قبل الوداع

بقلم
فيصل العش
«سيكولوجية الجماهير»

 حدّثني صاحبي متسائلا قال : « كيف يعقل أن تتهافت الجماهير  للقاء داعية خليجي أو مصري فتملأ الساحات والمساجد في حين لا يتعدّى عدد الحضور في ندوة فكريّة أو محاضرة لأكبر المفكّرين عدد أصابع اليد الواحدة وفي أقصى الحالات بعض العشرات ؟» ثمّ أضاف ثائرا : «هل هذه هي نفس الجماهير التي خرجت في أواخر سنة 2010 متحدّية جبروت بن علي وقمعه وبطشه لتنجز ثورة لم تكن في الحسبان؟»... لم أجهد نفسي كثيرا للإجابة على تساؤلات صديقي «المثقف جدّا» لأنني ما كنت لأقنعه حتّى لو كان لي من الحجج القفاف . إنه عيّنة من عيّنات كثيرة من المثقفين المتصدرين للساحة الوطنيّة الذين بالرغم من حضورهم الإعلامي والركحي المتكرر والملفت للانتباه، لم يستطيعوا أن يكسبوا ودّ الجماهير ولهذا تكررت في الآونة الأخيرة عمليات طرد بعض «السياسيين» و «المثقفين» أو منع نشاطهم في العديد من المناطق الداخليّة واتسعت الهوّة بينهم وبين الجماهير. والسبب بسيط لا يتطلب كثيرا من التفكير ... إنهم لم يفهموا «الجماهير» ولم يعوا احتياجاتها المعنويّة قبل الماديّة. وبقوا يعتقدون أنهم «النخبة» التي تفهم مقابل «الجماهير» التي لا تفهم ويرون أنفسهم قارب النجاة للبلاد والعباد باعتبارهم القادرين على الفهم والتحليل والتخطيط ولهذا فهم يعتقدون أن على الجماهير الالتحاق بهم وإلا فإنها ستبقى غارقة في تخلّفها ولن تقوم للبلاد قائمة... هذه النظرة النرجسيّة التي يتمتع بها عدد كبير من مثقفينا سواء كانوا من اليسار أو من اليمين وجهلهم لـ «سيكولوجيّة الجماهير».. ستزيد في تعميق التنافر بين النخبة والجماهير وستكون لها نتائج وخيمة على المشروع الوطني الذي يحلم به الجميع.

«سيكولوجية الجماهير» هو عنوان لكتاب غوستاف لوبون  (1841–1931) وهو طبيب وعالم اجتماع فرنسي عني بالحضارة الشرقية. صدر الكتاب سنة 1895 حاول فيه كاتبه أن يؤسس لعلم نفس الجماهير أو ما يطلق عليه علم النفس الجماعي، وهو يحاول أن يحلل وينظر في سلوكيات الجماهير عندما تتجمع وتتخذ قراراتها كالثورة أو التمرّد أو مساندة قائد أو أمير..هذا الكتاب لم أكن أعرفه من قبل وقد حثّني على مطالعته أحد الأساتذة الجامعيين الذين التقيت به مؤخرا بمناسبة إحدى الملتقيات الفكرية... الكتاب صدر منذ أكثر من مائتي سنة لكن المعلومات والنظريات التي بين دفتيه جديرة بالاهتمام والمعرفة.
من بين الأفكار الرئيسيّة في«سيكولوجية الجماهير» أنّ الجمهور لا يمكن إقناعه بأي إيديولوجيا، أو فكرة، بالاعتماد على الوسائل العقلية. ومن الأفضل مخاطبته بلغة الصور والإيحاء والشعارات. وهو ما نجح فيه «الدّعاة الجدد» الذين يتوافدون علينا بين الحين والآخر... إنهم يجيدون مخاطبة الناس حيث لا يعتمدون العقل في أقوالهم ويقدّمون بضاعة تطلبها الجماهير حرمت منها لعقود عديدة ... هذه الجماهير الكبيرة التي قضّت ليلتها في الخيام وعلى قارعة الطريق لتفتك مكانا قريبا من منبر هذا الداعية أو ذاك لا تفعل ذلك نتيجة جهل أو تخلّف لأن الكثير من مكوناتها متعلمون وأصحاب شهائد عليا أو وظائف محترمة ، إنهم يفعلون ذلك لأنهم يعيشون كبتا وجدانيّا وهم يتطلّعون لتفريغه ومعالجته عبر السماع إلى خطاب الداعية أو الشيخ .. إنهم لا ينتظرون منه تحليلا دقيقا للواقع المَرَضِيّ الذي يعيشونه أو حلولا لمشاكل البلاد في شكل برامج ومخططات، بل كلاما يدغدغ عواطفهم ويحملهم إلى عالم الحلم والصفاء. ولأن الشيخ يجيد ذلك بامتياز ويتقن فنّ استخدام الكلمات باستحضاره مواقف للنبي محمد صلى الله عليه وسلّم أو لبعض صحابته أو حتّى لبعض الصالحين بأسلوب تغلب عليه العاطفة ويحذق رفع الشعارات التي تبثّ صورًا في مخيلة المستمع هو في حاجة إليها لتحقيق الاستقرار النفسي المفقود ، فإن تأثيره في الجماهير كبير وتحريكها أمر يسير. 
قد يذهب البعض إلى اعتبار التوجه الجماهيري إلى لقاء هؤلاء الدعاة أو الشيوخ ينمّ على نسبة عالية من الجهل ونقص في الوعي لدى أطياف عديدة من الجماهير وأنه في غياب العلم والحضارة يحضر الجهل ويتسيّد. غير أن الحقيقة أنه لا علاقة بين مستوى الوعي والرقي من جهة و تصرّف الجماهير كمجموعة تحرّكها سيكولوجيّة معيّنة من جهة أخرى وإلاّ فكيف نفسّر ثورة الجماهير الألمانية في زمن «هتلر» باسم النازية في أكثر دول أوروبا تحضّرا ورقيّا (ألمانيا). ولماذا لم يستطع عصر التنوير بما فيه من تحديث وانتصار للعلم والتكنولوجيا أن يمنع ذلك ؟
في انتظار تحوّل الجماهير من كتل بشريّة يحرّكها الوهم الإيديولوجي والشعور الديني والانتماء السياسي إلى مجموعة أفراد مدركين لحقوقهم وواجباتهم تحت راية عقد اجتماعي كما هو حاصل في أوروبا،(وهذا لن يحصل إلا عبر تراكمات كثيرة ومتعددة تتطلب وقتا طويلا ومجهودا كبيرا) فإنها ستبقى خاضعة لتأثيرات من يتحكم في أدوات ومؤثرات تجييشها ومن يتوجه إلى عاطفتها وليس إلى عقلها . ففي الحالة الجماهيرية تنخفض الطاقة على التفكير، وتنعدم الرغبة في استيعاب الحجج العقلية، وتطغى الخصائص التي تصدر عن اللاوعي أهمّّها سرعة الانفعال والتأثر والتعصب.
ولا يعني هذا أن الحراك الجماهيري حتّى وان تحكّم فيه اللاوعي هو حراك سلبي نحو الفوضى، فثمّة ثنائية متناقضة تتحكم في لاوعي الجماهير هي الهدم والبناء. فإذا تحرّكت الجماهير فإنها تتحرك إمّا للهدم ( الثورة / التمرّد / المواجهة مع الأمن/ حرق وتدمير المؤسسات..) أو للبناء ( حملات تضامنية فيما بينهم / مظاهرات التأييد .... ). يقول لوبون « إن الانفعالات التحريضيّة المختلفة التي تخضع لها الجماهير يمكنها أن تكون كريمة أو مجرمة، بطوليّة أو جبانة وذلك بحسب نوعيّة هذه المحرّضات». فمن يريد التأثير في الجماهير وتحريكها نحو الأفضل بعيدا عن الهدم والنكوص إلى الوراء فعليه أن يكون قريبا منها ، يتقن فنّ استخدام الكلمات والشعارات التي يفهمها الناس وتكون لها أثر في نفوسهم ، وأن يعتمد على قوانين الذاكرة والخيال والشعارات الحماسية بدل قوانين العقل والبرهان فهذه موجّهة للأفراد وإقناع الجماهير غير إقناع الأفراد ولكل مقام مقال .
فهل سيقدر دعاة البناء على كسب معركة الجماهير فيتم تحريكها في اتجاه البناء والتشييد؟  
وحتّى نلتقي، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه .