فواصل

بقلم
د.مصدق الجليدي
تجديد الرّؤية لآداب التعلم وأخلاق التّعليم: العلاقة التربوية الأصيلة في إطار البنائية الاستخلافية (2
 ثانيا- العلاقة التربويّة في التّربية الأصيلة التّقليديّة
لم تكن العلاقة التّربويّة تطرح إشكالا علائقيّا، بالمعنى الحديث للعبارة، أي لم يكن ينظر إليها من زاوية تفاعليّة تبادليّة، وإنّما قد تكون طارحة لإشكال أخلاقي سلوكي. وذلك لأنّ الطّرف الوحيد الذي يُسأل ويُساءل في العلاقة التّربويّة قديما هو التّلميذ. فإذا كان سلوكه غير مرضيّ أو منحرفا فهو المسؤول عنه وربّما يسأل عنه والداه، ولكن لا يمكن أبدا أن تتوجّه الأنظار أو أن يتوجّه اللّوم في ذلك لمعلمه الذي قد يكون قاسيا معه أو محتقرا أو متجاهلا له. الطّفل في المتخيّل الجمعي القديم «شيطان صغير»، ولذلك كثيرا ما ينهاه الكبار عن «التّشيطن» («يزّي من الشِيطْنة»). والفتاة بذرة شيطانيّة («زريّعة إبليس»).
ولذا لا تترتّب على العلاقة التّربويّة قديما التزامات بيداغوجيّة من طرف المعلم. العصا بأطوالها المختلفة، كما يصفها أبو الحسن القابسي، هي البيداغوجيا السيّدة والسائدة. 
وقد انتقد ابن خلدون بشدّة التّعليم التّلقيني enseignement verbal الماحي لشخصيّة المتعلّم، ودعا إلى حثّ المتعلّمين على المشاركة في بناء المعارف من خلال وضعيّات المحاورة والمناظرة، وهي التي يعبّر عنها الآن بوضعيّات التّفاعل أو الصّراع المعرفي الاجتماعي(1). يقول ابن خلدون في هذا الشّأن منطلقا من مشاهداته لأحوال التّعليم في زمانه بأقطار المغرب والأندلس خاصّة «وبقيت فاس وسائر أقطار المغرب خلوّا من حسن التّعليم من لدن انقراض تعليم قرطبة والقيروان، ولم يتصل سند التّعليم فيهم فعسر عليهم حصول الملكة والحذق في العلوم. وأيسر طرق هذه الملكة فتق اللّسان بالمحاورة والمناظرة(2) في المسائل العلميّة، فهو الذي يقرّب شأنها ويحصل مرامها، فتجد الطّالب منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلميّة سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة، فلا يحصّلون على طائل من ملكة التّصرف [القدرة على نقل أثر التّعلم، في المفهوم المعاصر] في العلم والتّعليم»(3).
وإذا كان ابن خلدون لمجرّد التّلقين والحفظ من المنتقدين فهو للتّربية التّعسفيّة المتجاهلة لدافعيّة المتعلّمين أنقدُ، ذلك أنّ «إرهاف الحدّ في التّعليم مضرّ بالمتعلّم سيّما في أصاغر الولد لأنّه من سوء الملكة، ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلّمين... سطا به القهر وضيّق على النّفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحُمِل على الكذب والخبث وهو التّظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا، وفسدت معاني الإنسانيّة التي له من حيث الاجتماع والتمرّن وهي الحميّة والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالا على غيره في ذلك، بل وكسلت النّفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السّافلين»(4).
وتربية العسف التي انتقدها ابن خلدون استمرت بعده في المدارس والمعاهد الإسلاميّة لقرون. فهذا الشّيخ محمد الخضر حسين مثلا يروي في كتابه «الرّحلات»(باب تعليم الصّبيان) ما شاهده في درس أحد الشّيوخ التّقليديين، فيقول مستنكرا: «ذهبت إلى الجامع الأزهر لأذان العصر، وانتدبت للتّحية مكانا بين مجمعين لتعليم القرآن، فانشق صدري أسفا لأحد المعلّمين، إذ كان لا يضع العصا من يده، ولا يفتر أن يقرع بها جنوب الأطفال وظهورهم بما ملكت يده من القوّة، وربّما قفز الصّبي آبقا من وجع الضّرب الذي لا يستطيع له صبرا، فيثب في أثره بخطوات سريعة ويجلده بالمقرعة جلدا قاسيا، حتّى قلت لأزهري كان بجانبي: «من جلس إزاء هذه المزعجات فقد ظلم نفسه». وذكرتُ أنّي ألقيت خطبة في أدب تعليم الصّبيان ببلدة بنزرت حالما كنت قاضيا بها، وأدرجت فيها ما قرّره صاحب المدخل من الرّفق بالصّبي، وعدم زيادة المعلّم إن اضطرّ إلى ضربه ثلاثة أسواط، وتحذيره من اتخاذ آلة للضّرب مثل عصا اللّوز اليابس والفلقة. ولمّا خطبت في هذه الآداب، أرسل لي بعض المعلّمين كتابا عن طريق البريد يعترض فيه على نشر هذه الآداب، ويقول أنّ هذا ممّا ينبّه قلوب التّلاميذ للجسارة علينا»(5). 
غير أنّ الشّيخ الخضر حسين لا يذهب في معاملة الصّبيان مذهب من يُفْرِط في التّساهل مع الصّبيان-كما ذهبت إلى ذلك مثلا مدرسة سومرهيل الحديثة التي لم تثبت نجاعتها في تكوين الأطفال لإطلاقها الحبل على الغارب في معاملتهم- وإنّما يوصي بالتزام منهج وسط بين الرّأفة المفرطة والشدّة المفرطة، وهو منهج المحبّة المخلصة مع الحزم والجدّ. يقول الشّيخ في «السّعادة العظمى»: «لا نريد بكراهة هذه الرّأفة المفرطة أن تُفْتَكَّ من الصّبي سائرُ إرادته، ويُسلب منه جميع عزائمُه، كما يفعله الجاهلون بأساليب الإصلاح والتّهذيب؛ إنّ ذلك ممّا يحول بينه وبين عزّة النّفس، وما يتبعها من قوّة الجأش، وأصالة الرّأي، والإقدام على إرسال كلمة الحقّ عندما يقتضيها المقام؛ فيكون ألعوبة بيد معاشريه كالكرة المطروحة يتلقفونه رجلاً رجلاً، أو آلة يستعملونها فيما يشتهون»(6).
وذكر الشّيخ الطّاهر ابن عاشور أنّ من بين أسباب تأخّر التّعليم والنّظر في الإصلاح «سلب العلوم والتّعليم حرّية النّقد الصّحيح في المرتبة العالية وما يقرب منها. وهذا خلل بالمقصد من التّعليم وهو ايصال العقول إلى درجة الابتكار، ومعنى الابتكار أن يصير الفكر متهيّئا لأن يبتكر المسائل ويوسع المعلومات كما ابتكرها الذين من قبله، فيتقدّم العلم وأساليبه، ولا يكون ذلك إلّا بإحداث قوّة حاكمة في الفكر تميّز الصّحيح من العليل ممّا يلقى إليه»(7).
ونظرا لوجود مثل هذه الإخلالات بكثرة في تاريخ التّربية الأصيلة، فقد أفرد لها عدد من علماء المسلمين وتربوييهم كتبا وفصولا لمعالجتها، ويمكن وضعها عموما تحت عنوان جامع هو «آداب المعلّم وسياسة المتعلّمين».
 ويُقصد بالسّياسة القيادة، وحُسن تدبير الأمور في مختلف شؤون الحياة. وتأتي بمعنى القدرة على التّعامل، أو التّرويض. وقد استخدم العالم ابن الجزار القيرواني (المتوفى سنة 369 ﻫ) مصطلح السّياسة بمعنى التّربية في كتابه «سياسة الصّبيان وتدبيرهم»، كما استخدمه الشّيخ الرّئيس ابن سينا (المتوفى سنة 428 ﻫ) في كتابه «السّياسة». والسّياسة عند الغزالي على أربعة أضرب: سياسة الأنبياء وسياسة الخلفاء، وسياسة العلماء، وسياسة الوعاظ والفقهاء. وأشرف هذه السّياسات بعد النّبوة إفادة العلم وتهذيب نفوس النّاس(8).
وكلمتا «تدبير وسياسة» لهما عند ابن الجزار (ت. 369ﻫ) معنى طبّي يفيد حفظ الصّحة وضبط طرق العلاج. ولكن ابن الجزار يخصّص مع ذلك الفصل الثّاني والعشرين من كتابه «سياسة الصّبيان وتدبيرهم» المعنون «في الأمر بتأديب الأطفال» ليقدّم معنى آخر لسياسة الصّبيان، وهو تأديبهم بحسب طبائعهم التي نشؤوا عليها. فيوصي ابن الجزار بتأديب الصّبيان وهم صغار، «لأنّهم ليس لهم عزيمة تصرفهم لما يؤمرون به من المذاهب الجميلة والأفعال الحميدة والطّرائق المثلى، إذا لم تغلب عليهم بعد عادة رديئة تمنعهم من اتباع ما يراد بهم من ذلك»(9). ويرى ابن الجزار أنّ هذا التّأديب يمكن أن يكون بالتّرغيب كما يمكن أن يكون باللّين كما يمكن أن يكون بقدر من الشّدّة. وذلك بحسب طبيعة كلّ طفل.
ويُعدّ كتاب «آداب المعلمين» لمحمد بن سُحنون القيروانيّ المالكيّ (ت. 256ﻫ)، من أوائل ما أُفرد في أبواب التّربية والتّعليم بصفة عامّة وفي آداب المعلّمين بصفة خاصّة. وهو عبارة عن أحاديث وآثار مسندة، ومسائل في أبواب التّربية والتّعليم، ولقد أتى على كثير من المسائل المتعلّقة بالمعلّمين، وما يجب عليهم من آداب نحو تعليم الصّبيان وتأديبهم. وهذه الآداب يتناولها ابن سحنون من زاوية دينيّة وشرعيّة(10)، فهو يقدّمها لنا بعبارات «ما يجوز للمعلّم شرعا» و«ما لا يجوز».
 وقد سار القابسي (ت.403 ﻫ) في «الرّسالة المفصلة لأحوال المتعلّمين وأحكام المعلّمين والمتعلّمين» على نفس نهج ابن سحنون، ولم يزد عليه كثيرا في باب آداب المعلّمين. 
أمّا بعد ابن سحنون والقابسي، فقد اتبع المؤلّفون التّربويون نهجا جديدا في تقديم آداب المعلّمين، وهو يمتاز بتبويبها في ثلاثة أبواب: آداب المعلم في نفسه، آدابه في الدّرس، وآدابه مع طلابه.
 ولعل ابن جماعة الذي جاء بعد القابسي بأكثر من قرنين (ت. 733 ﻫ) هو أوّل من فعل ذلك في كتابه «تذكرة السّامع». وقد تبعه في ذلك زين الدين بن أحمد (ق. 10ﻫ/ 16م) في كتابه «منية المريد في آداب المفيد والمستفيد»(11). وما يهمّنا في سياق هذا البحث هو النّوع الأخير من آداب المعلّم وهو آدابه مع طلابه. 
وآداب المعلم مع طلابه هي أسلوب سياسته لهم، ومن أهمها:
أ- التّرغيب في العلم وحمله، وإقناع الطّالب بالزّهد في ثروات الدّنيا وأعراضها. 
ب- منح الطّالب الحقّ في الخطإ والنّسيان، وعدم إهانته لأجل ذلك. 
ج- مراعاة القدرات الذّهنيّة للمتعلّم وتيسير التّعلّم على الرّاغب فيه. 
د- العدل في معاملة الطّلاب.
ﻫ- التّدرّج في العقوبة لمسيء الأدب، من التّعريض بالنّهي سرّا أو جهرا، وصولا إلى الطّرد. 
و- مساعدة الطّلاب مادّيا ومعنويّا بحسب الاقتدار، وتفقّدهم في منازلهم إذا اقتضى الأمر ذلك.
ز- التّواضع مع الطّلاب، ومخاطبتهم بالكنى وبالأسماء التي يحبونها.
وقد كتب عبد الكريم بن محمد السّمعاني  (ت. 562ﻫ) كتابا سماه «أدب الإملاء والاستملاء»، وخصّص فصله الثّاني لموضوع «أدب المملي»(12). وقد احتوى على طائفة من الآداب التّعليميّة التي سبق ذكرها.
الهوامش
 V(4) V. par exemple, Jonnaert, Ph., Conflits de savoir et didactique, De Bœck Université, 1988
(2) التسطير للإبراز من الباحث.
(3) ابن خلدون، ابن خلدون، المقدمة، ج 2 الدار التونسية للنشر، فصل في أنّ تعليم العلم من جملة الصّنائع، 1984، ص.523-524.
(4) المصدر السابق، فصل في أنّ الشّدّة على المتعلّمين مضرّة بهم، ص.703-704.
(5) الخضر حسين، الرحلات، جمع وتحقيق علي الرضا التونسي، المطبعة التعاونية بدمشق، 1976م، باب تعليم الصبيان، ص.51.
(6) الخضر حسين، السعادة العظمى، عدد7 - غرة ربيع الثاني 1322 المجلد الأول، ص.99.
(7) ابن عاشور، محمد الطاهر، أليس الصبح بقريب؟، تونس: طبع ونشر المصرف التونسي للطباعة، 1967، ص. 125.
(8) الغزالي، ميزان العمل، طبعة علي بوملحم، دار ومكتبة الهلال، ببيروت، 1995، ص 88.
(9) ابن الجزار، سياسة الصبيان وتدبيرهم، تحقيق وتقديم محمد الحبيب الهيلة، بيت الحكمة، تونس، 2009، الفصل الثاني والعشرين «في الأمر بتأديب الأطفال»، ص. 140.
(10) انظر ابن سحنون، محمد، آداب المعلمين، نشرة الأهواني في: التربية في الإسلام، ص. 335 - 368، نشرة حسن حسني عبد الوهاب، تونس، 1931.
(11) ابن أحمد، زين الدين، منية المريد في آداب المفيد والمستفيد، تحليل وتحقيق د. عبد الأمير شمس الدين، موسوعة الفكر التربوي الإسلامي، الشركة العالمية للكتاب، 1983.
(12) السمعاني، عبد الكريم بن محمد، أدب الإملاء والاستملاء، تحليل وتحقيق د. عبد الأمير شمس الدين، موسوعة الفكر التربوي الإسلامي، الشركة العالمية للكتاب، د.ت، ص. 87- 104.