شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
الشهيد الدكتور «علي شريعتي»
 نحيي في الثالث والعشرين من شهر نوفمبر من هذه السنة الذّكرى التاسعة والثّمانون لمولد المفكّر والكاتب والفيلسوف الإيراني الشّهيد علي شريعتي، الذي لقبه الشّعب الإيراني قبل سقوط الشّاه بـ «معلم الثّورة» التي تحقّقت بعد وفاته بعامين، وقد شكّل شريعتي حالة فريدة في إيران بل في الفكر الشّيعي العالمي، لخصوصيّة أفكاره التي بشّر بها وحاول بثّها في جيله إذ كان يرى مستقبل الإسلام خالياً من الملالي، وفي الوقت ذاته كان سدّاً منيعاً في وجه الأطروحات الغربيّة، مع إيمان كامل بقيم العدالة الاجتماعيّة. لذا لم يكن مستغرباً أن تكون هذه الشّخصية الجدليّة مستهدفة حتّى الآن بشتّى التّهم المتناقضة، فقد رُمي بالزّندقة والوهابيّة في نفس الوقت الذي اتهم فيه بأنّه «رافضي وماركسي»..
ولد علي محمد تقي شريعتي في الثالث والعشرين من نوفمبر 1933، في إحدى قرى مدينة مشهد بمحافظة خراسان، في أسرة متدينة، وكان والده محمد أحد أبرز الشخصيات المؤثّرة في شخصيته. وهويّته العلميّة والدينيّة «اللامنتمية» لمذهب. عاش سنّ المراهقة متعمقًا في كتب التّصوّف والفلسفة، قبل أن يأتي إعصار الحركة الوطنيّة التي كان يقودها «محمد مصدق»، لينقله إلى عالم السّياسة. وقد قال شريعتي في أحد كتبه عن تلك الفترة: «دفعتني ظروف معيشتي إلى أن أشيخ باكرًا في طفولتي». 
في عام 1952، أصبح مدرساً في الثانوية وأسس اتحاد الطّلبة المسلمين، وفي عام 1955 التحق بكلية الآداب بجامعة مشهد وتخرج منها بدرجة امتياز عام 1958. وقد عاش محنة السجن ستة أشهر قبل تخرجه. ثمّ غادر إيران ليواصل دراسته في باريس، حيث حصل على شهادتي دكتوراه؛ الأولى في تاريخ الإسلام والثّانية في علم الاجتماع من جامعة السّوربون.
في عام 1964، عاد الدكتور شريعتي إلى مسقط رأسه، حيث عُيّن مدرّساً بجامعة مشهد بعد أن اعتقل لفترة عقب إلقاء القبض عليه عند الحدود الإيرانيّة. تجسدت جرأة «شريعتي» في النأي بنفسه عن «النضال الآمن» خارج بلده مفضلاً محاربة نظام الشّاه في عقر داره من خلال حسينيّة الإرشاد التي أسّسها عام 1969 إلى جانب مجموعة من المفكّرين والمثقّفين المتنوّرين، مثل مرتضى مطهّري، وتمكن من خلالها من نشر أفكاره التّصحيحيّة عن الأفكار السّائدة عن الإسلام والتّشيّع في صفوف طلابه، حتّى وصلت إلى قطاعات واسعة من المجتمع الإيراني. ونتيجة لذلك، أقدمت سلطة الشاه على إقفال الحسينيّة عام 1973، وسجن شريعتي لمدّة 18 شهراً قبل أن يوضع تحت الإقامة الجبريّة لكنّه استطاع أن يغادر إيران نحو لندن في مارس 1977، وبعد شهر واحد قامت مخابرات الشاه بتصفيته حيث عُثر عليه ميتاً في شقّته.
لم تسمح السّلطة بدفن جثمانه في إيران، فنُقِل إلى دمشق حيث دفن في مقام السّيدة زينب، وصلّى عليه الإمام موسى الصدر، وأقام له احتفالاً تأبينياً في بيروت كلّفه سحب الجنسية الإيرانية منه.
كان «شريعتي» يائسا تماما من المؤسّسة الدّينية القائمة، لذا استهدف بناء شيء جديد تماما، فاستغل دراسته للفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم الأديان في فرنسا، واحتكاكه بحركات التّحرر العالميّة عامّة والجزائريّة بشكل خاصّ، لبناء نظريّته الخاصّة للدّين والسّياسة. وجعل شغله الشّاغل الإصلاح الدّيني أي تحرير الدّين وإخراجه من صومعة الانعزال وتنقيته ممّا علق به من تاريخ الظّلم والاستبداد، وجعله من جديد دين حياة يهدف إلى بناء الإنسان الرّاقي، وبناء مجتمع متوازن يقدّم للمجتمعات الأخرى مثلا يحتذى به، وهو ثورة اجتماعية تهدف إلى بناء مجتمع حرّ لا طبقي أساسه القسط والعدل، يحفل بالأشخاص الواعين الأحرار المتحمّلين لمسؤولية كونهم منتمين إلى أمّتهم. بالإضافة إلى ذلك سعى «شريعتي» إلى فكّ ارتباط الاسلام عن المذهبيّة بشقيّها الشّيعي الصّفوي والسنّي الأموي على حدّ تعبيره وتصفيته من الخرافات والبدع. وفي هذا يقول شريعتي في كتابه «الأمّة والإمامة»: «الإصلاح الديني حين نستخدمه مع الإسلام فلا يعني إصلاح الدين، بل هو ألصق بمعنى النهضة الإسلامية التي تجسد فاعليتها من طريق النضال ضد الخرافات والجمود والاستحمار والرجعية والتعصب الأعمى والمصلحية الطبقية والصنفية والنفي الحاسم لكل ما يطرح باسم الإسلام والتشيّع من: توجيه النظم الطبقية واستبدادية وتخدير الجماهير ومسخ العقل وحرية الفكر وواقعيته». 
يبني شريعتي أفكاره على مبدأ استخلاف اللّه للإنسان، وأنّ «قيمة الإنسان تكمن في قيمته للاختيار، وحريته في الاعتقاد واتخاذ القرار»، محذراً من «تحريك الأذهان إلى الجهل والغفلة، أو سوق الأذهان إلى الضلال. أو بشكل غير مباشر بإلهاء الأذهان بالحقوق الجزئيّة البسيطة اللاّفوريّة لتنشغل عن المطالبة أو التّفكير بالحقوق الأساسيّة والحياتيّة الكبيرة والفوريّة».
أمّا العبادة فتتّخذ عنده معنى مختلفا عمّا هو سائد، فهي ليست بمعنى أداء الوظائف الدّينية والأوراد اللّفظيّة كما هو شائع لدى المذاهب التّقليديّة، وإنّما هي السبيل لتنقية الإنسان وتحريره من الميول والأغراض الدّنيّة حتّى يصل إلى الإخلاص، وذلك عبر تحقيق الاتصال الوجودي المستمر باللّه. إنّ الصّلاة على سبيل المثال تجذب الإنسان عدّة مرّات من مستنقع الحياة الفرديّة والاقتصاديّة ليقف في مواجهة فرديّة أو جماعيّة مع اللّه، وهي بهذا تمنع الإنسان من التّردّي الكامل في حياة الفرديّة وعبادة الاستهلاك.
تتشابه أفكار «شريعتي» مع أفكار غيره من المفكرين داخل إيران وخارجها، لكن ما ميّز «شريعتي» عن غيره وأكسبه مكانته المرموقة أنّه لم يجعل أفكاره حبيسة الكتب، بل صدح بها لآلاف الطّلبة، ونقل علمه باحتكاك مجتمعي مباشر، وهو ما ضمن حياة أفكاره، واستخدامها، ونقلها من حيز التّجريد إلى ساحة الممارسة.