حكم وأحكام

بقلم
الهادي بريك
الحلقة السّادسة : مقام المرأة مفتاح سعادة أو شقاء
 كانت المرأة أيّام التّنزيل جزءا مهمّا من المعركة الحامية بين الإسلام والجاهليّة العربيّة. عنوان الإسلام هو التّحرير وخطامه المسؤوليّة. وعنوان تلك الجاهليّة هو التّشييء. ناهيك أنّها تورث متاعا رخيصا كما تورث بقرة. العجيب أنّ تلك المعركة الحامية متجدّدة اليوم بين الإسلام ذاته وبين الجاهليّة الغربيّة وأذنابها. عنوان الإسلام ظلّ هو هو. أي التّحرير المسؤول. وعنوان الجاهليّة الجديدة هو التّشييء ذاته. ولكن برداء مزدان برّاق خلاّب كذّاب. لو قلت أنّ أمّ الإسلام هي الحرّية المسؤولة وكلّ ما عداها تفاصيل وجزئيّات وفروع تدور في الفلك ذاته لترسيخه واللّه ما جانبت صوابا.
للذّكر مثل حظّ الأنثيين
ما وجدت أقسى من إهمال النّظر الموضوعيّ الجامع داء وبيلا ينخر العقل. هو السّرطان الذي يفتك بالإنسان كلّ الفتك. حتّى الذين إنبروا يدافعون ـ أو يشرحون ـ هذا التّعليم الإسلاميّ ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾(1) ظلّوا حبيسي هذا الموضع. إذ لم يتّسع أفقهم العقليّ لحدج خارطة الحياة كلّها طولا وعرضا وليروا مقام المرأة فيه. أكثرهم علّل هذا (الحيف) بقولهم أنّ الزّوج ينفق والزّوجة لا تنفق. حسابات مادّية كالحة. الجاهلية العربية ذاتها علّلت تشييئها المرأة أنّها لا تمتطي صهوة ركاب ولا تمتشق سيفا. لو حدج المرء تلك الخارطة بكلّ تضاريسها لوجد أنّ المرأة هي عماد الأسرة التي هي بدروها عماد المجتمع. هي أمّ تلك اللّبنة القاعدية المؤسّسة الأولى. وهي من يصنع الله في رحمها الإنسان الجديد. وهو من يغذوه بحنانها هي. وهو من يرضعه بلبنها هي وهو من يرعى ذلك الطّفل حتّى يشبّ بشآبيب فؤادها وشرايين مهجتها. لو حدث إنفصال فهي من تحضن الأسرة بمن فيها من بنين. هي الخزّان المعنويّ لتلك المؤسّسة العظمى، ولذلك وهبتها الشّريعة ذاتهـا ثلاثـة أربـاع الولايـة والبرّ والإحسـان، إذ قال ﷺ : «أمّك ثمّ أمّك ثمّ أمّك». نفثات الشّيطان الغربيّ السّامة لم يسلم منها أحد منّا أبدا، ولذلك يلجأ كثير من العلماء إلى التّأويل المادّيّ لتنصيف الإرث. نجح الغرب في تشييء حياتنا نجاحا كبيرا. من منّا اليوم يعدّ ما يغدق على الأمّ من ذلك الإحسان ـ الذي ليس منه لزوجها عدا الرّبع ـ أمرا مهمّا؟ 
إنطلقنا إنطلاقة خاطئة عنوانها أنّ الأسرة مؤسّسة ذات هدف ربحيّ، والحقيقة أنّها مؤسّسة ذات نفع عامّ. ولو ساد العدل لمتّعت بما تتمتّع به المؤسّسات ذات النّفع العامّ في حياتنا عفوا من أداء الضّرائب. عندما نعيد رسم مؤسّسة الأسرة في مقامها الصّحيح فإنّه لا يشكل علينا أن تنال المرأة نصف ما يناله الرّجل من المتاع. وذلك بسبب أنّها تنال أضعافه قدرا وقيمة وإعتبارا، إذ أنّها هي أمّ الأسرة التي هي أمّ المجتمع، الذي هو بدوره حافظ للقيم العليا.
بين القوامة والمثليّة
القرآن الكريم شفاء ككلّ شفاء، فإن عالج المرء به نفسه بمثل ما أمر صاحبه دون إنتقاء يجعله عضين فهو شفاء نافع إن شاء اللّه. وإن إستقام عليه كما يريد هو وليس كما يريد الطّبيب الذي أنزله فلن يشفى حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط. أصبنا بحول ونحن نتّخذ القرآن الكريم شفاء. إذ هفت نفوسنا إلى آية القوامة ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾(2) وأهملت آية المثليّة ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾(3). بل أضفنا إلى ما هفت إليه نفوسنا عورا آخر. إذ لم نقرأ علّة القوامة المذكورة في الآية ذاتها ﴿بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾(4). قوامة مسؤولة مكلفة ككلّ مسؤوليّة وعلّتها أفضليّة الرّجل على المرأة بكسب الإنفاق الذي لا مناص منه للأسرة. بل أضفنا إلى تلك الأثافيّ عيبا آخر، إذ قرأنا قوله ﴿ِبمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ﴾ بعقولنا وفق هذه الصّياغة «بما فضّل اللّه به الفحل على الأنثى». أجل. كثير منّا يقرأ بعينيه وليس بفؤاده. ولذلك قال ﷺ عن الخوارج «يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم». لو ردّدنا هذا التّفضيل إلى سياق آخر سابق قريب لعلمنا الحقّ ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ﴾(5). هو تفاضل وليس هو تفضيل أوّلا، وهو تفاضل متبادل متعاوض. وليس هو أحاديّ الإتّجاه كما نريد نحن تأويله تكلّفا وتعسّفا وتحكّما. أنظر كيف هفت نفوسنا إلى آية القوامة، ولكن بجهل مركّب شنيع. 
آية القوامة لا يستقيم معناها حتّى تتّصل بأختها، وهي آية المثليّة التي هي صريحة في إسناد الحقوق والواجبات للمرأة على قدم المساواة مع الرّجل. أسمّيها مثليّة إشتقاقا من الكلمة القرآنيّة (مثل). والمثليّة أبلغ من المسـاواة. ظاهر الجمــع بين الموضعين يبدو متعارضا. مواضع كثيرة من الكتاب العزيـز يبدو ظاهرها كذلك. ومن ذا دعــا اللّه إلى التّفقّه والتّدبّر وليس إلى التّلاوة الغافلة الباردة. هي إذن قوامـة أسّها المثليّــة وليس التّفاضل أحاديّ الإتّجاه. هي قوامة تكليف ومسؤوليّة. وكلّ مســؤول موقوف يوم القيامـة ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾(6). وهي قوامة بمقتضاها يحرس الرّجل الأسرة من خارجها وتحرسها المرأة من داخلها. أمّا قوامتنا نحن فهي ساقطة.
تنصيف الشّهادة
 لو إبتسرنا الآيات المتعلّقة بالمرأة والأسرة إجتزاء منزوع الدّسم السّياقيّ فإنّا سنضلّ إذ نجمع صورة غير صحيحة. ولذلك جاء النّظم القرآنيّ الكريم مبثوثا في ثنايا جنّات مزدانة تجري من تحتها أنهار الوعظ ترغيبا وترهيبا. وحلل التّعليل تكسو أوامره ونواهيه، ولو جاء مدوّنات قانونيّة جافّة لكان إبتساره سهلا. لو جمعت ما يتعلّق بالمرأة والأسرة دون مراعاة للسّياقات فإنّك ستجمع أنّ المرأة دونية لأنّها لا تقوم على أمرها وشهادتها دون شهادة الرّجل لأنّها كائن ناقص. وهي ترث نصفه كذلك. وربّما إرتددنا إلى ما إرتدّ إليه الأوروبيّون قبل عقود فحسب إذ نظروا فقدّروا أنّ المرأة غير ذات روح. 
لو عاجلت طالب العلم المثابر بأغلى نصيحة جنيتها في حياتي لما تردّدت في القول أنّها إعتماد الإستقراء الموضوعيّ للإسلام كلّه في مصدريه الأوّلين بصفة خاصّة، والصّبر على ذلك وتحليله. والإعراض بالكلّية عن القراءة الموضعيّة الجزئيّة لأنّها مظنّة ضلال. بل مهلكة ومحرقة عقل. موضع تنصيف الشّهادة في سورة البقرة هو أكثر موضع موجع في مقام المرأة. ذلك أنّ أكثر المسلمين اليوم ـ دون ريب عندي ـ يعتقدون أنّ المرأة دون الرّجل بسبب أنّ شهادتها هي نصف شهادته. مرّة أخرى نهمل العلّة التي أردفها اللّه سبحانه إذ قال ﴿أن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ﴾(7). حصيلتان كبريان من حصائل حياتي: سفينة النّجاة العقليّة مزدوجة التّركيب وذات جناحين. جناحها الأوّل (إستقراء موضوعيّ جامع لا موضعيّ جزئيّ) وجناحها الثّاني (أحكام الإسلام معلّلة مقصّدة مفهومة معقولة لا أحجيات أسطوريّة أو طلاسم مغلقة يحتكرها المنسوبون إلى الدّين والتديّن). هنا غفلنا عن علّة تنصيف الشّهادة فوقعنا في الجريمة العقليّة التي وزرها عند اللّه أشدّ من أوزار الجارحة أضعافا مضاعفة. السّياق العامّ لآية الدّين التي حوت هذا هو سياق إستجماع كلّ شروط حفظ أموال النّاس وأسباب تأمينها، وليست الكتابة والإشهاد والرّهان عدا وسائل وأسباب لذلك الحفظ والإستئمان. ومن نكباتنا القاتلة كذلك : إنزال الوسائل منازل مقاصدها، ولذلك جمّدنا على وسائل طواها الزّمن ظنّا منّا أنّنا (نطبّق السنّة)، والسنّة منّا براء. تنصيف الشّهادة إذن لا علاقة له بثمن المرأة أو سعرها. سعرها ورد آنفا في قوله سبحانه ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىٓ ءَادَمَ﴾(8) وفي قوله ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾(9). وغيرها من المواقع التّسعيريّة. ومقامها مع الرّجل حدّد كذلك في مواضع آنفـة ﴿وَلَهُنَّ مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ ﴾(10) وغيرها. 
المقام هنا هو مقام حفظ الحقوق الماليّة للنّاس. المرأة أيّام التّنزيل لم تكن تعافس الأموال والتّجارات والشّهادات لأسباب معلومة. وبسبب أنّ القرآن الكريم واقعيّ يعالج الأوضاع بيسر وتؤدة وتدرّج فإنّه جعل شهادتها في تلك الأيّام نصف شهادة الرّجل خشية أن يغشى عليها نسيانها الذي عبّر عنه هنا بالضّلال فتضيع حقوق النّاس. ومن ذا جمع إليها إمرأة مثلها. لو رأت إمرأة هلال شهر رمضان ألسنا نصوم؟ ألسنا نقبل شهادة كافرين في سورة المائدة ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾(11)؟ الكافر إذن أولى عند اللّه في حفظ الحقوق من المسلمة؟ العقل الذي يقبل هذا أولى له أن يرتدّ إلى مراغمات أخرى فيها يتعلّم أصول المنطق الصّحيح أوّلا. ألم تمنح أمّ هانئ مشركين حقّ اللّجوء في دولة محمّد ﷺ؟ ألم ينج اللّه سبحانه الأمّة كلّها في الحديبية بحصافة أمّ سلمة ورجحان رشدها؟ ألم ترو المرأة الحديث وإعتمد البخاريّ أمّ محمّد عضوا في سلاسله؟ ألم تبزّ عائشة حبر الأمّة في أزيد من أربع عشرة مسألة في فقه الدّين والحياة؟ ألم يولّ الفاروق إمرأة مسؤوليّة رئيسة السّوق المركزيّ بالعاصمة الإسلاميّة؟ ألم يأذن ﷺ لأمّ ورقة بإمامة أهل بيتها بل أهل حيّها لفرط فقهها؟ ألم تكن أوّل مؤمن (وليس مؤمنة) في الأرض إمرأة؟ ألم تكن أوّل شهيد (وليس شهيدة) إمرأة؟ ألم يجمع الأصحاب على إستئمان إمرأة على أوّل مصحف؟ ألم تقد عائشة حزبا سياسيّا عسكريّا معارضا لعليّ وخلفها أصحاب عظام؟ ألم تمتشق أسماء زمام المعارضة ضدّ سفّاح بني أميّة الثّقفيّ؟ ألم تغامر المرأة بنفسها مهاجرة سرّا من مكّة إلى المدينة وفيها نزلت سورة الممتحنة؟ ألم تمتشق الأسياف لبقر بطـون المشركين كما قالت أمّ عمــارة؟ ألم تخـرج من بيتها عاملــة وهـي معتـدّة لجذ نخـل وهـو بهـا ﷺ فـرح؟ هل عفت الحياة يوما في كلّ حقولها عن إمرأة تؤثّثها.
خلاصة
 يا حسرة علينا نحن متأخّرة المسلمين. تركنا وراء ظهورنا ماء غدقا يرقى بالعقل ويزكّي النّفس فكنّا عيسا يقتلها الظّمأ وتتسوّل نظمها القيمية على موائد الغرب الفاجر أحول النّظر وأعور الميزان. يا حسرة علينا إذ خضنا في أحكام الإسلام حتّى أشبع بعضنا بعضا رميا بالهرطقة والزّندقة وأهملنا حكمه ومصالحه فضللنا. 
يا حسرة علينا إذ عكفنا على قراءة موضعيّة جزئيّة فتمزّقت حياتنا بددا. يا حسرة علينا إذ عدنا بسرعة جنونيّة إلى الجاهليّة العربيّة في شأن المرأة والأسرة. آثرنا أن نرتدي جلابيب تلك الجاهليّة وأعرضنا عن لسانها القحّ الذي هو مفتاح حسن الفهم ودقّة الفقه وجماع الوعي. 
دعني أنصح طالب العلم المثابر بنصيحة ثالثة أخيرة هنا : لا نهضة إلاّ بإعادة المرأة والأسرة إلى مقامهما الأوّل الذي سطّره الإسلام وليس تاريخ الإسلام ولا تراث الإسلام. نصائح ثلاث عظمى : إستقراء موضوعيّ لا موضعيّ. وجمع للحكم مع حكمته وسياقه. والمرأة مفتاح سعادتنا إن أحسنّا تصوّر مقامها. وهي مفتاح شقائنا إن أحسنّا تشييئها بمثل تشييء الجاهلية العربية أو تشييء الجاهلية الغربية المعاصرة
الهوامش
(1) سورة النساء - الآية 11 
(2) سورة النساء - الآية 34 
(3) سورة البقرة - الآية 228 
(4) سورة النساء - الآية 34 
(5) سورة النساء - الآية 32 
(6) سورة الصافات - الآية 24 
(7) سورة البقرة - الآية 282 
(8) سورة الإسراء - الآية 70 
(9) سورة النساء - الآية 34 
(10) سورة البقرة - الآية 228 
(11) سورة المائدة - الآية 106