قبل الوداع

بقلم
فيصل العش
ماهية الحوار

 

 
” فكر يعلو....
فكر يسقط....
حوار الصمّ يناديني .... يغازلني ويجنيني
زيتونا بلا زيت....
وتينا بلا سكّر ....
أعمى يصرخ في وجهي ... 
يجادلني ...
في لون البحروالعنبر...
كل الأفكار ... ناقصة ...
كلّ الأفكار زائفة ...
لا فكر سوى فكر المنبر...“
بهذه الابيات عبّرت عن حزني وألمي للواقع المرير الذي كانت تعيشه ساحتنا الفكرية والثقافية .. واقع انعدمت فيه أبجديات الحوار وتغيب فيه ثقافة الاستماع إلى الآخر وقبول الرأي المخالف .... كتبت هذه الأبيات في أحد أيام خريف 1983 ... بغرفتي بالمبيت الجامعي بمنوبة. ومن لا يعرف منّوبة وكلية الآداب ومبيتها الجامعي معقل النضال الطلابي في العهد البورقيبي وموقع الاحتكاك  بين المدارس الفكرية والايديولوجية المختلفة ، بين الاسلاميين والماركسيين أو بين الاسلاميين والقوميين أو بين الإسلاميين أنفسهم والماركسيين فيما بينهم ... في تلك الأيام كان النقاش على أشدّه بين مختلف الفرقاء لكنّه لم يرتق إلى رتبة ”الحوار“ فكانت حلقات النقاش تنتهي عادة بكيل الاتهامات ورفع الشعارات ذات الطبيعة العدائيّة المرتكزة أساسا على مصطلحات مثل ”السحق“ و”الموت“ و”العمالة“ و”الرجعيّة“  و”الكفر“.... الخ....
وبعد ثلاثين سنة .... ترانا في نفس اللحظة وكأن عقارب الساعة لم تتحرك. وبالرغم من فعل الأيام في ملامحنا وأشكالنا فإن ما نراه اليوم ونسمعه من جدال عقيم على شاشات التلفاز وموجات الإذاعات وأعمدة الصحف هو تكرار لما كان يقال في حلقات النقاش ويكتب في المعلقات الجدارية التي كانت تغطي جدران الكليات والمدارس العليا.
كيف يمكن أن نبني وطنا للجميع ونحن لا نعرف معنى الحوار ولا نمارسه؟ كيف السبيل إلى الوصول إلى حلول لمشاغلنا المتراكمة ونحن نعيش ثقافة ”الأنا“؟ نمجّد الذات ولو كانت على خطأ و نقبر ”الآخر“ ولو كان على صواب؟ كيف يمكن التعايش ونحن نتخبط في التلفيقيّة ونكرر نفس أخطاء الماضي ونعمل على ترقيع الخطأ بالخطأ ؟ نسدّ آذاننا ونمارس الحصار حول كلام وآراء الآخرين ولا نستمع إلاّ إلى صدى كلامنا وآراءنا ونُقنع ”الأنا“ فينا بأن الصواب منّا وإلينا.؟
إن غياب الحوار من المجتمع يعني غياب الحرية، وحقّ التعبير عن الأفكار والآراء، وهو دليل على هيمنة ثقافة الاستبداد ومصادرة حرية الفكر والثقافة، كما أن غياب الحوار دليل على طغيان ”الفرديّة“ ونبذ الآخر وإقصائه. وعندما يشوّه الحوار أو تتم مصادرته فإن قدرة المجتمع على البناء والإصلاح تغدو هشّة لا رجاء منها. 
فالحوار يا سادتي ليس هدفه إلغاء للآخر ونجاح ”الأنا“ ليس مرهونا بفشل ”الآخر“ لأن الذّاتية والغيرية لا يتناقضان بالضرورة فالحوار اختزال للمسافات بين ”الأنا“ و“الآخر“ وردم للهوّة السحيقة التي تفصل بين طرفي الحوار وجسر تواصل وتفاعل خصب، يساعد على تكامل الآراء واتساع الأفق الفكري الذي يستوعب الحقيقة مهما كان مصدرها .
والحوار مواجهة لموضوع ما نبحث عن جذوره لنستجلي الحقيقة بنيّة الاستفادة قبل الإفادة وليس مواجهة للطرف المتحاور معنا. الحوار كما قال أحدهم ” معرفة بها نتطلع للحقيقة بالسؤال والبحث لا إيديولوجيا تجنح نحو الانكماش والتقوقع“ 
وللحوار شرط أساسي لنجاحه هو الإنطلاق فيه بدون خلفيات مسبقة ولا قدسية لفكرة على حساب أخرى وهو ما عبّر عنه الشافعي بقولته : ”رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب“ وقول فولتير: ” قد أختلف معك في الرأي، ولكني مستعد أن أموت كي تقول رأيك“.
ما أحوجنا إلى حوار بناء يعترف فيه المخطأ ويتواضع من خلاله المصيب، الغاية منه ترتيب فوضى الأفكار والبحث عن حلول للمشكلات . إنه يتطلب صدرا رحبا و انفتاحا مستمرا وعقلا متفتّحا وخروجا دائما عن الذّات للإنغماس في رحاب موضوع الحوار قصد التعرف على خباياه واكتشاف رموزه والوصول إلى إجابات للتساؤلات العميقة المتعلقة به والتي لا يمكن أن تكون إلا ثمرة جهد المتحاورين جميعا. 
الحوار ثقافة مفقودة في وطننا نتيجة سنوات طويلة من الكبت والاستبداد والإقصاء ولا خيار لدى الشعوب المتحررة التي تحلم بمستقبل أفضل ووطن يحترم فيه الناس بعضهم بعضا، سوى أن تجتهد في وضع أسس هذه الثقافة وتقطع مع ثقافة الصراع والعراك لأن البناء لا يتم بالمعاول فالمعاول مجعولة للهدم لا للبناء.
في الختام، أذكّر نفسي وإخوتي وأصدقائي المثقفين أن شعبنا وجميع الشعوب العربية تعوّل على استفاقتنا من غيبوبتنا وتحررنا من سجوننا ”الايديولوجيّة“ وتسلّحنا بفكر حرّ أصيل بعيدا عن الخرافة والوهم والطغيان والنرجسيّة فننسى ذواتنا ونتحاور بهدوء ورويّة فتلك هي الأداة الوحيدة للبحث عن الحق والحقيقة والحلول العميقة لمشاكلنا.
وحتّى نلتقي، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه