في الصميم

بقلم
د.عثمان مصباح
القصص القرآني من منظور جديد (17) مدين آخر القرى الهالكة
 يُفصّل القرآن ذِكْرَ أهل مدين دائما بعد قصّة قوم لوط، والقصّتان تشتركان في وقوعهما غرب الجزيرة العربيّة على طريق البخور، ممّا يشير إلى أنّ مركز التّأثير العالمي كان آخذا يومئذ في التّحوّل من شرق الجزيرة إلى غربها، وهو تحوّل له مغزى عميق سنقف عليه في المرحلة الثّالثة من السّيرة الإبراهيميّة.
وقصّة مدين هي آخر فصل يحكيه القرآن من تاريخ القرى الهالكة، فمن هم أهل مدين؟ وما وجه إفسادهم في الأرض؟ وما أهم العبر المستفادة من قصتهم؟
التّاريخ والجغرافيّة
اقترنت نشأة مدين بنشأة طريق التّجارة العالمي المعروف بدرب البخور، والذي يدلّ على ذلك من القرآن أمور، منها:
أولا- أنّ وثنيتهم كانت وثنيّة تجاريّة كما يدلّ على ذلك التّرتيب الذي في قوله تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا، قَالَ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرهُ، قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ (الأعراف: 85)، وسيأتي تفسير هذه العلاقة ضمن هذا المقال.
ثانيا- أنّ أهلها كانوا في أوّليتِهم على عيش الكفاف، لذلك بقي عددهم قليلا حتّى ازدهرت حركة التّجارة، فاحترفوا البيع والشّراء، فإذا بمدين قد صارت سوقا عالميّة رائجة تلتقي عندها سبل التّوريد من كلّ اتجاه، ثمّ تصدر عنها السّلع بعد أن تزداد قيمتها نحو ممالك العالم القديم، وهكذا فاضت أموالها، وتكاثر سكّانها، وتطوّر عمرانها، فغدت من أسعد القرى التّجاريّة التي ارتبطت بدرب البخور، فها هو شعيب عليه السّلام يذكّر قومَه بهذه النّعمة الحادثة فيقول: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ ‌قَلِيلًا ‌فَكَثَّرَكُمْ﴾ (الأعراف: 86)
ثالثا- من مظاهر الغنى الطّارئ عليهم أنّهم صاروا يلقّبون بأصحاب الأيكة، لأنّ قريتهم أمستْ بسبب الثّراء المتراكم غَيْضة فُجرت مياهها، والتف شجرها، وكثرت ظلالها، وطاب فيها العيش والمقام، قال تعالى بعدما ذكر قوم لوط: ﴿وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ ‌الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ، فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ، وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ﴾ (الحجر: 78-79)، وقد زال هذا اللّقب بعد الهلاك رغم بقاء مدين كما يستفاد من قصّة موسى؛ والإمام المبين كما ذكرنا سابقا هو طريق التّجارة البرّي الذي كان يربط جنوب الجزيرة العربيّة بشمالها، ويتّصل بعدّة منافذ بريّة وبحريّة في كلّ اتجاهات المعموره.
رابعا- تحليل اسم (مَدين) لغويّا يدلّ على صلة القوم المبكّرة بالتّجارة العالميّة، فهو اسم مكانٍ مشتقٌّ من فعل (دان) و(دَيَّن) بمعنى أعطى قرْضا إلى أجل معلوم، كما اشتُق (مَصْنعٌ) من (صنَع) و(صَنَّعَ)، وبهذا يكون معنى اسم (مَدْين) المكان المشتهر بالإقراض، وكأنّه بنك مركزي في شبكة التّجارة العالميّة.
ومن أشهر ما فُسّر به أصل (مدين) في تراثنا أنّه اسم لواحد من أبناء إبراهيم من جاريته (قطورة)، وهذا مستفاد من قصص التّوراة (1) المشحونة بالأكاذيب الوقحة، والدّليل على بطلان هذا الزّعم أنّ اللّه ذكر الأنبياء من ذريّة إبراهيم، ولم يذكر معهم شعيبا رغم منزلته بين الرّسل، والذي يرجّح أنّ (مدين) اسم مكان لا إنسان، وروده في القرآن مضافا إلى (أهل) و(أصحاب)، فيكون مثل: (أصحاب الأيكة)، و(أصحاب الجنّة)، و(أصحاب الكهف)، و(أصحاب الحِجر)، و(أصحاب الرَّس)، و(أصحاب القرية)، و(أصحاب السّفينة).
وقد اتفق الأخباريّون من مؤرّخي اليهود والنّصارى والمسلمين أنّ مدين تقع في الشّمال الغربي من جزيرة العرب، وهناك وَطّنَها بطليموس (100 - 170م) في خريطته المشهورة، واختلفوا في تعيينها، لكن عاتقا بنَ غيث البلادي (1934-2010م) زعم أنْ لا خلافَ فقال: «أمَّا موقع مَدْيَن فهو بلا خلاف غربَ تبوك، بينها وبين خليج العقبة، فإذا كان المقصود مدينة شعيبٍ فهي تُعْرَف اليوم باسم (البَدْع) (2)»، والصّحيح أنّ هذا قول جمهور الأخباريّين وعدد من الرّحالة الغربيّين ذوي الخلفيّة التّوراتيّة، ولعلّ وجود البَدع على طريق التّجارة القديم، وعلى ضفاف وادي عفال العظيم هو الذي قوى عندهم هذا الرّأي، وقد اغتر كثير منهم بإطلاق النّاس (مغاير شعيب) على البيوت المنحوتة في جبالها، والتي هي من آثار الأنباط، ومن هنا قال الأستاذ محمد شُرَّاب: «وقد ترجّح أن أرض مدين كان مركزها في جهات بلدة «‌البَدع»، بين تبوك والسّاحل»(3)، لكن مع ذلك يبقى هذا القول مجرّد احتمال لعدم الدّليل الأثري، وقد نقّبت بعثة سعوديّة فرنسيّة مؤخّرا في منطقة البدع، واكتشفوا عدّة مستوطنات، يعود أقدمها للألف السّابع قبل الميلاد، ولم يجدوا هناك ما يشهد لوجود مدين كما صرّح الدّكتور سامر سحلة(4) رئيس قسم الآثار بجامعة الملك سعود.
ويستفاد من القرآن أنّ مدين مرّت بمرحلتين، انتهت المرحلة الأولى بالهلاك زمن شعيب عليه السّلام الكائن بين عصر إبراهيم وبين عصر موسى، ويبدو أنّ الذين نجوا قد استوطنوا مدين من جديد، فلما فرّ إليها موسى بعد أجيال وجد أهلها يشتغلون بالرّعي، ويعانون من قلّة المياه، ممّا يفيد أنّها فقدت مكانتها التّجارية التي كانت لها، ولم تبق أيكةً كما في السّابق، وبهذا تكون مدين من القرى القليلة التي أحياها النّاس بعد الهلاك: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا، فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ ‌مِنْ ‌بَعْدِهِمْ ‌إِلَّا قَلِيلًا، وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: 58).
أحوال مدين قبل شعيب
سبقت دعوة إبراهيم العابرة للقوميّات ما أحدثه أهل مدين من فساد، وقد صار درب البخور بسبب هذه الدّعوة المباركة طريقا للحنفاء، وحسبك أنّ إبراهيم حينما بنى الكعبة ودعا النّاس للحجّ أتوه من كل فَجّ عميق، فإذا هذا الدّرب وما يتّصل به من طرق قد غدا مَسلكا لثلاثة أصناف: التّجار، والمسافرين، وحجّاج بيت اللّه الحرام. فتجدّدت على العالمين بركات الأرض التي هاجر إليها إبراهيم بفضل التّبادل التّجاري الذي ازدهر يومئذ، وبفضل الحنيفيّة التي شرّقت وغرّبت، فنشرت السّماحة والسّلام، وقلّمت أظفار الوثنيّة. 
ولهذا قال شعيب لقومه: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا ‌فِي ‌الْأَرْضِ ‌بَعْدَ ‌إِصْلَاحِهَا﴾ (الأعراف: 85)، وهو يشير بذلك إلى الفتوحات السّلميّة العظيمة التي تمّت على يد أعلام الملّة الإبراهيميّة: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف. وهذه سلسلة ذهبيّة اتصلت حلقاتها اتصالا لا نظير له في تاريخ النّبوّات، وتركت في الاجتماع الإنساني آثارا عميقة لا زالت شاخصة إلى يوم النّاس هذا.
وحينما أسّس مترفو مدين نظاما وثنيّا يضمن لهم امتيازات مجحفة، كانوا في غاية الانزعاج من ملّة إبراهيم، فلمّا قويت شوكتهم الاقتصاديّة قرّروا أن يجابهوها مجابهة سافرة، فنظّموا دعاية مضادّة ممزوجة بالتّرهيب تستهدف الحنفاء القاصدين إلى مكّة كما يُفهم من إنكار شعيب عليهم في قوله: ﴿وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ (الأعراف: 85)، ودوّنوا سننهم الضّالة وأحكامهم الجائرة مضاهاة لصحف إبراهيم التي انتشرت في الآفاق، ولهذا وجدنا مدين أول قرية هالكة يستعمل كفّارها لفظ (المِلّة) تعبيرا عن الدّين: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا، أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي ‌مِلَّتِنَا! قَالَ: أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ؟! قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا﴾ (الأعراف: 88-89) وبين الملّة والدّين عموم وخصوص، فكلّ ملّة دين، وليس كلّ دين ملّة، والفرق أنّ الملّة دين له مرجع مكتوب، لهذا سمّي دين إبراهيم ملّة، لأنّه أوّل من نزل عليه كتاب.
وكانت ملّة مدين العوجاء قد أقامت نظاما اقتصاديّا فاسدَ القيم تسلّط به الكبراء على قومهم، وسلّطوا به القوم على العالمين، إذ نقصوا الأوزان والمكاييل، وأخذوا السّلع بأقلَّ من قيمتها، فصارت الصّنائع والحرف قليلة العائدة، وكاد الضّاربون في الأرض أن يتحوّلوا إلى عمال سخرة لدى المَديَنِيين، ومثل هذا النّظام يفضي في العادة إلى غلاء المعيشة، وانتشار الفقر في الأمم، ويغري باستنساخه في جهات أخرى من الأرض، وينذر بكساد عظيم، وخراب العمران.
كيف صممت الملّة لرفاهيّة القلة؟
لم يكن نقص المكيال والميزان، وبَخسُ النّاس أشياءَهم عملا يأتيه تجار مدين تبعا لأهوائهم الشّخصيّة، بل كان نظاما دينيّا صمّم وفق هوى النّخبة المتحكّمة خلف ستار الأوثان، ويلتزمه التّجّار المحليّون من باب الوجوب الدّيني، لهذا كانت دعوة شعيب لعبادة اللّه وحده تقتضي بذاتها إسقاط هذا الوجوب الذي كان يعتبره المَدْينيّون بِرّا وفضيلة، وهذا هو علّة ترتيب النّهي عن قواعد فسادهم التّجاري على إخلاص الدّين للّه في قول شعيب لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرهُ، قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ (الأعراف: 85)
ويمكننا أن نفهم من ذلك أنّ العائد الحاصل لتجّار مدين من كلّ معاملة كان يعتبر في نظامهم المالي مُركّبا من قسمين: ربح قِسطٍ، وربح نَقصٍ وبَخس؛ فالرّبح الأوّل يؤخذ منه ما يشبه الضّرائب، والثّاني يجعل كلّه للأصنام، هذا ما اختصّت به مدين، أضف إلى ذلك أنّهم كانوا كباقي المدن التّجاريّة يأخذون من الموردين ما يشبه الرّسوم الجمركيّة، ثمّ يقسّمون الضّرائب والمكوس مرّة أخرى على قسمين، قسم للآلهة، والآخر ينفق لإقامة العمائر الدّينيّة والمرافق العامّة، ولأداء أجور الكهّان، وخدّام المعابد، والكَتَبة، وعمّال الجباية، والحراسة، ومن عدا هؤلاء من العَمَلَة والأعوان.
ونصيب الآلهة من الأموال هو الذي صنع في الحقيقة ترف المستكبرين في مدين، إذ هو - مع عِظَمِه - نُهبةٌ خالصة لهم، لا يترتّب عليها شيء من الواجبات، بل حتّى النّفقات التي تستلزمها المؤسّسة الدّينيّة صاحبة الفضل على المترفين لا تؤخذ منهم، بل تستخلص من الضّرائب والمكوس، وهذا يذكّرنا بقوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا: هَذَا لِلَّهِ - بِزَعْمِهِمْ - وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا! فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ ‌يَصِلُ ‌إِلَى ‌شُرَكَائِهِمْ، سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ (الأنعام: 136) والمجعول للّه هو كناية عن الحقّ العام.
فإذا علمنا أنّ نَهَمَ المترفين في جمع المال والاستكثار منه لا حدّ له، فعلينا أن نتوقّع رغبتهم في السّيطرة الكاملة على أعمال التّجارة في مدين، بل حتّى خارج مدين، ولهذا سُميتْ مدينُ مدينَ كما أشرنا من قبل، وفي هذه الحالة سيتحوّل القائمون بأعمال التّجارة على اختلاف مراتبهم مجرّد وسطاء، ويقع عبء السّعي واقتطاعات الضّرائب والمكوس عليهم وحدهم، ويصل الصّافي من الأرباح إلى المترفين لا حقّ عليه مرّة أخرى، وبهذا زادوا النّاس رهقا على رهق.
ولم تكن النخبة المدْيَنية في صراعها السّابق مع المدّ الإبراهيمي واللاّحق مع شعيب خائفةً على أصنامها، بل كانت في رعب شديد من ذهاب امتيازاتها الماليّة التي تأتيها رُخاءً بفضل الأساطير الدّينيّة الآسرة لقلوب القوم، وتأمل كيف ربطوا بين آلهتهم القوميّة والمال حين ﴿قَالُوا: يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ ‌نَفْعَلَ ‌فِي ‌أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ، إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ (هود: 87) 
خصومة أهل مدين
وجد شعيب قومه على طبقتين كعادة القرى الهالكة: طبقة الكبراء الذين يستبدّون بالأمر كله، وطبقة العامة التي لا تملك من الأمر شيئا، ولتأبيد هذا التّسلّط يختلق الكبراء نظاما دينيّا يمنع العامة من الشّراكة الاجتماعيّة العادلة منعا ذهنيّا، وذلك عن طريق العقائد الأسطوريّة التي تغيب العقول عن الواقع، وتجعل الجماهير الكادحة راضية بخدمة السّادة المترفين، وهذا المكر الكُبّار الذي يقوم على الحجب والتّلبيس، والذي يستهدف النّعمة العامّة، هو المُسمّى في القرآن كفرا، وهو المنسوب إلى الملأ الذين استكبروا وأترِفوا في الحياة الدّنيا. 
لكنّ مدين كانت لها خصوصيّة بين القرى الهالكة تتمثّل في انتمائها إلى نظام تجاري عالمي تحتلّ منه مركزا حيويّا، وهذا ما أتاح للسّادة أن يصدّروا أزمتهم، إذ جعلوا عامَّتهم وسطاء من الدّرجة الأولى، وألقوا بالعبء الأكبر من الاستضعاف خارج مدين، فصار القوم عاكفين في أسواقهم على استنزاف الواردين عليها من شتّى الآفاق كما يكعف المتعبّد في محرابه ابتغاء وجه ربه.
فلما جاءهم شعيب مُعزّزا بالبيّنة ما سبق إلى النّاس من التّعاليم الإبراهيميّة، استجاب له عدد كبير، فوقع الانقسام في مدين، وأُسقط في يد الكبراء، لأن المُورّدين هذه المرّة سيكون في إمكانهم التّعاطي مع الذين يزنون بالقسطاس المستقيم، ويوفون الكيل، ولا يبخسون النّاس أشياءهم، وهم الذين اتبعوا شعيبا، وقد كان شعيب نفسه من أغنياء التّجار، ولهذا ﴿قَالَ: يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا، وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ، ‌إِنْ ‌أُرِيدُ ‌إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (هود: 88) وهذه المنافسة الحادّة على مستوى القيم ستؤدّي بالتّدريج إلى انهيار نظام البغي، وهذا هو الدّاعي إلى المفاصلة التي توعد بها الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إذ قالوا: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا، أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي ‌مِلَّتِنَا!﴾ (الأعراف: 88) فوضعوا مدين بقرارهم هذا على شفا حرب أهليّة، واتقاءً لذلك كان شعيب يوصي قومه بالصّبر، في انتظار ما يتمخّض عنه التّدافع السّلمي: ﴿وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا ‌فَاصْبِرُوا ‌حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا، وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ (الأعراف: 87) لكنّ السّادة المتجبّرين أبوا إلاّ خطّة البطش، مفضّلين التّعجيل بحسم الخلاف على قاعدة: (إمّا نحن أو أنتم)، وكانوا يرون – لما لهم من تمكّن وسطوة - أنّ النّصر على المؤمنين أمر لا رادّ له: ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾ (الأعراف: 90) وهنا تمسّك شعيب والذين معه بمبدأ كفّ اليد وعدم الرّد، وفوّضوا أمرهم إلى اللّه وقالوا: ﴿عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا، رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ (الأعراف: 89) 
خاتمة الختام
لم تكن رسالة شعيب عليه السّلام مجرّد دعوة دينيّة ساذجة كما صُوِّرتْ في كتب التّراث، بل كانت إصلاحا لنظام اقتصادي أممي اجتمعت خيوطه كلّها بيد النّخبة المَدْيَنية المترفة، والتي جعلت من مدين أكبر دائن في شبكة التّجارة العالميّة، وأغرقوا باقي الأسواق في مديونيّة مرهقة، فتأثّرُ باقي الأمم بأحوال مدين إذن كان أمرا لا محيص عنه، إذ هي التي تجعل الأسواق الأخرى في وضع التّبعيّة، وتفرض الأمر الواقع. 
وعمل شعيب الأساسي كان تحرير النّظام التّجاري من تلك الوطأة السّاحقة، للتّفريج عن المستضعفين في الأرض، فقضيّته المركزيّة لم تكن الشّرك المجرّد، بل الشّرك الذي يضيّق الأنفاس على النّاس باسم آلهة مزعومة.
لكنّ قدرة شعيب والذين معه تقف عند إظهار الحقّ من خلال المنافسة التّجاريّة السّلميّة في سوق مدين، ولا يملكون مع ذلك إلّا البينة الفاضحة لربط قواعد الفساد التّجاري بآلهة مدين المزعومة، أمّا إذا وصل الأمر إلى المفاصلة القهريّة فإنّ اليد العليا ولا شكّ هي للكفرة من أهل مدين إلّا أن يشاء اللّه شيئا، وقد شاء اللّه أن ينجّي شعيبا والذين آمنوا معه، وأن يتوّلى بنفسه إهلاك القوم الظّالمين.
وسنّة اللّه في هلاك القرى الظّالمة أنّه لا يأتي دفعة واحدة، بل يبدأهم بعذاب ينال أوّل من ينال المترفين: ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا ‌مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ﴾ (المؤمنون: 64)﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا، سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادهِ، وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ (غافر: 84-85) 
وكان أوّل ما بدأ اللّه به أهل مدين أن جعل عليهم ظلّة نزل منها عذاب عظيم، وهو المذكور في قوله تعالى: ﴿قَالُوا: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا، وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ: رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ. فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ ‌يَوْمِ ‌الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ (الشعراء: 185-191)   
ثم أخذتهم في صبيحة اليوم التّالي صيحة مرفوقة برجفة كما وقع لثمود: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا، أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾ (هود: 94-95) ﴿فَأَخَذَتْهُمُ ‌الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ، الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا، الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ، فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ: يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ (الأعراف: 91-93) 
الهوامش
(1)جاء في سفر أخبار الأيام الأول الإصحاح 1، الفقرة 32: «وَأَمَّا بَنُو قَطُورَةَ سُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ، فَإِنَّهَا وَلَدَتْ: زِمْرَانَ، وَيَقْشَانَ، وَمَدَانَ، وَمِدْيَانَ، وَيِشْبَاقَ، وَشُوحًا». 
(2) رحلات في بلاد العرب في شمال الحجاز والأردن، ص: 114، دار المجمع العلمي، جدة، الطبعة الأولى 
(3) المعالم الأثيرة في السنة والسيرة، ص: 243، دار القلم، الدار الشامية - دمشق- بيروت، الطبعة: الأولى، 1411هـ
(4) له محاضرة على اليوتيوب بعنوان: (نتائج الأعمال الأثرية في موقع البدع في منطقة تبوك) ألقيت بتاريخ 13‏/09‏/2021