في السياسة الوطنية

بقلم
فيصل العش
مطبّات في طريق الثورة (1)

 إن العديد من الشعوب التي ثارت في وجه الطغيان وأنجزت ثورتها بدماء أبنائها قد خاب مسعاها في بناء مشروع دولة يتساوي فيها الجميع ويعيش فيها المواطن بحريــــة وكرامـــة. ويذهب البعض إلى أن نسبة نجــــاح الثــــورات فـــــي تحقيــــق أهدافهــــــا لا يتجـــــاوز 20 بالمائــــة. أي أن مـــن جملة 100 ثورة هنـــــاك 80 قد حــــادت عــــــن مسارهـــــا بــــل أنتجت دكتاتوريات أكبــــــر من الدكتاتوريات التي ثار الناس عليها. هذا المعطى التاريخي الذي هو بمثابة سنة كونية أو قانون طبيعي لسيرورة الثــــورات، يجعلنا نطـــرح السؤال التالــي: ما هي الصعوبات والمخاطر التي تهدد نجاح الثورة التونسية؟ وماهي المطبّات الموجودة في طريق الإنتقال الديمقراطــــــي التونسي التي قـــد تتسبب في انحراف الثورة عن مسارها؟ وكيف السبيل لهــــذه الثـــــــورة أن تأخذ مكانا ضمن الـ 20 بالمائة الناجحة ؟ 

 
المطبّ الأول : الثورة المضادّة
 
من سنن الله في كونه أن كل حركة تقابلها حركة مضادّة ومثل ذلك في تاريخ الشعوب، فكل ثورة تقابلها ثورة مضادّة تقودها قوى من الفاسدين وأصحاب المصالح والامتيازات في العهد البائد تعمل على عرقلة المسار الثوري ومحاولة استعادة السلطة من جديد . ولقد حاولت هذه القوى في تونس منذ لحظـــة هروب بن علي، احتواء الثورة من خلال تفعيل الفصــــل 56 ثم 57 من الدستور القديم ومحافظتها على السلطة متمثلة في رئاسة الجمهوريـــة ورئاســـة الحكومـــة في فترة الغنوشي والسبسي ومجمل أجهزة الدولــــة ثم الالتفاف على مكتسبات الثورة ضمن نسق تصاعدي مدروس من خلال الموافقة على جميـــــع المطالب التي دعت إليها قوى الثورة وتطبيقها بشكل مشوّه على أرض الواقع ثم عملت على خلق شرخ بين النخبة السياسية الوطنية وعامّة الشعب عبر النفخ سرّا وعلنا في تحريك النعرات الجهوية والاستفادة من الأوضاع الإجتماعية السيئة لبعض القطاعات الشعبية لدفعهــا إلى تبنّي منهج مطلبي مشط واستعمال أشكال احتجاجية عنيفة وإغراق البلاد في حركة فوضويّة لتلهية الناس عن مطالب الثورة الحقيقيّة. وفي أثناء ذلك عملت على تهيئة الساحة السياسية لقبول عودتها عبر مسالك مختلفة من بينها إطلاق مبادرات سياسية بدعوى إنقاذ البلاد ثم تأسيس قوّة سياسية فاعلة جمعت حولها أطرافا تقودها المصلحة الخاصة وأطرافا أخرى لم تجد مكانا ضمن قوى الحكم التي جاءت بها انتخابات 23 أكتوبر 2011. ومما يُحسَب لصالح قوى الثورة المضادة نجاحها في استغلال المنابر الإعلامية استغلالا جيدا مستفيدة في ذلك من خبرة عناصـــــرها وتغلغل البعض منهم في قطاع الإعلام.
إن نجاح الثورة التونسية في مسارها نحو الديمقراطية لا يمرّ إلاّ عبر تحجيم أجنحة القوى المضادّة وتقيلم مخالبها، ليس من خلال شتمها أو احتقارها أو الدخول معها في حالة من العنف السياسي يعود بالوبال على البلاد والعباد ويصبّ في مصلحتها، بل بدراسة عميقة لنقاط قوتها وضعفها ومن ثم مقاومتها سياسيا بقوة الحجــة لا بحجة القوة من خلال بيان مخاطرها وفضح ماضي رموزها وقطع الطريق أمام مخططاتها  عبرالالتحام الحقيقي مع الشعب ومحاولة حل مشاكله وتحقيق مطالبه التي ثار من أجلها. 
 
المطب الثاني : المطامع الأجنبية
 
من بين أكبر المطبّات الموجودة في مسار تحقيق أهداف الثورة ، العامل الخارجي وإيجاد الصيغة المناسبة للتعامل مع القوى الكبرى للحد من تدخلها السلبي في الشأن الوطني. 
فهذه القوى التي فاجأت الثورة بعضها، ليست مستعدّة لترك الشعوب العربية وشأنها، لأن استمرار مصالحها مرهـــــون ببقاء هذه الشعوب تحت سيطرتها وهي بالتالــــي تعمــــل باستمــــرار على التدخّل في الشأن الداخلي لهذه الشعوب سرّا وعلانيّة ، مباشرة عبر الضغط على من بيده السلطة أو عبـــــــر تحريك من يمثلهــــا من سكان البـــلاد ويعتبـــــرون أنفسهـــــم امتدادا ثقافيـــا لهــــا. ولهذا فمن الحكمة أن تتعامل القوى الوطنية بذكاء  سياسي وتحاول طمأنة هذه الدول من دون الارتماء في أحضانها واكتساب الوعي بطبيعة التوازنات الدولية وفهم ماهية الصراع العالمي. فالكل يعلم أن هناك صراعا بين قوى الاستكبار العالمية مـــن أجل السيطــــرة على العالم والتحكم في شعوبه . صراع تلون عبر العصور وتنوع حسب التاريخ والجغرافيا . ومن قدر الله أن بلادنا توجد في المنطقة العربية وهي منطقة استراتيجية في هذا الصراع العالمي وستكون ميدان المعركة القادمة اقتصاديا بين امريكـــــا وحلفائها الغربييـــــن و الدول الصاعدة كالصين وروسيا والهند وجنوب افريقيا والبرازيل . ولكي نلتمس طريقنا جيّدا يجب علينا أن نعمل جاهدين على الاستفادة من هذا الصراع وذلك بتبني سياسة خارجية ذكيـــــة لا ترتكز على الولاء لأي طرف ومحاولة التفاعل إيجابيا مع جميع الأطراف من دون تحد أو استكانة. فهل باستطاعتنا القيام بذلك ووضع مخططات للاستفادة من هذا الصراع من دون أن نصبح وقودا له؟
 
المطب الثالث :
الوضع في بلدان الجوار
 
ليس من السهل بناء صرح ديمقراطي بمعزل عمّا يحدث في الجوار والنجاح في تجنّب تأثيراته السلبية. فالوضع في جارتنا الجنوبية الشرقية ليبيا مازال متأزما وليس من السهل فكّ طلاسمه و جوّ المعارك مازال مسيطرا على الميدان . أما جارتنا الغربية، فبقدر اهتمامها بالوضع في تونس، فإنهــــا تبدو متــــرددة في اختيار طريقة التعامل معنا واتخاذ موقف واضح مما يحدث في تونس . وليس بعيــــدا عنّا مــا يحدث في شمال مالي من صراعات مسلّحة وإمكانية تدخل عسكري أجنبي وما ينجر عنه من امكانية انتقال نشاط المجموعات المسلّحـــة إلــــى القــــرب مــــن حدودنا. فهل ستنجـــح تونــس فـــــي تحصيــــن مشروعهــــــا من هذه المخاطر ؟
 
المطبّ الرابع :المشكل الأمني
 
إن كل الشعوب تمرّ بمراحل أمنية حرجة بعد نجاحها في إزالة حكّامها الطواغيت وهو ما يعبّر عنه بالانفلات الأمني. ولكي تستمر الثورة وتنجح في مسارها ، يجب الإسراع في حلّ المشكل الأمني وتحقيق الاستقـــرار. إن الانفلات الأمني وما يتبعه من تصدّع في مستوى العلاقة بين المواطن وعون الأمن يشكــــل خطـــرا على تثبيت المسار الديمقراطي في تونس، فضــــلا على انعكاساته السلبية على النمو الاقتصادي والاجتماعي.  فمن دون أمن لا تكـــون ديمقراطيـــة ولا استثمارات اقتصادية و لا سلم اجتماعي. والمطب الحقيقي الذي تتعرض إليه القوى الوطنية في طريقها من الاستبداد إلى الديمقراطية هو شفاء المؤسسة الأمنية التي كان ولاؤها في عهد قريب إلى نظام مستبد قمعي اعتمد عليها في تصفية خصومـــه السياسييـــن و تكميم أفواه الجماهير وتحويلها من أداة قمع إلى أداة أمن حقيقي ومن سلطة عنيفة إلى سلطة لها هيبتها تحترم القانون وتفرضه على الجميع من دون تمييز.
إن المؤسسة الأمنيـــة تعيش اليــــوم أزمة حــــادة وهي في حاجة إلى إصلاح جوهري وشامل حتى تكون شريكا فاعلا في عملية الانتقال الديمقراطي وضامنا لها. وهو ما يتطلب إرادة سياسيــــة قويّة تعطـــــي هذه المؤسســـــــة مكانتهــــا الحقيقيـــة في ضمان أمن المواطن وتقطع نهائيّا مع أساليب عملها القديمة من قمع وفساد ورشوة. وهذا لا يحصل إلا عبر تفعيل قوانين صارمة تحدّد العلاقة بين رجل الأمن والمواطن وضمان تطبيقها بآليات للرّقابة والمساءلة.
 
المطبّ الخامس :حريّة الرأي والإعلام
 
شهد الإعلام في تونس بعد الثورة تحرّرا كبيرا بعد  انهيار المنظومة الدكتاتورية التي كانت تحكمه بطابع زجري ورقابة صارمة وتصنّف الصحفيين حسب درجة ولائهم للسلطة والتفاني في خدمتها. لكنّ هذا التحرّر يبقى هشّا ما لم يتم تنظيم القطاع والانتقال به نحو إدارة ديمقراطية تتوفر فيها المعايير الدولية والمهنية المطلوبة. فبدون تنظيم القطاع الإعلامي بشقيه العمومي والخاص تنظيما ديمقراطيا محكما وشفّافا يساهم في إعداده الإعلاميون قبل غيرهم مع بقية الأطراف بدون إقصاء ، سيبقى هذا القطاع مرتعا لأعداء الثورة وقوى الردّة ومجالا لمحاولات الساسة ترويضه لصالحهم واعتماده أداة من أدواتهم الانتخابية والحزبية كمـــــا كان يُفعَل به منذ أكثــــر من خمسين سنة . إن الرهانات الموكولة على القوى الديمقراطية والوطنية في البلاد في مجال إصلاح القطاع الإعلامي كثيرة وصعبة، خاصّة بالنسبة للإعلام العمومي الذي يجــــب الانتقــــــال به من مجال عمومي تسلّطي ذي خطاب واحد يصبّ في خدمة شخص واحد إلى إعلام عمومي متعدد ومتنوع يقبل الرأي والرأي الآخر ويضمن حرية التعبير للجميع بدون استثنـــــاء.
وإذا كان هذا الرهان صعب التحقيق في المرحلة الآنيّة لأنه يتطلب تحولا ثقافيا وذهنيّا لدى العاملين في القطاع والمشرفين عليه لا يحصــــل إلا على المدى الطويل، فإن رهان هيكلة القطاع أمر مستعجل ويتمثل في تعيين مجلس أعلى مستقلّ للإعلام يُشرٍفُ عليه ويضع اطارا قانونيا يراقب من خلاله مدى احترام المؤسسات الإعلامية العمومية والخاصة لالتزاماتها القانونية والثقافية والمالية (مصادر التمويل ...)
 
الخاتمة
 
هذه سلسلة أولى من خمس مطبات تعرقل مسار الانتقال التدريجي من دولة الاستبداد إلى دولة  الديمقراطية نطرحها على القوى الوطنية التي انتصبت تدافع عن الثورة ورشحت نفسها لقيادتها نحو برّ الأمان، أن تدرسها جيّدا وتعمل لها ألف حساب، حتى لا يتحقق حلم القوى المعاديـــــة للثــــورة المتمثـــل في انتكاسة ثورتنا المباركة والعــــودة إلــــى المربــــع الأول ... مربع الاستبداد والفساد.. 
وسنسلّط الضوء على مطبّات أخرى في العدد القادم إن شاء الله . 
 (يتبع)