في السياسة الوطنية

بقلم
فيصل العش
أي مستقبل للجبهة الشعبية ؟

 تابعت باهتمام شديد الإعلان عن تشكل "الجبهة الشعبية" كتحالف سياسي جديد بتونس يجمع شتات اليسار. وكان اهتمامي بهذا الحدث نابعا من إيماني العميق بضرورة إعادة تشكـّــــل المشهد الحزبــــي ببلادنا والقطــــع مع ظاهرة التشرذم التي ميزت الساحة السياسية وحيّرت المواطن التونسي وجعلتـــــه ينفــــر من العمل السياسي. فتوحّد العائلات الفكرية والسياسية في أحزاب وتحالفات ذات وزن وفاعليّة في الساحة والقطــــع مع التشتت ضرورة وأمر مطلوب لأنه سيرفع من نسبة نجاح التجربة الديمقراطية بالبلاد و يؤسس تنافسا متوازنا بين قوى سياسية لها أحجامها ومميزاتها سواء من حيث عدد المنخرطين أو البرامج والبدائل والمقترحات. 

 
الجبهة الشعبية :" مشروع قديم في ثوب جديد" 
 
لم يكن اللقاء الجماهيري الذي نظمته الجبهــــة يـــوم 7 أكتوبر بقصر المؤتمرات الاعلان الأول عن ولادتها فقد عقدت يوم الاربعاء 26 سبتمبر ندوة صحفية  للإعلان عن تأسيسها و توجّهت إلى الشعب بنداء لتحقيق أهداف الثورة وأصدرت مشروع أرضيتها السياسية. 
والجبهة الشعبية التي تجمع اثنى عشر حزبا ماركسيا وقوميّا وبعض الشخصيات المستقلة التي تنتمي لهذين التيارين، هي وريثة جبهتين سابقتين تأسست الأولى في جانفي 2011 بمبادرة من رابطة اليسار العمالي وحركة الوحدويين الناصريين والوطنيين الديمقراطيين بمكوّناتهم الثلاث والتيــــار البعثــــي وحـــزب العمـــال تحت تسمية "جبهة 14 جانفي للقوى الوطنية والتقدمية والديمقراطية سرعان ما انفرط عقدها بمجرّد الإعلان عن تأسيس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي خلقت صراعات حادّة بين مكونات الجبهة فتفرقت بين ملتحق بالهيئة ومعارض لها باعتبـــارها محاولــــة للالتفاف على مطالب الشعب. ثم جاء مؤتمر الاتحاد العام التونسي للشغل ليدقّ إسفينا جديدا في جسد هذه الجبهة ويزيد في انقسامها نتيجة الصراع خاصة بين حزب العمال وحـزب حركــــــة الوطنييــــن الديمقراطييــــن. أما الثانية، فقد تأسست بعد انتخابات المجلس التأسيسي وتمّ الإعلان عنها في 18 مارس 2012 وسمّيت آنذاك بـ "الجبهة الشعبية 14 جانفي". 
ولإن غاب بعض مؤسسي الجبهة الأولـــى والثانيـــة عن قائمة المعلنين عن تأسيـــس "الجبهة الشعبيّـــة" في شكلها الجديد كحزب العمل الوطنـي الديمقراطـــي، فإن أغلب التيارات الماركسية الراديكالية والقومية المؤسسين للجبهتين الأوليتين كانت ضمن مكوناتها .
 فهل ستستفيد الجبهة الجديدة من التجربتين السابقتين وتتجنّب الأخطاء التي تسببت في انهيار التجربة الأولى بصفة خاصـــــــة ؟ وهل تنجح في تحقيق الأهداف التي رسمتها لنفسها ومناضليها والتي عبرت عنها بوضوح في وثيقتي "مشروع الأرضية السياسية " و"نداء تحقيق أهداف الثورة" بالإضافة إلى ما جاء على لسان قادتها الذين تداولوا على المصدح يوم 7 أكتوبر وألهبوا مشاعر الحاضرين ؟
 
مكونات الجبهة ؟ نقطة قوّة أو نقطة ضعف؟
 
تتكوّن "الجبهـــــة الشعبيّـــــــة" مــــن عائلتيـــن إيديولوجيتيــــن وهما "القومية" و"الماركسيّة" لكنها لا تجمع كلّ الاحزاب والتيارات التي تتبنى هاتين الإيديولوجيتين فقد غابت عنها عدّة أطراف يسارية وقوميّة نتيجة اقصائها من طرف مكونــــات الجبهـة أو لأنها لا ترى في الجبهة الحل الذي تبتغيه وهذه أول نقاط ضعف الجبهة باعتبارها محدودة ولم تنجح في لمّ شمل العائلة وضمّ رفاق الأمس. 
 نقطة الضعف الثانية التي تميّز هذا الزواج بين العائلتين الماركسيّة والقومية هي الاختلافات الحادّة التي توجد بينهما. فالاشتراك الوحيد تقريبا بين هاتين العائلتين هو تقديس الزعماء التاريخيين كعبد النّاصر وصدام حسين لدى القوميين و لينين ومـــاو وأنور خوجة عند اليساريين. وقد تميزت علاقتهما بالتنافر والعداء الإيديولوجيّ خاصّة في العمل النقابيّ في الجامعة وفي القطاعات المهنيّة. وكلنا يستحضر الشعار الشهير الذي كان يرفعـه "الوطد" في الجامعة في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينات " شيوعيين شيوعيين – لا اخوان و لا شوفينييّن" لمنع البعثييّن والناصريين بالقوّة من النشاط السياسي باعتبارهم قوى شوفينيّة . بالإضافــــة إلى إختلاف المواقف في عدّة أحداث تاريخية (الانقلابات البعثيّة على بعض الانظمة الماركسية كالذي حدث في سوريا والعراق، الصراع البورقيبي اليوسفي)، إضافة إلى الأحداث الأنية على الساحة الوطنية والعربية كالموقف مما يحدث في سوريا وما حدث من قبل في ليبيا.
ومن الاختلافات الجوهرية بين العائلتين موقفهما من المسألة الدينية الحاضرة بالإيجاب عند القوميين وبالسلب عند الماركسيين حيث يرى القوميّون أنّ المسألة الدينيّة لا تطرح للنقاش باعتبارها متّصلة بالإيمان والعقيدة الفرديّة والجماعيّة  ولعلّ تردد حركة الشعب القومية الناصرية وعدم التحاقها بالجبهـــة بعـــد أن أعلنت في وقت سابق أنها من مكوناتها يفسّر شيئا مما سبق ذكره.
ولهذا فإن انبثاق مثل هذه الجبهة اليساريّة لم يكن وليد تناسق وانسجـــــام بيــــن القومييـــــن والشيوعييـــن وإنما نتيجة عوامل ذاتية وموضوعية أهمّها محاولة ضمان مكان في المشهد السياسي التونسي وتجنب النتائج المخيبة في الانتخابات القادمة كالتـــــي حصلت في انتخابات المجلس التأسيسي، مستفيدين في ذلك من اهتزاز مكانة الترويكا الحاكمة وخاصة النهضة لدى جزء من الشعب. ولذلك جاء في خاتمة "الأرضية السياسية" أن "الهدف من الجبهة هو مواصلة النسق الثوري وإرساء حكم الشعب بكل الوسائل النضاليـــة بما في ذلك الانتخابات".
والجبهة كما يراها بعض قادتها، ضرورة فرضها الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في البلاد بين اطراف ناضلت لعقود ضد الدكتاتورية والاستبداد وفي ظل تواصل حالة التوتـــــر في البلاد و«عدم تحقيق أهداف الثورة» وهو ما أكده حمة الهمامي الناطق الرسمي باسم الجبهة في الندوة الصحافية التي سبقت اجتمــــاع 7  اكتوبـــر حيث ذكر أن «الاطراف التي انخرطت فـــــي الجبهـــة ناضلت مع بعضها البعض ضد الديكتاتورية والاستبداد كما ناضلت ضد حكومتي الغنوشي و السبسي ومازالت تناضل لكن كل ذلك لم يمثل وحدة أو جبهة حقيقية لكنها رسخت لدينا قناعة بأنه لا يكفي ان نتوحد حول أهداف قطاعية وإنما مصيرنا يفرض علينا تكوين جبهة سياسية صلبة ... لدينا خلافات ايديولوجية وفشلنا في السابق لأننا لم نفهم ان العمل السياســـي هو الأساسي وهاته هي القناعة الموجودة لدينا اليوم».
فهل ستصمد هذه الجبهة أمام التناقضات التي تخترقها بالتركيز على "السياسي" ولا شيء غير السياسي؟
 
الجبهة الشعبية :" الخط الثالث" أو "الأول"؟
 
تحدث عدد مـــــن المحلليـــــن السياسييــــن بإطناب عن تأسيس وإعلان الجبهة الشعبية واعتبروهــــا "خطا ثالثا " سيضع حدّا للاستقطاب الثنائي الحاصل حسب رأيهم بين النهضة ونداء تونس ويقدم بديلا ثوريا عن حكومة الترويكا. وهو ما يجسده الشعار الذي رددته الحشود الحاضرة بالقاعة فـــــــي العديــــد من المرّات "" لالا للرجعيّــة ...دساترة و اخواجية " وماعبّر عنه قيادات الجبهة في مداخلاتهم خلال التجمع الشعبي حيث صرّح شكــــري بلعيــــد بـــــأن " الجبهة الشعبية" هي "مطلب وضرورة وطنية أمام استقطاب ثنائـــــي مغشــــوش يســـــرق ثورة الشعب، ومطالبه ومصالحه" و"يصادر القرار الوطني لصالح دوائر أجنبية" لأن طرفي الاستقطاب همـــا "وجهــــان لعملــــــة واحدة" لا تختلف عن النظام البائد فأحدهما يمارس اللّيبرالية بقناع حداثوي والآخر يمارسها بقناع ديني". واستخلص كبقية المتدخلين أن "الجبهة الشعبية هي الوحيدة القادرة على فك هذا الاستقطاب الحاد وبالتالي تحقيق أهداف الثورة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية".ويذهب حمّة الهمامي أن الجبهة " لا يجب ان تمثّل الخط الثالث بل الأول، باعتبارها البديل القادر على قيادة البلاد وتأسيس جمهورية ديمقراطية حقيقية، تكـــــون الاطار السياســـي الذي يحقق في ظله الشعب استقلاله الفعلي وانعتاقه الاجتماعي. ذلك ان الترويكا أو حركة النهضـــة اكـدت فشلهــــا منذ وصولهــــا الى الحكم كما اننا نعتقد وان الاطراف الاخرى لا يمكنها الخروج بالبلاد مما هي عليه من تعطل وهي لا تملك بدائل وطنية واقتصادية واجتماعية تكرّس أهداف الثورة وتحقق طموحات الشعب."
بل أن عبد الناصر العويني أحد قيادي الجبهة والذي كانت مداخلته شبيهة ببيان عسكري ذهب بعيدا في اعتباره "الجبهة الشعبية الهيئة المديرة للثورة التونسية.. ليست الهيئــــة خيـــارا ثالثــــــا.. هي الخيار الأوّل.. إنّ الجبهة هي هيئة أركان شعب تونس المضطَهَد.. هي ليست قوة معارضة هي هيئــــة مقاومــــــة وقــــوة تغيير ثوريّ". 
إذًا حسمت الجبهة أمرها ونصّبت نفسها البديل والمنقذ واعتبرت نفسها هيئة أركان الشعب وهي الخيــــار الأوحـــد وليــــس الثالث وهي بهذا المعنى تقلل من أهميّة بقية الأطياف الحزبية بالبلاد بجميع تياراتها وحكمت عليها بانتهــــــاء صلاحيتهـــا السياسيــــة وهذا في تقديرنا خطأ فادح ترتكبه الجبهة ناتج عن نشوة التأسيس وقراءة مبسطة وسطحية للساحة السياسية وعلى قادتها أن يقوموا بتعميق قراءتهم للساحة وتقدير حجمهم الحقيقي سواء بالعـــــــودة إلى نتائج الانتخابات الأولى أو حتّى إلى عمليات سبر الآراء بمختلف اتجاهاتها. أمّا إذا اعتقد هؤلاء أن الحشود المتمردة هنا وهناك والجماهير التي تنفّذ تحركات اجتماعية احتجاجية في عدّة مناطق من البلاد هي رافد من روافد الجبهة ومسانديها في مشروعها فذلك خطأ آخر تقع فيه الجبهة  ذلك أن هذه الجموع ليست شيوعيّـــــة ولا قوميّة وإن ما يحركها هي مطالبهـــــا وحاجياتهــــا لا يهمّهــــا من يحققها لها. فهل يدخل هذا فقط في باب التحريض والتحفيــــــز الذي يقوم به عادة القادة السياسيون فــــي الاجتماعــــات الجماهيريــــة؟ أم أننا أمام إعادة صياغة "ظاهرة قديمة"(رفاق بداية الثمانينات) في ثوب جديد ؟
كيف ستتعامل الجبهة مع المشهد السياسي؟
 
 هناك تضارب كبير في خطاب الجبهة في الإجابـــة على كيفية تعاملها مع بقيّة المشهد السياسيّ. فشكري بلعيد النّاطق الرّسميّ باسم حركة الوطنيّين الديمقراطيّين وأحد مكوّني الجبهة الرئيسيّين، يصرح يوم 16 أوت 2012 فيقول "نحن دعاة حوار وشراكة حقيقيّة ومسؤوليّة، وسنمارس هذا الدّور مع أيّ حاكم لتونس كائنا من يكون".ويرى حمّة الهمامي الناطق الرسمي للجبهة أنه لا مجال للحوار مع حركة النهضة ولا يرى مانعا من الحوار مع بقية الأحزاب بما فيها "نداء تونس" في حين نسمع خطابا في غاية التّوتر من طرف بعض القادة الآخرين تجاه "نداء تونس" باعتباره "إعادة إنتاج النظام القديم"وأنه و"النهضة" وجهان لعملة واحدة. كما نلاحظ أنـــــه فــــي الوقـــت الذي يجلس فيه حمة وبلعيد للتحاور مع رئيس الجمهورية المؤقت بصفته أحد مكونات السلطة التنفيذية وركائز النظام ، يصرح عبد الناصر العويني في تحريض واضح على اسقاط الحكومة ودعوة للفوضى الخلاقــــة ، أنّه "لو توفرت لنــــا فرصـــــــة غــــــدا لإسقــــــاط الحكومــــــة لأسقطناهــــا غـــــدا" و"إننا لا نراهـــــن علــــى الانتخابـــات إلا إذا اجريت في وضع ثوري ...وإلاّ لن تجري" فيجيبه الحاضرون في قاعة الاجتماع برفع شعارات مثل "الشعب يريد اسقاط النظام" و"مقاومــــة ..مقاومـــــة لا صلـــح ولا مساومة".
إن هذا التضارب في الاقوال والشعارات والتشدد المعلن في المواقف و"الثورجيّة المفرطة" لن يسمح للجبهة أن تبني جسورا للحوار والتواصل مع مختلف مكونات المشهد السياسي خاصة تلك التي تنتمي للعائلة الديمقراطية والتي يربطها تقارب أو تحالف مع أحد طرفي الاستقطاب كحزب التكتل من أجل العمل والحريات و المؤتمر من أجل الجمهورية المتحالفــــين مع النهضة أو المسار والجمهوري وبعض الوجوه اليسارية والعروبية المتحالفة أو في طور التحالـــف مع نداء تونس وهي بهذه الطريقة تخدم طرفي الاستقطاب التي أنشئت من أجل مقاومته . فهل بهذا التضارب والتشدد ستجعل الجبهة من نفسها رقما هامّا في الساحة السياسية؟ 
أي مستقبل للجبهة؟
 
إننا بقدر سرورنا بتوافق جزء كبير من قوى اليسار التونسي للقطع النهائي مع التشــــرذم والتحسيـــــن من نسيج الساحة السياسية بقـــدر خيبــــة الأمـــــــل التـــــي حصلــــــــت بعد متابعة حفل الإعلان عنها جماهيريا يـــــــوم 7 اكتوبــــــر. وفي رأينا، فإن "الجبهـــة الشعبيــــة" إذا لـــــم تتخلّــــــى عن البستهـــــا الإيديولوجيــــــة ومنهج الإقصــــــاء والتلويــــح بالعنف الثــــــــوري وتتحـــــول إلى جبهـــــة سياسيــــة تقبــــل الديمقراطيــــة بكــــل مــــا تعنيه من رفض للعنف والاكتفاء بالطرق السلمية في النضال وقبول مبدأ  التداول السلمي على الحكم ، لها برنامج تغيير سياسي واقتصادي واجتماعي حقيقي وواقعي يأخذ بعين الاعتبار الخصائص الوطنية و العلاقات الدولية ويعمل على تحقيق مطالب الفئات المهمّشة والفقيرة المتمثلة في التنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية ، فإن مشروع الجبهة الشعبية سيكون خارج التاريخ ولن يتجاوز موقع المعارضة الاحتجاجية ولن يجني غير أصفار جديدة في الاستحقاقات الانتخابية القادمة . 
فهل ستستفيد مكونات الجبهة من رصيد بعض قادتها النضالي ومصداقيتهــم وشجاعتهــم وتتجـــاوز الأخطـــاء السابقـــة، فتراجع شعاراتها وتقطع مع الخطاب الانفعالي "الثورجي" لتصبح قوة اقتراح مساندة للثورة ؟ أم أنها ستواصل على نفس الفكر والخطاب الانقلابي الذي صبغ الاجتماع الشعبي لـ7 اكتوبر وعبّرت عنه مواقف جل قادتها فتعيش بذلك مزيدا من الفشل والتشرذم والاغتــــراب عــــن واقـــع هذا الشعب؟