
(2) ما هو دور الجمهور في قيادة العمليــــة التربويــــة والثقافيــــة وتعزيز مشاركته فيها؟
 
إن مبدأ التشاركية فـــــــي روح كــــل إصـــلاح ثقافـــي وتربوي، وأن الإصلاحات -على افتراض- حســـن نيتهـــا، تتطلب التخلـــي عن الإصلاح ضمـن دوائــــر ضيقـــة تقتصـر علــــى التكنوقــــراط والمختصين لتنفتح على كل المتدخلين الميدانييـــن و الفعاليــــات المدنية  والسياسية لضمان عمقها واستمراريتها. و يبقى الإصلاح شكليا إذا ما رأى إلا ما هـــــو بــــارز دون الغوص في الجــــذور وملامسة اللحم الحي للمآزق ولم يتجاوز الترقيعات والمسكنــــــات و النفــــاذ إلى المشاكل الحقيقيـــــة. والمشاركــــة ليست اختيارية بل هي واجب وحق، وهي شـــرط نجاعـــــــة كــــــل إصــــلاح، وهـــــي إحســــاس مــــن قبـــل الأفـــراد و الفاعليـــن بإيجابيتهــــم ومساهماتهم.
 
(3) لنتحدث قليلا فــــي التربيـــــة والثقافـــة: أيهما الأولى الإصلاح السياسي أم الإصلاح الثقافي والتربوي؟ 
 
أرى أن المسألة ليست باختيارنا في ترتيب الأولويـــــات، إضافـــة أن الإصلاحــــات ذات طابــــع منظومــــي، فكــــل المجــــــالات تمثل روافد مفتوحــــة، و عمليــــة الإصــــلاح ليســت ترتيبيـــــــة بـــل ديناميــــة تنبعـــث فـــي الجســـم الاجتماعــــي وتنشــــد تغييـــر الأوضاع الحالية إلى أوضاع أفضل وأحســــن، وأن تكون هناك إرادة حقيقية ليكــــــون الإصــــلاح شامــــلا أو لا يكــــون. وأن الثورة منحتنــــا فرصـــة تاريخيــــة نــــادرة ومكثفــة للنهوض التاريخي وأن مســــار حراك المجتمــــــع لا يستوجـــب ضـــرورة استنساخ النموذج الأوروبي أي الانتقال مـــن النهضة إلى التنوير إلى الحداثــــة إلــــى مــا بعــد الحداثـــــة، بـــل أن نرســـم مســـارا متميزا للدخول في دائرة التاريخ وعالـــم المجتمعــــات الفاعلــــة. إن الإصلاح الــــذي نبتغيــــه ليــــس الإصلاح "المجزأ" دون ماهيـــــة تربـــط بيــــن مجالاته، فالإصــــلاح السيـــــاسي يرمــــي إلى تنميـــــة العقلانيـــــة والديمقراطيــــة وإشاعــــــة الحرية وإطلاق طاقات الأفراد لبناء الوطن ليتعافى مجتمعنـــــا وتردّ القرار إلى المواطنين، نحن نحتاج فعلا إلـــــى إصلاح يتأسس علـــــى عقل إصلاحي مختلف.
 
(4) كيف ترون عمليّة الإصــــــــلاح التربــــــوي فــــي تونـــــس ؟ وما هو دور المثقفين ورجال التعليم في هذه العمليّة؟
 
حققت مدرستنا ونظامنا التربـــوي نتائــــج إيجابيــــة تحتـــــاج للتطويـــر والتدعيــــم والتعزيـــــز، مع وعينا أن الإصلاح التربوي فــــي تونس لازال يتــــــم وفـــــق خلفيــــات توظيفيــــة فــــي مختلــــــف محطّاتــــه المعلومــــة (1958-1991-2002).
على الإصلاح التربوي أن يكون ضمن مشروع وطني يطمح لإنشاء ملامح المواطن الفاعل وتلميذ صاحب مشروع وتعليمه وفــــــق عــــادات ذهنيـــة جديـــدة وأن تتحـــرر الآلة- الإدارية من روتينيتها لتخدم التجديد والتطوير. وألا يتم احتكار الإصلاح في إطار إداري ضيــــق وإنمــــا أن يُشــــرّك جميـــــع الفاعليــن التربويين في التقييـــم والاستشـــــراف، وأن تستثمــــر الآليات المعطلــــة للتجديـــــد و وأن يركــــز مجلس أعلى للتربيــــة ليتـــــم فــــكّ الارتبــــاط بيــــن التربيــة والسياســـــة، وأن تتحــــول كــــل قضايـــا التجديــــــد التربوي وكل الإصلاحات إلى رهانات مجتمعية تتعالى عن التجاذبات السياسية، وأن تتضافر الإصلاحات التربويــــــة وبقيــــــــــــة القطاعــــــــــات الحيويــــــة فـــــي المجتمـــــع. وهذا لا ينفي أن هناك إصلاحات استعجالية لابد من الشروع فيها تشمل العوائق البشرية والبرامجية، وإصلاحات مستقبلية وإستراتيجية تبني تدريجيا وتشاركيا.
 
 
(5) ما موقفكم مــــــــن إحيـــــاء التعليـــم الزيتونـــي ؟ وأي دور يمكـــــــن أن يلعبــــــــه مثـــل هـــذا التعليـــم فـــــي منظومة الإصلاح التربوي والثقافي؟
 
أنا شخصيا ضدّ صورة التعليم الزيتونــــي التــي قدمها أحد المتحمسين لاستئناف التعليم الزيتوني كما طرحها في ندوة نظمها منتدى الجاحـــــظ يــــوم 30 جـــوان، لأنها ستفرز ازدواجية في التعليم، بينما الجمهورية تفترض توحيد أنظمة التعليم فــــي ملامحـــه العامـــة، لكن يمكن للتعليم الزيتوني أن يلعب دورا في التعليم الشعبي المفتوح لكافة الفئات وأن يؤدي وظيفة التثقيف الجماهيري لتدعيم مناعة المجتمع المدنــــي وتلقيحـــه ضدّ تغول السلطة من ناحية ونشر ثقافة إسلامية متفتحة ومعتدلة من جهة أخـــــرى. ومــــع ذلك يمكـــن أن يطرح نقاشا وطنيا حول التعليم الزيتوني وكيفية تطويره من حيث المضامين والمناهـــــج والــــدور الذي يمكن أن يؤديه في تطوير الشخصية التونسية وإثراء هويتها، مع التفكير في طبيعة حضوره في مجال التعليم.
 
(6) ما تأثير العولمة وإسقاطاتها التكنلوجيـــة والثقافية على عملية الاصلاح المنشودة؟
 
إن العولمة تعني نهاية الجغرافيا، فلم يعد يوجد بلد منعزل أو وطن مستقل أو ثقافــــة محصنــــة، إلا أن انغلاقنا التاريخـي ليس مـــــرده إلى الكوننة، بل مشكلتنــــا تتكثف في عجزنا عن إنتاج أفكار جديدة وخلق مفاهيم مبتكرة كالإنجــــاز والنجاعـــــة والإبداع والإنشـــاء. إن العولمة بتحدياتها وفرصها تستوجب درجات عالية من الكفاءات والإقتـــدارات، ليس فقط علـــــى الصعيد التقني والعلمـــــــي والمهني، بل كذلك على مستوى متانة الشخصية وتوازنها وصلابتها في تحمل الضغوطــــــــــــــات من ناحية وقدرتها على التكيف المرن والانفتـــــــــــــــــاح المبــادرة من ناحية ثانيـــة. إن الإصلاح المنشــــــــود يبحث عن تشكيل الوعي وتوجيـــــه الخيـــال والتدريــــــــــــــــب علـــــــــــى منهجية التعقــد والتعامـــــل مــــــــــع المشكلات بتفكيـــر تركيبــــي، وربط جيل الشباب بفكـــــــــــرة المكان المفتــــــوح وبقيـــم الحداثـــــة، إذ علينا أن نغيـــــــر علاقتنا بأفكارنا وأسلوبنا في التعليم- التعلم، كي نغير علاقتنا بواقعنا.
 
(7) ما هي طبيعة القيم التي ترتكز عليها التربية السليمة لجيل جديد متـــــــــــوازن و خـــلاّق ؟ وما هـــو موقـــع  قضايـــا الديمقراطيـــة و حقوق الإنسان والمواطنة والهوية والتربية الوطنية ضمن البرامج التي تؤسس عليهــا السياســــة التربوية والثقافية؟
 
ما يمكن ملاحظته أن تدريس قضايا المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان أفرزت لدى التلاميذ شعورا بالتناقض بين ما يدرس داخل المدرســـــــة وما يعاش خارجهـــــا، وأحدثت "انشطـــــارا" شعوريا ببغض الواقع في رمزيته السياسية، واستقر إحســــاس عـــــام "بمثل" تدرس وواقع يدهسها، وهذا ما جعل شباب المدارس يساهم بكثافة في الإطاحـــــة بالديكتاتوريــــة. والآن نرغب أن يتم تطوير التربية على المدنيـــــة والمواطنــــة بإدماج مناهج ميدانية وفكرة المشاريع في التعاطــــــي مــــــع دروس التربيـــة المدنيــــة أي أن ينتقــــــــل من مجــــال النظــــري إلــــى مجــــال التطبيق، وأن يلتصــــق أكثـــــــر بالواقــــــع ويرتبـــــط بالبيئــــة المحليـــة، وذلــــك بتدريــــب التلاميــــــــــذ لا علــــى حفـــظ المفاهيـــــــــــم، بل على ممارســـة المفاهيــــم مــــن خــــلال استعمالهــــا في فهم مشكلات الحي والمدينة والجهــــة، وأن ترتبــــــط بالقضايا الواقعية كما يدركها التلاميــــــذ وتشخيصها ومساهماتهم في اقتراح الحلول وتدريبهم على التعامـــــــل مع المؤسسات السياسية والمدنية والخدماتية المناسبة.
 
(8) ألا ترى أن هناك نقص كبير في الأبحاث والدراسات المعمقـــة من قبل الباحثين العـــــــــرب عمومـــــا والتونسيون خصوصــــا سواء في الجوانب النظرية أو التطبيقية في ميدان علوم التربية والثقافة، يمكن أن نعتمدها أساسا لمخطط تربوي حديث؟
 
يمكن القول ببساطة ومن خلال معرفتي بالميدان التربوي، أن هناك استبعادا مقصودا لكـــل الخبـــرات التربويـــة وعدم تشريكها في التقييم والبرمجة والتخطيط والتجديــــــد، وأن البحـــــــوث التربويــــــــــة ملقـــــــاة في الرفوف ولم يتم الاستفــــــادة منهــــــا فــــي مجالات المناهــــــج البيداغوجيـــــة والتقييمـــــات والتجديــــدات، وبعض البحــــوث التــــي أنجزتهــــا فــــــــي ما يتعلق بالمواد الاختيارية والتعلمـــــات الاختياريــة والتربيــة على التوجيـــه، وغيرهـــا من الأبحـــاث لم تجد أذانا صاغية. بل نذكـــر أن تونــس هي البلد الوحيد بين البلدان العربية لا توجد بها كلية للتربية، ويمكن الإقرار دون تردد بوجود أسباب سياسية خلف هذا التغييب، والآن تثار المبررات المادية لعـــدم بعـــث هـــذه الكليـــة، وهـــذا ما يجعــل أن بعض القرارات تصاغ وفق نظـــرة ربحية مباشـــرة بمنطـــــــق إقتصـــــادوي محـــض ولا تنفـــذ إلى العمق التربوي والنظري. ويطول الحديث في مشاكل علوم التربية التـــي ليســت إلا اختصاصا مهمشــا وملحقا بقســـم علـــم النفــس، مــــــع غيــــاب شهـــادات عليا خاصة للحقول التربوية المختلفة. كما لا يزال الجانب البحثي  في مجمله نظري دون الميداني وهو ما حاولت تجاوزه في الأطروحة التي انتهيت منها من خلال اقتراح مساهمة في برنامج تدريبي علـــى تنميــــة الذات، بمعنى أن تنطلق البحوث مـــــن مشكلاتنــــا لا من مشكلات نظرية أو على الأقــل بشكــــل مــزدوج. و أن تتركز غايات البرامج التربوية على تحويل العملية الدراسية من الدراسة من أجل الامتحان إلى التربية من أجل تكوين الشخصية وتعزيز الذكاءات المختلفة للمتعلم، وربط التعليم بالحياة في المحتوى والأساليب والتوجهات.
 
(9) ما موقفكم من الخـــــوصصة في الميدان التربــــــــوي عموما والتعليمي خصوصا ؟ ألا ترون ذلك سببا في تدهور المستوى التعليمي؟ 
 
لازلت مؤمنا بأن قطاعات مثل الصّحة والثقافة والتربيـــة لا بد أن تكون اجتماعية بامتياز وأن لا "يشوشها" المنطق الربحي و أن لا تشملهــــــا الخوصصــــة، فهـــي مياديــــن حيويــــة لمواطنينـــــا، وموقفي الشخصي ضدّ "الأبريتهاد" التربوي (العــــزل التربــــوي) ممثــــلا فــــي المـــــدارس الخاصــــــة أو حتـــــى فـــــي الإعداديات والمعاهــــد النموذجيــــة، وكـــــل هــــذه المؤسســــات تحتــــــاج إلى تقييم مردوديتها الكمية والكيفية، فمـــــا الجــــدوى من عزل المتميزين في مؤسسات خاصة بهــم؟ وما هــــي الجــــدوى الحقيقية لهذا الاختيــــار التربــــوي ؟ ألا يمــــس ذلك بمبدأ الإنصاف والعدالة التربوية؟ ألا يجعــــل مــــن هــــــؤلاء المتعلميــــن مجـــــرد آلات مفتقدة للبعد الإنساني؟ كما أن تكاثر المؤسسات الخاصة وانتشارها "الغريب" لصناعة التميز الوهمي و"العبقرية" المفبركة تثير العديد من الأسئلة. فالتعليم الخصوصي يمكن أن يفضـــــي إلـــى التشكيك في التعليم العمومي وإفراغـه مـــــن دوره الاجتماعــــي والتربــــوي من ناحيـــــة أولــــى، ومن ناحيــــة ثانيـــــة يزيــــد فــــي تعميـــــق التمايز المجتمعــــي والتبايــــن التربــــــوي، بمــــا أن التعليـــــــــــم الخصوصــــي يشتغــــل لفائــــــدة الفئـــــة الميســــورة والقـــــادرة على تأمين معاليم الدراسة المرتفعة. وإن كان من الصعب محاصرة التعليم الخصوصي، فإنّه من الضروري توفير كل السبل لحماية التعليم العمومي ووقف تدهوره والدفاع المستميت عنه، والارتقاء بجودة منظومة التعليم وإحداث آليات مراقبة دقيقة ومتابعة تربوية حقيقية للتعليم العمومي والتعليم الخاص.