حوارات

بقلم
د.عزالدين عناية
حوار مع د. عزالدين عناية الأستاذ بجامعة روما
 س: لنبدأ معك بالتّخصص الدّقيق، عندما نريد استخراج شهادة ميلاد لعلم الأديان، لماذا يعترينا دائماً هذا الارتباك، ونواجه نفس علامات الاستفهام التّاريخيّة حول عصر الولادة وشهادة المنشأ، ونقع في حيرة بين القرن التّاسع عشر، وبين الأصول الأقدم منه بكثير وصولاً إلى الحضارات القديمة ؟ ماهي الأسباب؟ ومتى نتمكن من حسم هذا الأمر؟
علم الأديان هو علم حديث المنشأ يقع على التّخوم، كما يقول الفرنسي «ميشال مسلان»، بين علم الاجتماع الدّيني والأنثروبولوجيا الدّينيّة وعلم النّفس الدّيني والظّواهريّة الدّينيّة وعلم مقارنة الأديان وتاريخ الأديان والجغرافيا الدّينيّة وغيرها من المداخل ليؤسّس هويّة مستقلّة، وهذه علوم تطوّرت في الغرب وإسهامنا فيها ضئيل أو منعدم. فمنذ السّعي لإخراج دراسة الدّين من هيمنة العقل اللاّهوتي، سواء مع الألماني «ماكس مولر» في ما أطلق عليه «Religionswissenschaft»، أو مع الفرنسي «إميل لوي بيرنوف» في ما أطلق عليه «La Science des religions»، بدأ علم الأديان يصوغ هويّة مستقلة تهدف إلى دراسة المقدّس والفعل الدّيني من خارج الاعتقاد. فهذا العلم يقوم أساسا على معرفة اختباريّة للمقدّس، وعلى رصد للكائن المتديّن، من خلال تتبّع الخبرات الدّينيّة. ولو شئنا تعريفا مقتضبا لعلم الأديان، في مقابل علم اللاّهوت، لقلنا إنّ الأول يهتمّ بكلّ ما هو معتقَد من طرف البشر بقصد بلوغ الفهم الدّاخلي للمقدّس المعيش، في حين يهتمّ الثّاني بالإجابة عن سؤال: ما الواجب علينا الإيمان به؟ ولماذا ينبغي علينا الإيمان بذلك؟ ليس هناك تصادم أو تناقض بين المقارَبتين -كما أرى- وإنما هناك تكامل في الإحاطة بالرّأسمال القداسي.
وفي الثّقافة العربيّة لا زلنا نخلط بين علم اللاّهوت وعلم الأديان لندرة الأدبيّات في المجال وفي المباحث التي استند إليها علم الأديان، ولذلك تارة نطلق عليه علم مقارنة الأديان وأخرى تاريخ الأديان وهلمّ جرّا من التّسميات الخاطئة. وقد صدرت في البلاد العربيّة معنونات بهذا الاسم، أقصد علم الأديان، زادت النّاس بلبلة وخلطا، وهي ينطبق عليها اسم «كشكول الأديان» لا «علم الأديان» مثل كتاب العراقي خزعل الماجدي.
س: لديك عدد كبير يفوق العشرين من المراجعات، أن تراجع تراجم آخرين، أليست مسألة مليئة بالتّوتّر؟ ثمّة عمل اشتغل عليه غيرك بمفاهيمهم هم، وها أنت مكلّف الآن بالاشتغال عليه، هل المراجعة أكثر مشقّة من التّرجمة أم أنّك ترى العكس؟
بل قل الخمسين، جاءت المراجعة بالأساس ضمن الاشتغال داخل مشروع مؤسّساتي وهو مشروع كلمة للتّرجمة في أبوظبي. تابعت زهاء الخمسين عملا مترجما من الإيطاليّة في مشارب متنوّعة، استطاع المشروع أن يقدّم للقارئ العربي أعمالا إيطاليّة مهمّة في التّاريخ وعلم الاجتماع والرّواية وأدب النّاشئة وغيرها. ويأتي عمل المراجعة بالأساس لغرض تجويد العمل المترجَم واحترام القارئ العربي، لأنّ عديد دور النّشر العربيّة لا تراعي هذا العمل فهي دُور ربحيّة مستعجلة لا تفكّر في النّهوض الثّقافي أو في تطوير الوعي العربي، وهي محكومة أساسا بمعادلة العَجَلة في الوصول إلى السّوق.من جانبي حين أخوض مراجعة كتاب أفكّر بمهابة في ما سأقدّمه للقارئ العربي، لأنّي أقوم بالعمل وفق رقابة أخلاقيّة ذاتيّة وبصرامة علميّة في آن.
وأمّا بشأن التّرجمات التي أُنجزها فهي تدور حول الدّراسة العلميّة للظّواهر الدّينيّة والقضايا التّاريخيّة والمسائل الفكريّة. أحاول أن أبقى في هذا الحقل لأنّي أرتئي حاجة الثّقافة العربيّة الملحّة إليه. وبالنّظر إلى تكويني وانشغالي على مدى عقود أعي حاجة الثّقافة العربيّة في مجال دراسات الأديان، ولذلك أجدني مدفوعا للتّرجمة في حقل التّاريخ والسّوسيولوجيا والأنثروبولوجيا في كلّ ما له صلة بالظّواهر الدّينية، ناهيك عن أبحاثي التي أحاول نشرها من حين إلى آخر.
س: الترجمة تقع دائماً بين مفهومين، النّقل الحرفي، وإعادة صياغة النّص، كيف ترى التّرجمة المثاليّة وسط هذين المنهجين؟
التّرجمة المثلى تخصّصٌ وإبداعٌ، فما لم يتخصص المرء في مجال من المجالات، أدبية أو فلسفية أو سوسيولوجية أو غيرها فيصعب أن ينتج عملا جيّدا. والتّرجمة إبداعٌ، أقصد ما لم يكن المرء كاتبا مسبَقا فيصعب أن ينتج عملا مقدَّرا، ولذلك لا أومن أن يأتي المرء للتّرجمة من فراغ أو عدم، لأنّه يكون كحاطب ليل. وبناء على ذلك فالتّرجمة هي استضافة لنصّ في لغتين وما تقتضيه العمليّة من مراعاة أصول الضّيافة، أو بلغة أخرى التّرجمة هي إعادة تَبْيئة للنّص الأصلي في بيئة مغايرة ولغة مغايرة وما تقتضيه العمليّة من تشذيب وتهذيب وإلاّ أنتج المترجم مسخا. فعمليّة التّرجمة تقتضي من المترجم أن يتقمّص وعي الكاتب وروحه حتّى يعيد كتابة نصّه في لغة ثانية، ولذلك إن عازت المترجم القدير المفردات والمفاهيم والمصطحات في لغته يصنّعها وينحتها، على طريقة حنبعل الذي قال «إن لم نجد الحلول ننشئها».
س: في تاريخنا العربي، كانت الدّولة الأمويّة قد حرمت نفسها من إحراز قصب السّبق في موضوع التّرجمة لأنّ عصر التّدوين لم يبدأ في عهدها، ولكن من جهة أخرى، ألا ترى أنّ الدّولة العباسيّة التي تلافت هذا التّقصير قد قامت بتسييس التّرجمة؟ أم أنّها تهمة تمّ تلفيقها للعبّاسيّين فحسب؟
مع الدّولة العباسيّة بتنا نرى العالم وبتنا إحدى القوى العظمى في السّاحة الدّوليّة في ذلك العهد، وعلى صلة أعمق بالعالم، وهو ما دفع أسلافنا لخوض عمليّة التّرجمة بوصفها أداة معرفيّة استراتيجيّة في التّواصل مع العالم. وبالضّرورة كلّ استراتيجيّة معرفيّة تخوضها الدّولة هي عمليّة مسيَّسة ولذلك كان العرب ينتقون ما يُترجَم من اللّغات الأخرى. وقد كانت التّرجمة تستهدف تعزيز قدرات الذّات وإثراءها لا إدخال الارتباك. كما كانت التّرجمة براغماتيّة وليست من باب المزاح أو اللّهو الفكري. كان لدى العرب من التّعالي الرّوحي والوعي التّاريخي الدّيني ما يَسّر لهم التّعامل العميق مع فعل التّرجمة حتّى وإن أسقطوا أعمالا أو لم يترجموها فبوعي. ولذلك انشغل التّراجِمة الأوائل في الحضارة العربيّة بالأعمال العلميّة والعقليّة ونقلوها، وأهملوا الأعمال الأسطوريّة والعَقَديّة، التي عبّرت عنها ملاحم مثل «الإلياذة والأوديسة» في بلاد الإغريق أو «الشّاهنامة» للفردوسي في بلاد فارس. فقد أورد ستروهماير في «دائرة المعارف الإسلاميّة»، في معرض حديثه عن حُنين بن إسحاق أنّه كان يلجأ في ترجماته إلى إسقاط الحديث عن المعتقدات الوثنيّة والآلهة، وهو تقليد لم يبتكره الرّجل، وإنّما دأبَ عليه معاصروه.  
س: بطريقة أو بأخرى، هل يمكن اعتبار المترجم شريكاً في كتابة النّص؟ ينطوي هذا السّؤال على مخاطر كبيرة تتعلّق بمدى مشروعيّة استحواذ المترجم (المتمكّن) على النّص إلى حدّ أنّه قد يتجاوز الحدود فيمتلكه. كمترجم ذائع الصّيت، كيف ترى هذا الأمر؟
ليس بوسع المترجم بلوغ تلك الشّراكة إلاّ حين يقاسم الكاتب الأجنبي أفقه المعرفي والإبداعي، وما لم تحصل تلك الشّراكة يصعب الحديث عن ترجمة أمينة. كثير من المترجمين ينغمسون في ترجمة العمل الأجنبي بدون دراية بلغة الكاتب، أقصد فلسفته ورؤيته ومصطلحاته وصوره الإبداعيّة، وهذه هي متاهة التّرجمة في غالب الأحيان، فينتجون نصّا ميكانيكيّا شبيها بنصّ «غوغل المترجم». أُلحّ على التّرجمة الواعية حتّى لا نهدر وقتنا ومالنا وجهدنا في أعمال ضحلة لا تسهم في ترشيد نهضتنا المنشودة.
أنا بالأساس أترجم في مجاليْ العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة وأشتغل على مفاهيم وخطابات وتصورات، أحاول أن أجلبها إلى لغتي بلسان عربي مبين علّي أُدخل جديدا إلى ثقافتي أو أَبني تواصلا مع الآخر، على أمل إرساء خطاب معرفي تنويري علمي. فلدي إدراك بنقص ثقافتنا العربيّة في مجال الإحاطة بالحضارات الأخرى والتّمكّن من المعارف والمناهج الجديدة، أحاول التّنبيه إلى الأعمال الجيّدة في المجال حتّى نعزّز بها قدراتنا.
س: في أعمال كبيرة مثل «مئة عام من العزلة» لماركيز، أو «العطر» لزوكسيند، وخلاف ذلك، نبحث أولاً عن اسم المترجم قبل أن نقرأ العمل، ألا ترى أن هذا ليس خبراً جيداً للمؤلفين؟
أتحدث عن الواقع الثّقافي الذي أعرفه جيّدا أقصد ما له صلة بالتّرجمة بين العربيّة والإيطاليّة. في السّنوات الأخيرة صرنا نترجم من الإيطاليّة مباشرة بعد أن كانت التّرجمة السّائدة تعوّل على لغة وسيطة. صار لدينا مترجمون من الإيطاليّة إلى العربيّة مقتدرون مثلا في الأدب نجد معاوية عبد المجيد وناصر إسماعيل وأماني فوزي حبشي وشيرين حيدر وأحمد الصمعي والراحل عدنان علي (أسكنه اللّه فراديس جنانه) وآخرين، وفي المجالات الأخرى بدأنا نخطو خطوات مع عماد البغدادي وحسين محمود وعزالدين عناية وغيرهم. لكن في هذا التّطوّر الحاصل في التّرجمة من الإيطاليّة تبقى العقبة الأساسيّة في غياب المترجم الحامل لمشروع أدبي أو فلسفي أو تاريخي أو ما شابهه. وأمّا بشأن من يترجمون إلى الإيطاليّة فلعلّ الخارطة أوسع نجد وسيم دهمش وماريا أفينو ومونيكا روكو وفرانشيسكو ليجو، ولكنّ السّلبيّة من الجانب الإيطالي تبقى في انحصار التّرجمة في عالم الرّواية. فليس لدينا في إيطاليا مترجمون يشتغلون على نقل الفلسفة أو الفكر أو ما شابه ذلك، ولذلك لا يعرف القارئ الإيطالي إلاّ النّزر القليل عما يُكتب في المغرب أو تونس أو ليبيا أو مصر أو العراق خارج ما هو روائي.
س: أنت الآن أستاذ في جامعتيْ روما لاسابيينسا والأورينتالي في نابولي. وقبل ذلك كنت قد تحصّلت على الدكتوراه من جامعة الزّيتونة في تونس، هل هي مغامرة ممتعة أن تختلف بيئة التّكوين العلمي عن بيئة الممارسة العمليّة؟
في الواقع تكويني العلمي موزّع بين الزّيتونة والجامعة الغريغوريّة في روما، وهو ما جعلني أعيش على وقع مقارنة وموازنة دائمتين بين ثقافتين ومنهجين. فالزّيتونة كسائر الجامعات الدّينية الكبرى في البلاد العربيّة، القرويين والنّجف والأزهر، تعاني انغلاقا إبستيمولوجيّا وتعيش اغترابا معرفيّا وتعوزها النّباهة الحضاريّة في التّاريخ الرّاهن. وقد كان تخصّصي المبكّر في دراسات الأديان في تونس، والانشغال بالظّواهر الدّينيّة ضمن أفق عالمي دافعاً لي للوعي بوهن القدرات العربيّة في المجال، ولذلك قرّرت الرّحيل نحو الغرب عن وعي وإدراك ومع ذلك بقيت مهووسا بقضايا الثّقافة العربيّة. 
س: كمترجم، هل تفضل ترجمة مقالة أو كتاب عن لغة وسيطة؟ كتاب باللاّتينية مثلاً تُرجم إلى الأنجليزيّة ثمّ تنقله إلى العربيّة. ألا يبتعد المشوار بالقيمة والمعنى والثّقافة للنّصّ المكتوب إذا ما قطع كلّ هذه المسافة؟
تفرض الضّرورة أحيانا اعتماد اللّغة الوسيطة في التّرجمة رغم ما في ذلك من مزالق، ولكن أنصح بتجنّب ذلك التّمشي في حال توفّر النّصّ والمترجم. وقد سبق لي أن ترجمت مؤلّفا إنجليزيّا إلى العربيّة عبر وساطة اللّغة الإيطاليّة لأنّ النّصّ الأصلي ما كان متوفّرا لديّ وهو كتاب «السّوق الدّينيّة في الغرب».
س: التّرجمة، من وظيفة في خدمة السّلطان، إلى حركة نهضويّة لها أبعادها الثّقافيّة والتّاريخيّة، كيف تراها الآن في زمننا العربي الذي نعيشه، هل هي بخير؟ أين مكاننا في طابور التّرجمة العالمي؟
المترجم نوعان أحدهما متكسّب مأجور والآخر باحث عن معانقة أفق معرفي مغاير بقصد محاورته أو امتلاكه بهدف إثراء الذّات. وفي الجانب الأول هو موجَّه ومكلَّف ولا عيب في ذلك. ولا أقول إنّ «خدمة السّلطان» دائما خاطئة لأنّ هذه من الأوهام التي جرت على ألسنتنا، ففي عمل التّرجمة نخدم ثقافة ولا نخدم فردا. ومن السّفه القول إنّ مشاريع التّرجمة الحقيقيّة تنتج خارج إرادة السّلطان والحاكم، ولذلك أومن أنّ مشاريع الدّولة في التّرجمة هي المشاريع المؤثّرة والفاعلة وفي غيابها تبقى التّرجمة محدودة الأثر. وتكون التّرجمة إسهاما في الحركة النّهضويّة حين تسكن المترجم رؤية وفلسفة، وحين يسأل نفسه بشكل دوري لِم أترجم؟ من جانبي يدفعني حرصي على تطوير الدّراسات العلميّة للأديان وتوسيع الأفق المعرفي للدّارس الدّيني في حضارتي أن أترجم في ما له صلة بالظّواهر الدّينيّة وبمناهج العلوم الدّينيّة، ولا أجد غضاضة إن كُلّفت من أيّ كان بهذه المهمّة، ولكن أرفض ترجمة ما يسيء إلى حضارتي أو ينتهك حقّ المحرومين والمقهورين.
س: في تراجمك التي تنشرها مجلة اللّيبي، ثمّة نزعة إلى تعريفنا كمحلّيين بالآخر، أشعر وأنا أقرأ لك أنّك لا تترجم فقط، أنت أيضاً تنشر رسالة نصّها عندنا ومغزاها عندك، هل أنا محقّ في ذلك؟
أرى أنّنا كعرب نحن رومانسيون في نظرتنا إلى الغرب وإلى الغربي، نفتقر إلى الواقعيّة والتّقييم الصّائبين، ولذلك أحاول الخروج من مقام الوله إلى مقام العلم. وانشغالي بإيطاليا تحديدا يأتي من الإهمال لهذه البوّابة المهمّة في التّعاطي مع الفكر الغربي في ثقافتنا العربيّة المعاصرة، أحاول من جانبي ردم هذه الهوّة من خلال خلق تشابك قائم على أساس التّثاقف والمراجعة والنّقد.
س: في برقة شرق ليبيا، وفي مدينة أسّسها الاغريق قديماً في عام 361 ق.م، توجد مكتبة تحوي آلاف الكتب التّاريخيّة الثّمينة التي كتبت بمختلف اللّغات، الألمانيّة، اللاّتينيّة، الاغريقيّة، الانجليزيّة، وبطبيعة الحال، الايطاليّة، هل أنت على استعداد للموافقة لو تمّ تكليفك مع نخبة تختارها من المترجمين بنقل هذه الأثار الثّمينة إلى العربيّة؟ وهل شاركت من قبل في عملٍ كهذا؟
أشتغل ضمن عدّة فرق بحثيّة ودراسيّة وترجميّة تصبّ في تطوير فكرنا العربي، لأنّي أرى أنّها أكثر جدوى من العمل الفردي في زمن بات فيه إنتاج المعرفة وحضورها عملا مؤسّساتيّا جماعيّا.وليبيا عزيزة على القلب وكلّما دعتنا إلى الخدمة لبّينا.
س: تحدّثت في إحدى حواراتك عن «لاهوت التّحرير»، هل تعتقد أنّه يمكن الاستفادة من هذا الحراك التّاريخي المهمّ في انحيازه للفقراء، في تغيير الكثير من الأوضاع المتردّية في منطقتنا العربيّة؟
لاهوت التّحرير في نسخته الأمريكيّة اللاّتينيّة الأصليّة انتهى، لأنّ التّاريخ والواقع تغيّرا، وإن أبى البعض هذا التّشخيص. فالفقراء والمحرومون والمستضعَفون قبل لاهوت التّحرير وبعده باقون، ولذلك وجب تغيير استراتيجيّات النّضال وأدواته. ولعلّ الرّهان اليوم هو في بناء لاهوت علمي نقدي لتنوير العقول. إنّ التّحالف بين اللاّهوت والطّرح اليساري ما عاد مجديا اليوم وما عاد مؤثّرا، ومن العبث الرّهان على الميّت في تغيير الحيّ. الدّين اليوم في حاجة إلى أفق إيماني جديد، وفي حاجة إلى روح خُلقيّة جديدة تواكب التّحوّل العولمي الحاصل وتواكب التّواصل المكثّف الجاري.أنا ضد استنساخ التّجارب ونقلها لأنّ لكلّ واقع أوضاعه وشروطه للتّغيير.
س: لا أحد يمكنه الإنكار أن المَجامِع المسكونيّة الكاثوليكيّة التي عُقدت على مدى 1700 سنة. بداية من مجمع «نيقية»، وحتّى مجمع الفاتيكان الثّاني، قد ساهمت في إعادة تأهيل الفكر الدّيني المسيحي ليواكب تطوّرات العصر حتّى لا يكون عائقاً أمام النّهضة الغربيّة بأيّ شكلٍ من الأشكال، ماذا عن مؤسّساتنا نحن؟ هل يبدو الأمر شائكاً وفي منتهى الصّعوبة؟
لا أرى أنّ المجامع المسكونيّة كلّها قد قامت بدور إيجابي، فكثير منها لعب دور العائق في المسار البشري، وحتّى أهلها يقرّون بذلك. كان مجمع ترنتو، أو كما يسمى المجمع التّريندي، الذي افتتح أشغاله البابا بولس الثّالث خلال العام 1545م واستمر إلى العام 1563، هو من أنتج ما يُعرف بالإصلاح المضاد لمجابهة حركة الإصلاح، وهو ما أنتج لاحقا قرارات «الصِّلابو» الفاضحة في تاريخ علاقة الكنيسة بالحداثة. وحتّى المجمع الأخير مجمع الفاتيكان الثّاني (1962-1965) فقد اعترته أزمة وبات اليوم مطروحا ضرورة القيام بـ «الأجورنامينتو» وعقد مجمع جديد على أنقاضه كما نادى به مفكّرون ولاهوتيّون كبار مثل جانفرانكو سفيدركوسكي والرّاحل هانس كونغ. المسألة في الغرب أنّ المؤسّسة الدّينيّة تتقبّل الإقرار بنسبيّتها، ولديها من الحسّ بما يجري حولها ولذلك هي تحاول توظيف القدرات العلمانيّة والدّينيّة على حدّ سواء للخروج من أزمتها. نحن من جانبنا نعيش أزمة ثقة بين المتديّن وغير المتديّن، بين العلماني والإيماني، في السّياسة والثّقافة والبحث، نفتقر إلى حوار بنّاء وهادئ. يصعب أن ينصت العلماني للإيماني لدينا والعكس أيضا وذلك بعض من محنتنا.
س: الترجمة هي عمل فردي، ولكن، ماذا لو تحوّل فجأة أو بتخطيط مسبق، إلى عملٍ مؤسّساتي؟ هل ستشعر نحوه بنفس درجة الثّقة وتتعامل معه بأريحيّة؟
المترجم في البلاد العربيّة يحتاج إلى مَأْسَسة ترسم له الطّريق وتخرجه من حالة الخمول والتّيه، ولذلك  تبحث التّرجمة في البلاد العربيّة عن رجّة. في واقع الأمر يتطلب عمل التّرجمة سنداً من الدّولة، وهذا لا يتوفّر في الرّاهن الحالي سوى لمؤسّستين أو ثلاث في الوطن العربي. لدينا جيش هائل من المترجمين هم معطَّلون أو مستنزَفون من سماسرة التّرجمة، ولهذا لا بدّ من تحرير التّرجمة من بَقّالات النّشر (أقصد دور النّشر) ومن سماسرة الثّقافة. ثمّة مؤسّسات ترجمة عربيّة بالكاد تنتج عملا وحيدا في السّنة، وأخرى موصدة الأبواب، والحالة واضحة في بلاد المغرب الكبير، وهذا عائد لفقدان الدّعم المالي والخطّة الواضحة؛ وثمّة مؤسّسات أخرى نشيطة وواعية بما تفعل ومدركة لما تنتج ومراعية لحقّ المترجم وهذا متوفّر في بلدان الخليج العربي مع «مشروع كلمة الإماراتي» و«عالم المعرفة الكويتي».
س: 270 مليون، هم العرب، لا يترجمون سنوياً أكثر من 475 كتاب، فيما تترجم إسبانيا وحدها في كلّ سنة 10 آلاف كتاب. هل تقتنع بهذه الأرقام؟ ولماذا نبتعد؟ أنت مقيم في ايطاليا، ولاشكّ أنّك تعرف ما يترجم فيها سنويّاً، هل نحن متخلّفون في هذه النّاحية؟ وما هو الحلّ؟
بحقّ، الأرقام مرعبة وهذا ينبغي ألاّ يبعث فينا الإحباط واليأس، ولديّ متابعة لصيقة لذلك بين العربيّة والإيطاليّة، فنحن والطّليان، لم نترجم ما يتجاوز الألف كتاب وهذا قليل بين لغتين وحضارتين عريقتين. الإشكال يكمن في أنّ التّرجمة إمكانيّات وتسويق وتمويل ونحن من جانبنا العربي لم ندخل هذا الطور ولم نخض هذا الاستثمار. ما زلنا نتعامل مع التّرجمة كهامش في بنية ثقافتنا وهو خطأ، والحال أنّ كلّ انفتاح وكلّ تحوّل ثقافي بنيوي مدعو إلى تنشيط هذا المجال.
س: تهتم كثيراً بما يكتبه الآخر عنّا، مثلاً  ما كتبه «ديل بوكا» عن ليبيا، وما كتبه «ستيفانو ماريا توريللي» عن تونس، هم يقرأون جيداً كتابهم ويعرفون الكثير حتّى الذي لا نعرفه نحن عنّا، ولكن، كيف تفسّر تجاهلنا نحن لكلّ ما يتعلّق بالآخر، هل دخلنا بالفعل مرحلة انغلاق جديدة قد تطول هذه المرّة؟
بفعل اشتغالي في مؤسّسة جامعيّة، ومتابعتي للأبحاث الأكاديميّة والدّراسات العلميّة التي تُنتَج حول العالم العربي، فضلا عن إلمامي بخريطة المثقّفين الإيطاليّين المعنيّين بالحضارة العربيّة ودين الإسلام، أعرف عن قرب ما ينتجونه حول الحضارة العربيّة الإسلاميّة وحول البلدان العربيّة تحديدا. هناك أعمال جيّدة تتطلّب المناقشة والتّواصل مع منتجيها وثمّة حاجة إلى ترجمتها، ولكن أشعر أنّ الثّقافة العربيّة غافلة عن ذلك. ثقل المهمّة يجعلني خُلقيّا معنيّا ولو بردّ خبر عن ذلك وترجمة ما تيسّر من ذلك. ثمّة حشود واسعة من المفكّرين والكتاب والأدباء الإيطاليّين يشتغلون على الثّقافة العربيّة وعلى الأوضاع العربيّة، ولكنّهم يقعون خارج اهتمامنا بفعل قلّة الملمّين باللّسان الإيطالي في البلاد العربيّة وبفعل ندرة المتابعين لِما يعتمل في إيطاليا. بلاد المغرب الكبير الأقرب إلى إيطاليا تاريخيّا وواقعيّا تجهل ما تنتجه إيطاليا نحو حضارتنا وهذا تقصير كبير منّا. كم يترجم المغاربيّون من اللّغة الإيطاليّة سنويّا؟ أكاد أقول لا شيء وهذا فضيحة معرفيّة، هناك مؤلّفات تصدر باستمرار حول ليبيا وتونس والجزائر لا نولّيها أي اهتمام وهذا لا يحدث في ثقافات أخرى. يبدو مثقّفو المنطقة غرقى في خمول لا ينتهي. جامعيّونا يتدافعون على التّرقي في السلّم الوظيفي ولا يعنيهم من تطوير قدراتنا المعرفيّة شيئا وهي بحقّ خيانة صامتة لثقافة جريحة.