من وحي الحدث

بقلم
فيصل العش
شكوى ولــــيّ

 ”إنتهينا من الجهاد الأصغر وبدأنا الجهاد الأكبر“ هكذا كان يخاطب بورقيبة جماهيره ليعلمهم أن ما هو آت أصعب وأن الحصول على الإستقلال أمر هيّن أمام بناء الدولة. وهكذا يخاطب مواطن تونسي مثلي، له أربعة أطفال تلاميذ وطلبة جيبه وميزانيّته. لقد  انتهيت لتوّي من خلاص معاليم الترسيم ومعاليم الإشتراك الخاص بالتنقل وشراء الأدوات المدرسية والمحافظ وميدعة لإبنتي الصغرى  ودفع معلوم كراء شقّة لولدي الكبير الذي يدرس بالعاصمة ، زد عليه معلوم الضمان وثمن بعض الأثاث الذي سيستحقه خلال رحلته الشاقة مع التعليم الجامعي بعد أن استنفد في العام الفارط حقّه في السكن بالمبيت الجامعي .والآن يجب أن نستعدّ لمزيد من المصاريف لكن هذه المرّة طيلة السنة الدراسية وسيكون هذا الأمر حملا ثقيلا على ميزانية موظف من موظفي الدولة . ولن تكون المصاريف العنوان الوحيد للمعانات ، بل هناك أشكال أخرى على رأسها التوتّر المستمر والخوف من النتيجة آخر السنة وتحمّل عدّة وجوه من التخلّف في العلاقة مع المؤسسات التربوية  التي ينتمي إليها أبنائي الأعزاء. 

من يقول لكم إن التعليم في تونس مجّانيّا فلا تصدّقوه ... أين هي مجّانيّة التعليم والطلبات المادّية تأتي من كل حدب وصوب : فمعلوم الطباعة يكاد يكون دوريّا وهو من تحصيل الحاصل لأن مدارسنا ،حفظها الله، ليست لديها ناسخات ولا إمكانيات. يضاف إلى هذا المعلوم مصاريف الدروس الخصوصية العامّة أو ما يطلق عليها بحصص التدارك.. قد يستغرب البعض من هذا المصطلح، لكن استغرابهم سيتلاشى بسرعة كما تتلاشى ”الشهرية“ من جيبي وإذا عرف السبب بطل العجب كما قال الأولون . نعم هناك دروس تدارك عامّة وأخرى خاصّة فأمّا العامّة فهي التي تنظمها المدرسة وهي في ظاهرها ”إختيارية“ لكنها في الباطن ”إجبارية“. فالسيد المدير والسادة المعلمين يقنعونك أو على الأقل يخيّل إليك انك اقتنعت بضرورة تسجيل إبنك أو إبنتك في حصص التدارك فالأمر ليس مرتبطا بالقدرات الذهنية للتلميذ ولكن ، والحجّة على الإطار المدرسي ، نتيجة لكثافة المادّة التعليميّة ، فإن المعلمين لا يستطيعون أن ينهوا دروسهم في الحصص المخصصة لذلك فتراهم يكملونها في ”حصّة التدارك“ وهي بهذا المعنى إجبارية حتّى يكتمل الفهم لدى التلميذ . تصوّروا يا سادتي أن في بعض مدارسنا الابتدائيّة تقام دروس خصوصيّة للسنة الأولى من التعليم الأساسي؟؟؟؟ . إنها ليست ”حصّة تدارك“ للتلاميذ بل هي ”تدارك“ للمدرسين . أمّا دروس التدارك الخاصّة فتلك مسألة أخرى فهي حقّا ”اختيارية“ لكنها بمرور الأيام تصبح ”اجبارية“ لأنك كوليّ ، ستلاحظ أن فلذة كبدك بدأ يشكو من عدم قدرته على فهم الدرس داخل الفصل نتيجة التشويش المتعمّد والهرج والمرج الذي أصبح يميّز الجوّ العام داخل  قاعات الدرس وعدم  قدرته على التواصل مع أستاذه . فيحنّ فؤادك عليه ، وتسعى جاهدا في البحث عن أستاذ يدرّسه حصصا خصوصيّة بالبيت ولا تسأل عن التكلفة . أمّا إذا كان ابنك او ابنتك في الباكالوريا فلا مناص من الإقتراض لتسديد معاليم الدروس الخصوصية في الفيزياء والفلسفة والعلوم الطبيعيّة والإعلامية والرياضيات وما أدراك ما الرياضيات فقد تغير العالم كلّه إلا الرياضيات بقيت سلطان المواد المدرّسة ، لا أدري لماذا لكن هكذا قررت مناهجنا التعليميّة فلعلّها تهدف إلى تعليم الأجيال الحساب والهندسة حتّى يبقى التونسي ”يهندس“ و ”يحسب أخماسو في أسداسو“ وفي الأخير ”اللّي يحسب وحدو يفضلوا“. 
لنترك الحديث عن ”وسخ الحياة الدنيا“ ولنتحدث عن جهاد آخر أنت مطالب به خلال السنة الدراسية وهو مراقبة تحركات فلذة كبدك . ستضطر للتقرّب إلى رئيسك في العمل لتتحصل على رخص الغياب الضرورية للقيام بمهام المراقبة . فلا بدّ أن تعرف أي نوع من الأصدقاء يخالط ومع من يقضي ساعات الفراغ المفروضة في جدول التوقيت فأنت تخشى عليه أصدقاء السوء وهم كثر وحكايات ”الحشيش“ والمخدرات و قارورات الجعة بالقرب من أسوار المدرسة والمعهد تُرْوَى على آذانك صبحة وعشيّة  ولا غرابة في الأمر مادامت مناهج الدراسة عندنا بلا روح ولا توفّر للتلميذ الحصانة الأخلاقية والقيمية اللازمة لمواجهة مثل هذه الأخطار. 
عندما أحاول التفكير في مناهج التعليم، يصيبني الدّوار وتمتلكني الحيرة وتقفز إلى ذهني  أسئلة لا أجد لها جوابا. هل ينتمي من وضع البرامج والمناهج وصاغ نظامنا التربوي والتعليمي إلى هذا البلد ؟ هل يعرف خصائص مجتمعه ومتطلباته؟ هل وضع  هذه البرامج لأبناء تالة وبرنوصة والحزق و فريانة و دوار هيشر أم لتلاميذ من كوكب آخر؟  ولماذا كل هذه التجارب والتغييرات في الكتب والبرامج ؟ هل أطفالنا فئران مخابر؟ طبعا لن يجيبني أحد على أسئلتي التي يعود طرحها الأول إلى أكثر من عشرين سنة خلت عندما لاحظت من خلال متابعتي لدراسة إبنتي البكر أن البرامج والمناهج تتغيّر كما يتغيّر الطقس في فصل الخريف . حتّى إذا جاء من طبّق على أبنائنا ومعلّميهم قسرا ما سموه ”المقاربة بالكفايات“  علمت أن تعليمنا ونظامنا التربوي قد دخل نفقا طويلا لا نهاية له وأنّه لا مفرّ من زيارة قريبة لمختصّ في مرض ”السكّري“ و”ارتفاع ضغط  الدم“ وهو ما حصل لي وللأولياء أمثالي الذين لم يعودوا يفهمون كيف يقيّمون مستوى أبنائهم وكيف يتفاعلون مع المشهد التربوي.  
 المشهد التربوي؟؟؟ هل قلت المشهد التربوي؟ إذا، معذرة كان من الأفضل أن أقول المشهد التعليمي . لأنني لم ألمس تربية ولا قيما تنحت في وجدان أبنائي التلاميذ . لم يعد من مهام المعلّم والأستاذ تعليم التلاميذ السلوك الحسن والقيم التي يزخر بها ديننا وتتميّز بها هويّتنا. ليس من مهام مدارسنا تجذير مبادئ المواطنة لدى الناشئة ولا حتّى مبادئ التسامح والتعاون والتكافل . بل العكس ما يحصل عادة في مدارسنا، فالتمييز بين التلاميذ أصبح القاعدة والمساواة هي الاستثناء . فهذا ابن سي فلان وذاك ولد سي فلتان أمّا أنت فليس لك في القسم مكان. غابت المضامين وحضر الشكل فأنتج جيلا بلا هويّة، ليس لديه عشق للتعليم ولا رغبة في الاستفادة. همّه الوحيد النجاح في آخر السنة بكل الطرق والوسائل وإذا لم ينجح فلا ضير فكما قال لي أحد ابنائي عندما رسب في امتحان الباكالوريا بعد أن صرفت عليه مالا ممدودا، ”يا أبتي لا تحزن، فالعبرة بالمشاركة“ وكما تقول حكمة العصر ” تقرأ ما تقراش .... مستقبل ما فمّاش“. قالها وضحك أمّا أنا فقد أجهشت بالبكاء.
 لي ولكم الله يا أولياء ”تلاميذ تونس“، اصبروا ورابطوا ولا تفقدوا الأمل في مصير أبنائكم وأبناء أبنائكم . فقد تنفرج الكرب و يأتي الفرج ويتغيّر الحال بعد أن  تتفطن،إن شاء الله، حكومات ما بعد الثورة إلى معاناتكم فتعدّل الأشرعة وتوجه المركب نحو الطريق الصحيح... من يدري؟