الأولى

بقلم
فيصل العش
الحريّة في القرآن الكريم: رؤية الشّيخ الإمام«محمد عبده»
 ظهر الإمام محمد عبده في إطار زماني ومكاني تميّز بالجهل والانحطاط، وقد هيمنت الخرافات على المعتقد الديني، لذا كانت مهمّته العمل على إصلاح هذا المعتقد وتحرير المسلم ممّا يكبّله ويعطّل نهوضه، فكان اشتغاله بعدّة قضايا ذات أهمّية كبرى في حياة الإنسان من بينها مبحث «الحرّية» فلسفيّا وسياسيّا واجتماعيّا.
يرى الإمام محمد عبده أن أداة التّغيير الاساسيّة هي القرآن الكريم وأنّ سعادة المسلمين وفلاحهم في الدّنيا والآخرة في العودة إليه وفهمه فهما صحيحا، «إنّ القرآن هو حجّة اللّه البالغة على دينه الحقّ، فلا بقاء للإسلام إلاّ بفهم القرآن فهما صحيحا»(1)، لذلك جعله ديدنه في الإصلاح. ويرتكز الإمام على قول اللّه تعالى : ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(الحجر:9) ليؤكّد أنّه نتيجة للتّحريف الذي أصاب فكر المسلمين، فإنّ المرجع الذي يطمئن إليه المسلم من حيث سلامته من التّحريف هو القرآن الكريم، فيقول:«فهو لا يزال بين دفّات المصاحف طاهرا نقيّا بريئا من الاختلاف والاضطراب، وهو إمام المتّقين ومستودع الدّين، وإليه المرجع إذا اشتد الأمر، وعظم الخطب، وسئمت النّفوس من التّخبّط في الضّلالات، ولا يزال لأشعّة نوره نفوذ من تلك الحجب التي أقاموها دونه، ولابدّ أن تتمزّق كلّها بأيدي أنصاره. فيتبلّج ضياؤه لأعين أوليائه»(2). وطريقة القرآن الكريم في إثبات العقيدة -حسب الإمام- تقوم على توجيه العقل إلى النّظر والبحث والتّأمّل، فتحرّك القلوب وتصلها بالخالق.«فأوّل أساس وضع عليه الإسلام هو النّظر العقلي. والنّظر عنده هو وسيلة الإيمان الصّحيح، فقد أقامك منه على سبيل الحجّة وقاضاك إلى العقل»(3) 
وضمن هذا المنهج العقلي يصوّر محمد عبده الحرّية الإنسانيّة تصويرا يتلاءم مع الإستقلال للذّات وحرّية الإرادة الإنسانيّة. فالعقل السّليم - بالنّسبة له- يدرك بالبداهة دون دليل أنّ الإنسان حرّ لأنّه يختار أفعاله بإرادته وبعقله، ويقدّر نتائجها بعقله، ولذلك تنسب الأفعال لأصحابها. يقول الإمام :«كما يشهد سليم العقل والحواس من نفسه أنّه موجود، ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه ولا معلّم يرشده، كذلك يشهد أنّه مدرك لأعماله الاختياريّة، يزن نتائجها بعقله ويقدّرها بإرادته، ثمّ يصدرها بقدر ما فيه، ويعد إنكار شيء من ذلك مساويا لإنكار وجوده، في مجافاته لبداهة العقل» (4) 
من جهة أخرى يرى محمد عبده أنّ شرعيّة التّكليف تقتضي القول بالحرّية، لأنّه في غياب الحرّيّة لا يكون للتّكليف معنى ولا للثّواب والعقاب مغزى، يقول الإمام في هذا الصّدد: «لو كان فعل العبد ليس له لبطل تكليفه به، إذ لا يعقل أن يطالب شخص بما لا يقدر عليه، وأن يكلّف مالا أثر لإرادته فيه».والقرآن يؤيّد ذلك بقوله: ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا..﴾(فصلت:46)
إنّ حريّة الإنسان حسب الإمام عبده هي التي تميّزه عن بقيّة المخلوقات، وحريّة التفكير هي التي تؤهّله للقيام بمهام الاستخلاف، فـ«من ميزته حتّى يكون غير سائر الحيوانات أن يكون مفكّرا مختارا في عمله على مقتضى فكره، فوجوده الموهوب مستتبع لميزاته هذه، ولو سُلب شيء منها لكان إمّا ملكا أو حيوانا آخر، والفرض أنّه الإنسان. فهبة الوجود له لا شيء فيها من القهر على العمل، ثمّ عِلْمُ الواجب محيطٌ بما يقع من الإنسان بإرادته»(4)  فـ «الأفعال الإنسانيّة الاختياريّة لا تخرج عن أن تكون من الأكوان الواقعة تحت مداركنا وما تنفعل به نفوسنا عند الإحساس بها او استحضار صورها»(6) .
وإنتقد الإمام عبده كل من الجهميّة والأشعريّة فى إعتبارهم حرّية الإنسان فى إختيار أفعاله شركاً باللّه ويرى أنّ ذلك ليس شركاً، لأنّ الشّرك باللّه معناه أن يعتقد الإنسان بوجود قوّة أخرى تفوق قدرة اللّه سبحانه وتعالى. يقول الإمام: «ودعوى أنّ الاعتقاد بكسب الإنسان لفعله يؤدّي إلى الشّرك باللّه، وهو الظّلم العظيم، دعوى من لم يلتفت إلى معنى الإشراك على ما جاء به الكتاب والسّنة، فالإشراك إعتقاد أنّ لغير اللّه أثرا فوق ما وهبه اللّه من الأسباب الظّاهرة، وأنّ لشيء من الأشياء سلطانا على ما خرج عن قدرة المخلوقين، وعو اعتقاد من يعظّم سوى اللّه مستعينا به فيما لا يقدر العبد عليه» (7) . 
والقول بالقضاء الإلهي عند محمد عبده لا يتعارض مع حرّية الإنسان، لأنّه لا يعني الجبر والقهر والإلزام، وإنّما معناه أسبقيّة العلم الإلهي لأنّ اللّه: «محيط بما سيقع من الإنسان بإرادته، وبأن عمل كذا يصدر في وقت كذا وهو خير يثاب عليه، وأن عملا آخر يعاقب عليه عقاب الشّر والأعمال حاصلة عن الكسب والاختيار، فلا شيء في العلم بسالب للتّخيير في الكسب، وكون ما في العلم يقع لا محالة إنّما جاء من حيث الواقع، والواقع لا يتبدّل» (8)
ويرى الإمام محمد عبده أنّ الحرّية متناهية عند الإنسان غير متناهية عند اللّه، وبالتّالي فحرّيّة الإنسان ليست مطلقة وإنّما محدودة، وذلك بشهادة العقل أيضاً لأنّ الإنسان كما يختار من أفعال بحرّية تامّة يشعر أنّ هناك إرادة أخرى أو قوّة أخرى تحيط به وتحدّ من حرّيته وقدرته، والحرّية المطلقة تتحقّق فقط فى الذّات الآلهيّة. هذا الإحساس بمحدوديّة حريّة الإنسان أمام قدرة اللّه لا تلعب دورا سلبيّا في توجّه الإنسان إلى العمل وإثبات قدرته في التحكّم في ما سخّره اللّه له وإنّما هو دافع ليطمئن الإنسان لوجود المطلق معه يحميه ويساعده، فـ «الإيمان بوحدانية اللّه لا يقتضي من المكلّف الاعتقاد أنّ اللّه صرّفه في قواه فهو كاسب لإيمانه ولما كلّفه اللّه به من بقية الأعمال، واعتقاد أنّ قدرة اللّه فوق قدرته ولها وحدها السّلطان الأعلى في إتمام مراد العبد بإزالة الموانع أو تهيئة الأسباب المتمّمة ممّا لا يعلمه ولا يدخل تحت إرادته» (9) 
والتوكّل لا يعنى الجبر والقهر والإلزام والجمود والقعود عن العمل، ولكن معناه الثّقة باللّه فى السّعى للعمل وفقاً للعقل. يقول الإمام:«جاء القرآن الشريف، وهو الكتاب المنزل بالإسلام، يعيب على أهل الجبر رأيهم، وينكر عليهم قولهم ﴿لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ﴾، بقوله: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ﴾(الأنعام:148) وأثبت الكسب والاختيار في نحو أربع وستّين آية. (...) وجاء النّبي ﷺ في عمله وقوله بما يؤيّد ذلك، فكان العامل الذي لا يكلّ، والدّائب الذي لا يملّ، والسّاهر الذي لا ينام، والجادّ الذي لم يبلغ شأوه أحد من الأنام، هل نقل عنه أنّه اتكأ يوما على وسادته واكتفى بالتّسليم للقدر في إتمام دعوته قائلا: الذي كفل لي النّصر يكفيني التّعب، وضمان اللّه لإعلاء كلمة دينه تغنيني عن النّصب؟كلاّ بل لم تكن تزيده الوعود الصّادقة إلا نشاطا، ولا تجد العصمة الإلهيّة من نفسه إلاّ حزما واحتياطا»(10) 
وإقرار الإمام محمد عبده بقدرة الإنسان باستعمال عقله على التّمييز بين الحسن والقبح وإدراك حقيقة الخير والشّر ، والنّافع والضّار - دون الحاجة إلى السّمع – فيه تحرير للعقل البشري من سيطرة النّص، وتحرير لإرادة الإنسان المسلم في مواجهة ما يُلم به، يقول « فللأعمال الاختياريّة حسن وقبح فى نَفسهَا أَو بِاعْتِبَار أَثَرهَا فى الْخَاصَّة أَو فى الْعَامَّة والحسّ أَو الْعقل قَادر على تَمْيِيز مَا حسن مِنْهَا وَمَا قبح بالمعانى السَّابِقَة بِدُونِ توقف على سمع»(11)
وتدعيما لمقام العقل وحرّية التّفكير عنده نجده يقرّ بأنّ الإسلام هو الذى حرّر العقل من كلّ ما يكبّله: «تمّ للإنسان بمقتضي دينه أمران عظيمان طالما حُرم منهما، وهما استقلال الإرادة، واستقلال الرّأي والفكر، وبهما كملت إنسانيّته، واستعدّ لأن يبلغ من السّعادة ما هيأ اللّه بحكم الفطرة التي فطر عليها»(12) ويقول أيضا :«وأنّه أطلق سلطان العقل من كلّ ما كان قيّده، وخلصه من كلّ تقليد استعبده، ورده إلى مملكته يقضى فيها بحكمه وحكمته مع الخضوع مع ذلك للّه وحده، والوقوف عند شريعته، ولا حد للعمل في منطقة حدودها، ولا نهاية لنظر يمتدّ تحت بنودها»(13) وهكذا يقدّم «عبده» الإسلام كدين يقوم على بناء عقلي متين، ولا يتعارض مطلقا مع العقل، وبالتالي فهو يكفل حريّة الإنسان في جميع جوانبها.
ويعتبر «عبده» أنّ قلب السّلطة الدّينيّة والإتيان عليها من أساسها أصل من أصول الإسلام. يقول الإمام: «هدم الإسلام بناء تلك السّلطة ومحا أثرها حتّى لم يبق لها عند الجمهور من أهله إسم ولا رسم. لم يدع الإسلام لأحد بعد اللّه ورسوله سلطانا على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه على أنّ الرّسول ﷺ كان مبلّغا ومذكّرا لا مهيمنا ولا مسيطرا، قال اللّه تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾(الغاشية:21-22)، (...) والإيمان يعتق المؤمن من كلّ رقيب عليه فيما بينه وبين اللّه سوى اللّه وحده، ويرفع عنه كلّ رقّ إلاّ العبودية للّه وحده، وليس لمسلم - مهما علا كعبه في الإسلام -على آخر - مهما انحطت منزلته فيه - إلاّ حقّ النّصيحة والإرشاد»(14).
أمّا بخصوص الحريّة السّياسيّة فقد دافع محمد عبده عن الشّورى باعتبارها استشارة سياسيّة وتشريكا للنّاس في الحكم، واعتبرها واجبة شرعاً، «وأنّ طريقها مناط بما يكون أقرب إلى غايات الصّواب، وأدنى إلى مظان المنافع ومجالبها. على أنّها إن كانت في أصل الشّرع مندوبة، فقاعدة تغيّر الأحكام بتغيّر الزّمان تجعلها عند مسيس الحاجة إليها واجبة وجوباً شرعيّاً، ومن هنا تعلم أنّ نزوع بعض النّاس إلى طلب الشّورى، ونفورهم من الاستبداد، ليس وارداً عليهم من طريق التّقليد للأجانب، بل ذلك نزوع إلى ما هو واجب بالشّرع، ونفور عمّا منعه الدّين وقبحه العلماء، وشهدوا من آثاره المشؤومة ما عرفوا به قبح سيرته، ووخامة عقباه»(15). غير أنّه وأمام هذا التّصريح والتّقرير بوجوب الشّورى والدّيمقراطيّة، لا يندفع للمطالبة بتطبيقها العملي، بل يقرن ذلك بعدد من الشّروط، من أهمّها توفّر حدّ أدنى من التّعليم، والتّدرج (16).
اجتماعيّا، عالج الإمام محمد عبده مسألة الحرّية ضمن انشغاله بقضيّة الأسرة التي كان يعتبرها لبنة مهمة في بناء الأمّة، وقضية المرأة باعتبارها مصدر قوّة هذه اللّبنة وأساس البناء المجتمعي. داعيا إلى المساواة بين الرّجل والمرأة في الحقوق والواجبات، رافضا لكلّ قهر للمرأة، يقول الإمام «والرّجل والمرأة متماثلان في الحقوق والأعمال كما أنّهما متماثلان في الذّات والشّعور والعقل» ويضيف:«واعلموا أنّ الرّجال الذين يحاولون بظلم النّساء أن يكونوا سادة في بيوتهم إنّما يلدون عبيدا لغيرهم»(17).
هذه بإيجاز رؤية الإمام محمد عبده «للحرّية» التي يعتبرها ركيزة من ركائز منهجه في الإصلاح، وقد أكّد أنّ الإنسان حرّ بفطرته وأنّ شرعيّة التّكليف تقتضي القول بالحرّية، لأنّه في غياب الحرّيّة لا يكون للتّكليف معنى ولا للثّواب والعقاب مغزى. وذهب إلى أنّ الدّين حرّر عقل الإنسان من كلّ ما كان يكبّله وضمن استقلال إرادته وفكره ورأيه. لهذا كان منهجه الإصلاحي يقوم على تفاعل العقل مع القرآن الكريم والسنّة، رافضا لكلّ سلطة دينيّة، داعيا إلى تحرير المسلم من كلّ هيمنة تحدّ من تفكيره وتضع له القيود والحواجز  أمام تفاعله المباشر مع كتاب اللّه. فالإيمان -حسب الإمام - يعتق المؤمن من كلّ رقيب عليه فيما بينه وبين اللّه سوى اللّه وحده، ويرفع عنه كلّ رقّ إلاّ العبادية للّه وحده.  
الهوامش
(1) تفسير القرآن الكريم للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، تأليف محمد رشيد رضا،  مطبعة المنار مصر، ط1 1346 هـ، ص29.
(2) الإسلام بين العلم والمدنيّة، محمد عبده، مؤسسة هنداوي للنشر ، 2010م ، ص 121. 
(3) الإسلام بين العلم والمدنيّة، م.س ، ص 78. 
(4) رسالة التوحيد، محمد عبده، ط1 المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر 1315هـ، ص 36.
(5) رسالة التوحيد، محمد عبده، م.س، ص 39-40.
(6) رسالة التوحيد، محمد عبده، م.س، ص 40.
(7) رسالة التوحيد، محمد عبده، م.س، ص 38
(8) رسالة التوحيد، محمد عبده، م.س، ص 40.
(9) رسالة التوحيد، محمد عبده، م.س، ص 39.
(10) الإسلام بين العلم والمدنيّة، محمد عبده ، م.س ، ص 49. 
(11) رسالة التوحيد، محمد عبده، م.س، ص 45.
(12) رسالة التوحيد، محمد عبده، م.س، ص 102.
(13) رسالة التوحيد، محمد عبده، م.س، ص 102.
(14) الإسلام بين العلم والمدنيّة، محمد عبده ، م.س ، ص 81. 
(15) محمد عبده، الأعمال الكاملة (في الكتابات السّياسيّة)، تحقيق وتقديم محمد عمارة، الهيئة العامّة المصريّة العامة للكتاب، دار الشروق، القاهرة، 2009، ص 382
(16) نفسه، ص 341
(17) محمد عبده، الأعمال الكاملة ج5 ، تحقيق وتقديم محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة،ط.1،  1993، ص 203