في العمق

بقلم
د.محرز الدريسي
العنف المدرسي: تمثّلات التّلاميذ ومدخل الجودة التّربويّة (1)
 مقدمة: 
لا ينفصل الحديث عن أزمة المدرسة والتّعليم والتّربية عن بروز ظواهر العنف المادّي واللّفظي في الوسط المدرسي، وتعرّض التّلاميذ/ المراهقين إلى أشكال متنوّعة من التّهديد داخل المدرسة وفي محيطها، ما يمسّ المدرسة في جوهر أدائها، وهو توفير المناخ الآمن للنّمو وترتيب عمليّات التّعليم والتّربية. على الرّغم من إرساء مجانيّة التّعليم وبذل جهود مهمّة بغية تحسين المؤشّرات التّربوية الخاصّة بظروف الدّراسة وجودة التّعليم، إلاّ أنّ المنظومة التّربوية لازالت تشكو من نقائص عدّة في مختلف المراحل التّعليميّة ممّا يحدّ من فاعليتها ونجاعتها، ومن أبرز الإشكالات المطروحة تفشّي ظاهرة العنف المدرسي، وهو ما كشفته التّقييمات الوطنيّة منذ عقدين(1)  و«التّقييم الدّولي لمكتسبات التّلاميذ» (PISA) الذي أشار إلى معضلة الانضباط في المدارس التّونسيّة. ولئن أكّدت إحصائيّات اليونيسف(2)على البعد الكوني للعنف المدرسي، فإنّنا مطالبون كفاعلين بافتحاص الخصوصيّات التّربوية للبيئة التّونسيّة بنظرة موضوعيّة وفهم مبرّرات هذه الظّاهرة، فالمدرسة توكل إليها بالتّوازي مع مؤسّسات التّنشئة الاجتماعيّة الأخرى مهام تنشئة التّلميذ تربويّا ومعرفيّا واجتماعيّا ونفسيّا، بهدف تنمية شخصيّة المتعلّم وإعداده لإنجاز مهامه في المجتمع، وتسهم بدرجة كبيرة في دمقرطة المعرفة وفي تربية التّلاميذ على قيم المواطنيّة. ويفترض أن تسهم في ضبط النّزاعات، عبر قواعد الانضباط التي ترسمها، وفي سياقاتنا الحالية المعقّدة، تعترضها جملة من العوائق تمنعها من أداء وظائفها على الشّكل المطلوب وتؤثّر في سير أدائها التّربوي، تتمظهر في تنامي حالات الاعتداء والتّصرّفات العنيفة داخل المدرسة وفي محيطها القريب. وهو ما يفسّر تنامي الشّعور بالخوف وعدم الإطمئنان، لهذا نعتبر أنّ حضور العنف ضمن شبكة العلاقات التّربويّة وضعيّة تشذّ عن قاعدة النّظام المدرسي، وتؤشّر على تكسير بنيته النّظاميّة التّفاعليّة وسبب مباشر في خلخلة التّوازنات، فالعنف هو اللاّنظام. 
وعلى الرّغم من تضخّم السّجالات حول إشكاليّات العنف المدرسي، فإنّها لم تحتل بعد على ما يبدو أهمّية في سلّم أولويّات السّياسات العموميّة، سواء في اهتمامات وزارة التّربية أو لدى الحكومات المتعاقبة. ولعلّ تعثّر نسق الإصلاحات التّربويّة وخضوعها للأمزجة السّياسيّة ساهم في حالة التّراخي العام في التّعاطي مع هذه الظّاهرة التي تنخر المؤسّسة التّربويّة من داخلها، إذ يثبت التّنامي المفرط لظاهرة العنف المدرسي بأنّ النّظام التّربوي لم يتفاعل إيجابيّا مع المتغيّرات المعرفيّة والتربويّة والتكنولوجيّة، وهو مسؤول - في جانب كبير - عن هذه الثّغرات أو نقص السّلوك المدني بما هو حجر الأساس لكلّ تماسك اجتماعي. فالمنظومة التي نعيش في سياقها منذ سنوات تفضي ضرورة إلى هدر القيم المرجعيّة  وضياع الإحداثيّات لدى الشّباب التّلمذي، مثلما تعبّر عن إخفاق السّياسات العموميّة وعدم الحرص على تعزيز الثّقة في المؤسّسات الاجتماعيّة. والأخطر أن استفحال العنف لا يقف عند حدود سياج هذه الفضاءات، بقدر ما ينعكس على سلوك وعقليّات الفاعلين المباشرين، وتمتد نتيجة لذلك دائرة العنف لتشمل الجميع وتصيب شظاياها المناخ المدرسي وكافّة المتدّخلين، وخاصّة التّلميذ «محور المنظومة التّربوية». 
لا يعدّ الوسط المدرسي فضاء متجانسا، وإنّما مجتمعا مصغّرا يحتوي تفاعلات وصراعات تدور داخل جدرانه (3)، تتكوّن وتتصارع فيه لعبة الانتماءات والاستراتيجيّات الفرديّة والفئويّة، ومصنع الأحلام والرّغبات و«فبريكة» خارطة الانجذابات والتّجاذبات لفئات عريضة من المراهقين. لذا من المهم تغيير زاوية النّظر ومقاربة المدرسة بالإحالة إلى ثلاثة عناصر مترابطة في إدراكها كمحل (Lieu) تتمّ فيه التّفاعلات الاجتماعيّة المؤسّسيّة الرّسميّة وغير الرّسميّة أوّلا، ويتكوّن ثانيا صلبها التّموقع ولعب الأدوار ، فهي مكان مادّي بفضاءاته وتقسيماته الجغرافيّة، وتعني ثالثا «بنية أحاسيس» محلّية حسب عبارة «هوسرل»، تتضمّن ممارسات عمليّة وسلوكات يوميّة تنبثق منها روابط وجدانيّة ورؤى مشتركة، تمثل الإسمنت الذي يعضد الصّلات والمبادلات ويطبعها. 
نعتقد أنّ العنف داخل الوسط المدرسي تتحكّم فيه الكثير من العوامل المتشابكة، إلاّ أنّنا سنقتصر على رصد العلاقة الجدليّة بين الفاعل/ السّياق التّربوي والتّلميذ، ولا يمكن للمؤسّسة التّربوية مواجهة العنف بنجاعة إلاّ بمساءلة اشتغالها المؤسّسي. لهذا فإنّ الهدف الأساسي لهذه الورقة الوقوف على الصّلات القائمة بين العنف في الوسط المدرسي وسياقاته، وملامسة بعض محدّداته وأبعاده الميكروسوسيولوجيّة وأشكاله الصّغرى (micro violences)، والاهتمام بالعوامل الدّاخليّة (endogènes)، عبر إثارة أسئلة محوريّة ماذا نقصد بالعنف داخل المدرسة؟ ما تجلياته؟ ماهي طبيعة اشتغال المدرسة وماهي العوامل الممهّدة لبروز السّلوكات العنيفة؟ أين تكمن أسباب العطل وتشكّل ظواهر العنف في الوسط المدرسي؟ ماهو خطاب التّلاميذ حول مستويات العنف المدرسي؟ كيف يهدر العنف عناصر الجودة ويبدّد بعض ما تحقّق منها؟ كيف يؤثّر غياب الجودة التّربوية في تأجيج العنف في الوسط المدرسي؟ وفي المقابل هل يسهم إرساء تمشّي الجودة التّربوية في تخفيض السّلوكات العنيفة؟  وماهي المداخل المناسبة في التّوقّي من العنف في الوسط المدرسي؟ وما هي ملامح المقترح التّربوي لتقليص ظواهر العنف في المدارس التّونسيّة؟
1/ العنف المدرسي : مقاربات مفهوميّة ونظريّات مركّبة
1-1 تعدّد مفاهيم العنف في الوسط المدرسي
تحيل التّعريفات المختلفة للعنف داخل الوسط المدرسي إلى مفهوم يحمل دلالات متعدّدة، ما يجعل تحديده في غاية الصّعوبة، نظرا لتنوّع معانيه ولبس مضامينه، وخاصّة تقاطعه مع مفاهيم مجاورة مثل العدوانيّة والاعتداء والانحراف والجنوح، وهي تصرّفات تخالف معايير السّلوكات المقبولة مجتمعيّا. 
تعرف «Blaya» ا (4) العنف المدرسي بأنّه الاستعمال المتعمّد أو التّهديد بالاستعمال المتعمّد للقوّة الجسديّة أو البأس، والتّهديد المباشر أو غير المباشر ضدّ شخص أو جماعة أو مجموعة أخرى، والذي يسبّب أو يحتمل أن يسبّب صدمة أو أذى معنويّا أو تمييزا أو سوء نمو أو نقصا، ويقاربه شيلدر(Shildler,2001) بأنّه السّلوك العدواني اللّفظي وغير اللّفظي نحو الشّخص الآخر ويقع داخل الحدود المدرسيّة، ويحدّده ميلر (5)  (Miller,2008) في ذات السّياق، بأنّه يشمل سلوكيّات العنف الجسدي والإيذاء النّفسي والتّهديد أو سرقة ممتلكات الغير أو إحداث الفوضى والشّغب. تتّفق أغلب التّعريفات على اعتبار أنّ من أهمّ سمات العنف المدرسي عموما، كلّ ممارسة إيذائيّة بدنيّة أو نفسيّة أو أشكال التخريب (الكتابة على الجدران والطاولات، تخريب المباني والتجهيزات...)، وقد يكون عنفا معنويّا يترجم بفرض السّلطة والقوّة على الآخرين، مثل طرد التّلميذ ومنعه من حضور حصّة دراسيّة أو نشاط ترفيهي أو ثقافي أو رياضي. 
يتكثّف مفهوم  العنف غالبا في تجلياته المادّية الأكثر خطورة والقابلة للملاحظة (Michaud,2004)ا (6)، والذي يتمّ التّركيز عليه نظرا لظهور آثاره وسهولة التّعرّف عليه، فإذا قلنا أنّ العنف في المدرسة نادر فالأمر صحيح بمنظار الوقائع الخطيرة، في حين يتجاوز التّعريف الرّاهن التّحديدات الأحادية والنّظرة الاختزاليّة التي ترى في العنف «مرضا مدرسيّا»، حيث يعتبر ديباربيو(7) (Debarbieux) العنف عنصرا محايثا للحياة داخل الصّفوف وفي العلاقات القائمة بين المدرّس والتّلميذ، فهو ليس ظاهرة هامشيّة، وإنّما مشكل تربوي كباقي المشاكل، فهناك أنماط عنف تكراري يرتبط بوقائع صغرى (شجارات بسيطة، تدافع، نبذ..) لا تكتسي أهمّية في الظّاهر، لكنّ تكرارها يوميّا يؤثّر تأثيرا بالغا في تلويث المناخ المدرسي(8). لهذا من المجدي عدم التّركيز على العنف المادّي فحسب، فالعنف المدرسي كما تبيّنه البحوث العلميّة في مجال التّربية تمدّد ليضمّ سلّة واسعة من الأفعال، تتجاوز العنف المادّي المباشر، ليغطّي كامل السّلوكات المؤدّية إلى الألم أو الخسائر المادّية أو النّفسيّة لدى الأشخاص النّاشطين في/ أو حول المدرسة، أو من يستهدفون تدمير تجهيزات المدرسة وعتادها.
إنّ تبنّي تعريف ممتد للعنف يدمج العنف المادي واللّفظي والهرسلة ويأخذ في الإعتبار إضافة للأفعال الخطيرة واستهداف التّجهيزات والسّلوكات المنافية للقيم التربوية، ومظاهر الميكروعنف (microvictimation) المتواتر والسّلوكات العدوانية المتكرّرة (9). فالعنف في حالة تحوّل في المدارس، فهو سلوك متعدّد الأشكال ويثير الإحساس باللاأمن، يشعر به الفاعل التّربوي يوميّا، وينفجر في اعتداءات متنوّعة، إذا أخذت بصفة منفصلة لا تثير القلق (شتم عابر، تصادم عفوي، وصم...)، إلاّ أنّ تراكمها يؤذن بتدنّي معايير الجودة التّربويّة وتدهور المناخ المدرسي. وأضيفت لهذا التّوصيف في السّنوات الأخيرة سلوكات الهرسلة أو سوء المعاملة بين التّلاميذ (school bullying) التي تعرف بأنّها أحد أشكال العنف «المنسيّة» من الاهتمام، لأنّ ضحاياه يعانون في صمت، فالتّلميذ/ الضّحيّة يتعرّض بشكل متكرّر وعلى مدى طويل لإعتداءات صادرة من قبل الأقران بغية إهانته، بالنّعوت أو الإيماءات السّاخرة والنبذ، ويتمّ اختيار «الضّحيّة» لضعف ما أو اختلاف ملحوظ (تأتأة، سمنة، صعوبات تعلّم...) ، يتعرّض لاعتداءات تتمّ بشكل غير مرئي مشكّلة جزءا من الجانب الخفي للعنف الذي تتولّد عنه تداعيات خطيرة (10) .
ويتجاوز تفشّي العنف بأشكاله المختلفة المنحى الفردي أو ردود الفعل الشّخصيّة إلى اعتباره مساسا بالنّظام العام للمدرسة وكيانها الشّخصي ومكونات المنظومة التّربويّة، ويؤدّي إلى إعاقة العمليّة التّعليميّة- التّعلّمية، وشلّ أداء المدرسة ومردوديتها وإخلالات في المناخ المدرسي ويؤشّر على «عطالة» معايير الجودة التّربويّة. يمكن القول أنّ العنف داخل الوسط المدرسي بما هو فرض المواقف بالقوّة، ظاهرة مركّبة تتحكّم فيها مجموعة تصنيفات تصبّ كلّها في تعريف شامل ومركب/ مربك بأنّه يغطي جميع الأفعال والممارسات التي تفضي إلى أضرار جسديّة أو معاناة نفسيّة والاحتقار والإهمال والإقصاء لطرف من الأطراف المكوّنة للفضاء التّربوي. ويفتح نافذة على السّياقات الثّقافيّة والتّربويّة وبعض المقولات «الشّعبيّة» في الثّقافة التّونسيّة شأن «حَاسِبْنِي بجلْدُو» أو «العصا خارجة من الجنّة» «أنت تذبح وأنا نسلخ»، بمعنى أنّ في مناخنا الثّقافي لم تندثر فيه الأشكال التّقليديّة في التربية، فضلا عن  ممارسات الإقصاء والتّمييز والاحتقار. 
1-2- مقاربات نظريّة للعنف المدرسي
يستدعي العنف في الوسط المدرسي عوامل كثيرة للتّفسير نجملها في ثلاثة نماذج نظريّة، أولا نموذج تكاملي يؤلّف بين المتغيّرات الماكروسوسيولوجيّة والميكروسوسيولوجيّة، ثانيا نموذج تفاعلي يركّز على طبيعة العلاقات التّفاعليّة بين الشّخص والمكوّنات التّدريسيّة والتّربويّة للمدرسة، ثالثا النّموذج الايكولوجي يتعاطى مع المؤسّسة التّعليميّة كفضاء طبيعي لظهور السّلوكات العنيفة. كما انبثقت خلال العقود الأخيرة أشكال جديدة من النّزاعات في المؤسّسات التي يسمّيها «هابرماس» فضاءات التّنشئة الاجتماعيّة وإعادة الإنتاج الثّقافي، تجسّم أزمة الاندماج الاجتماعي بمعنى لا ترتبط بمشكلات إعادة توزيع الثّروة ولكن تمسّ أشكال الحياة، وتعبّر عن  نوع من «أزمة الاختلافات» حسب «روني جيرار». وبالتّالي فإنّ حضور العنف بأيّ درجة يدلّ على انخرام بنيتها النّظاميّة التّفاعليّة، وسبب في خلخلة التّوازنات الوجدانيّة والعلائقيّة بين أفرادها، فالعنف المدرسي هو اللاّنظام وهو أيضا السّبب الحقيقي الكامن وراء اللاّتفاعل بين الأفراد الذي قد يؤدّي إلى الإرتباك والفوضى. على خلاف ذلك، كلّما ترسّخت الرّوابط أفرزت العلاقات التّفاعليّة قيم الاحترام الذي يكنّه التّلميذ إلى فضاء المدرسة والأساتذة ولبعضهم البعض، وتتأكّد جودة المناخ المدرسي كلّما وُجد نوع من «السّلم التّربوي» داخل فضاء الممارسة التّعليميّة. 
في بداية الثّمانينات تطوّر المنظور التّفهمي وبرزت نظريّة التّفاعليّة الرّمزيّة، التي أذكى جذوتها «ألان توران»(11)، ومنها ارتقى الاهتمام بالأبعاد الميكرسوسيولوجيّة والسّياقيّة للعنف المدرسي، واقتربت من فكرة أنّه لا يمكن الإحاطة بحقيقة العنف بمعزل عن المعايير والضّوابط، المؤسّساتيّة (Michaud,2004). فالعنف ليس أفعالا اعتباطيّة، وإنّما سلوكات ذات دلالات ضاربة بعمق في التّربية السّائدة، ونعتقد أنّ العنف داخل الوسط المدرسي تتحكّم فيه الكثير من العوامل المتشابكة، مثلما بيّن ذلك منوال «برونفنبرنر» (Bronfenbrenner)، حيث تتجلّى المدرسة كمنظومة تربويّة منفتحة على خمسة أنساق فرعيّة، فالعنف يمكن أن ينفجر / ينشأ في المنظومة الصّغرى (القسم، السّاحة، الأروقة ...)، والمنظومة الدّاخليّة  أي ماهو موجود داخل المدرسة، ( الإدارة، التّنظيم الزّمني، المربّون، والتّلاميذ..)، ومجموع الأنساق الفرعيّة المحيطة (مستوى الثّقافة المادّية، الهياكل الوسيطة،...)، والمنظومة المنفتحة تشمل (الهياكل الاجتماعيّة، أصحاب القرار، ووسائل الإعلام...) التي تمارس تأثيرا في المدرسة وتؤثّر في الأنساق الأخرى، وأخيرا المنظومة الكبرى الخاصّة بهياكل التّربية في المستوى الوطني ( المؤسّسات، الأنساق القانونيّة والتّربويّة والسّياسيّة...). 
وأثبتت عديد الدّراسات مثل قودفردسون (Gottfredson,2001)ا(12) أنّ نقص العدالة المدرسيّة في معنى تطبيق القانون المدرسي أحد العوامل التّفسيريّة للعنف المدرسي، وبيّنت أبحاث (Ortega,2001)ا(13) دور الانضباط الدّيمقراطي بقواعد واضحة وشفّافة ومفهومة، وأثبتت عديد الدّراسات الدّوليّة أثر المناخ المدرسي على التّعلّمات والنّجاح المدرسي ودافعية التّعلّم والثّقة المتبادلة (Marika et al,2007)ا(14)، فالمدرسة في دوائر متنافذة، فجودة التعلمات تؤثر في المناخ المدرسي الذي يؤثّر بدوره في التّعلّمات، ويؤثّر المناخ السّلبي في الرّفع من الصّعوبات المدرسيّة وعلى أداء المربّين. كما أنّ جانبا كبيرا من الوضعيّات النّزاعيّة التي تنشأ داخل المدارس والفصول الدّراسيّة ذات صلة بثقافة التّسيير، وقائمة على مقاربة إقصائيّة لذات التّلميذ من العمليّة التّربويّة، يتقاسم فيها الفاعلون التّربويّون قسطا من صناعة العنف واستفحاله داخل المدارس. لهذا وجب استحضار هذا المعطى عند التّفكير في التوقّي من العنف، فالمدرسة تلعب في ذات الوقت العامل المساهم في تأجيج العنف، والاضطلاع بدور حيوي في تقليص درجته أو الحدّ منه، استنادا إلى الحلول التّربويّة.
1-3- العنف المدرسي : المناخ التّربوي والعوامل المؤسّسيّة
لا يمكن للمؤسّسة التّربويّة أن تواجه العنف بنجاعة إلاّ بمساءلة اشتغالها المؤسّسي ذاته، لذا يشدّد «ديبرابيو» على أهمّية الاهتمام بدور المناخ المدرسي، إذ لا مناص من الانتباه إلى العوامل المؤسّسيّة ومدى حضور الجودة التّربويّة ومناخات المؤسّسة والفصل ومفاعيلهما دون إغفال تأثير المدرس والطّرائق البيداغوجيّة المعتمدة. فالمدرسة التّقليديّة مؤسّسة سلبيّة حسب «بول فرايري»، لا ترتكز على الحوار والمشاركة وممارسة الحرّية، بل هي مدرسة الصّمت(15)، لهذا تقارب أزمة المجتمع المدرسي بمحدوديّة المدرسة، بما فيها «المدرسة المعاصرة»، حيث لا تنسج التّضامنات بل تفكّكها، خاصّة في وضعيّة التّلاميذ الذين لم تستطع إنقاذهم من الإخفاق المدرسي(16)، ولم تمكّنهم من مهارات وموارد، ما حوّلها إلى مؤسّسة بيروقراطيّة تغيب عنها البهجة. وأضاءت الأبحاث الاجتماعيّة ما بداخل المدرسة «العلبة السّوداء»، من عنف نتاج تفاعلات البيئة المدرسيّة، لتبرز أنّ أنماط اشتغال المؤسّسة وخصوصيّاتها وموقعها متغيّر مهمّ في فهم مسارات التّربية والمناخ العام (17)،  فالمناخ المدرسي هو الذي يميّز مؤسّسة تربويّة عن غيرها، ويؤثّر في سلوك جميع العاملين فيها ويجسم إدراكات المتدخّلين في البيئة المدرسيّة، وطبيعة العلاقات السّائدة بينهم.
وتحيل المتغيّرات السّوسيومؤسّساتيّة إلى مفهوم بارز  في سوسيولوجيا المدرسة «مفعول المدرسة»، يعلي من شأنها كتنظيم قادر على التّأثير سلبا وإيجابا في معالجة الظّواهر السّلبيّة كالعنف أو الفشل أو الهدر. وهو ما أثبتته البحوث الدّوليّة من صلة المناخ بالعنف في المدرسة، فمناخ مدرسي إيجابي يؤثّر إيجابيّا في الوقاية من العنف، ومرتبط بمدى وضوح القواعد والقوانين المعتمدة في المدرسة وحجم الإحساس بالعدالة المدرسيّة، ومرتبط كذلك بحجم المؤسّسة وكثافة الفصول وأهمّية استقرار الفرق التّربويّة ونمطها التنشيطي والدّور المحوري للمدير. ويعود تفاقم أعراض العنف المدرسي حسب البحوث التّربوية إلى نمط الحياة في المدرسة وجودتها، ويعكس المعايير والأهداف والقيم والعلاقات المابينفرديّة وممارسات التّدريس والتّعلّم ونمط الإدارة والهيكلة التّنظيميّة المدمجة في المدرسة، فالكثير من السّلوكات العنيفة من لدن بعض التّلاميذ، يصعب عزلها عن النّظام التّربوي والتّعليمي وعن طبيعة الصّلات البيداغوجيّة التي تربط المدرس بالمتعلّم، وبسوء تنظيم الزّمن المدرسي والموازنات البيداغوجيّة، وضغوطات البرامج والشّعور الذي تولّده لدى التّلميذ بكون المدرسة تهدر وقته وجهده. 
أضحى من المؤكّد حاليّا الإقرار بأنّ جودة التّعلّم من جودة العلاقة التي تربط المدرس بالمتعلّم، والكثير من الممارسات التي تنتشر في الأقسام الدّراسيّة تفتقد الجودة المنشودة، لأنّها تركّز بشكل أساسي على الجانب المعرفي، وتختزل الأبعاد التّربويّة ولا تراعي الأبعاد الوجدانيّة(18). ومن العسير تعليم التّلاميذ وهم لا يشعرون بالأمان، فالتّلميذ الذي يكون متوافقا مع بيئته المدرسيّة، ويجد العناصر الملائمة لنموه وشعوره بالأمن والتّقدير، لا يلجأ  إلى السّلوكات العنيفة، أمّا إذا كان يسودها الإحباط والتّهديدات أو النّظر إليه بدونيّة، يفضي ذلك إلى حدوث اضطرابات سلوكيّة واتجاهات سلبيّة تجاه مدرسته ومدرّسيه وزملائه. ويتحدّد المناخ المدرسي من خمسة عناصر تهمّ المناخ العلائقي (احترام التّنوّع- علاقات إيجابيّة بين الجميع- التّشاور في أخذ القرارات- تثمين الاختلاف)، مناخ التّعليم والتّعلّم ( جودة التّعلّمات- انتظارات مرتفعة في مجال النّجاح)، المناخ الأمني (قواعد واضحة ومتداولة- فضّ النّزاعات...)، المناخ المادّي (النظافة...) مناخ الإنتماء (مشاركات دالّة - شعور التّلاميذ بالتزامهم وانخراطهم- جودة العلاقات المحدّدة للعيش المشترك) (19). 
يتبع
الحلقة الثانية: العنف المدرسي: الجودة المتعثرة وتمثّلات التّلاميذ
الهوامش
(1) وثيقة بعنوان « نحو مجتمع المعرفة، الإصلاح التربوي الجديد ، الخطة التنفيذية لمدرسة الغد 2002-2007» منشورات وزارة التربية، جوان 2002.
(2) نصف المراهقين على امتداد بلدان العالم يعبرون عن أحاسيس القلق والانزعاج، وحالة خوف تهيمن على عدد من التلاميذ وأن المدرسة مرادف للخطر فقرابة 150 مليون تلميذ ما بين 13 و15 سنة أعلنوا تعرضهم للعنف من أقرانهم داخل أو خارج المدرسة، وفي 39 بلدا في أوروبا وأمريكا الشمالية قرابة 17 مليون عبروا عن هرسلتهم لزملائهم في المدرسة، وفي الفئة العمرية 13-15 سنة عبر  ثلثي التلاميذ مشاركتهم  في شجارات صلب المدرسة.
(3) (François, Dubet, Marie-Duru, Bellat. 10 propositions pour l’école (Paris : Seuil, 2015
(4) (Blaya, Catherine, Violences et maltraitance en milieu scolaire (Paris, Armand Colin,2006
(5) (Miller, Thomas, W, School violence and primary prevention (New York, spinger,2008
(6) ?Michaud, Yves, La violence (Paris, PUF,2004), Que sais-je
(7) مدير المرصد الدولي حول العنف في الوسط المدرسي.
(8) Debarbieux, Éric, « La violence en milieu scolaire » at : https://bit.ly/2ZtPCJc
(9) Ibid
(10) تقرير اليونسكو «التعليم من أجل البشر والكومب، خلق مستقبل مستدام للجميع»، 2016، الرابط: https://bit.ly/2Y5Rwj0
(11) (Touraine, Alain, Le retour de l’acteur (Paris, Fayard,1984
(12) (Gottfredson, D. C, Schools and Delinquency (New York, Cambridge University Press,2001
(13)    Ortega, R, The Seville project against School Violence: An educational intervention model of an ecological nature    In Debarbieux E. & C. Blaya. Violence in Schools: ten approaches in Europe (Paris, ESF,2001).h
(14)    Marika, Veisson et al,  «Students’ well-being, coping, academic success, and school climate»,  Social behavior and personality an international journal, 2007.u
(15) ( Gaston, Mialaret, Pédagogie général (Paris, PUF, 1991
 (16)     Mathias, Millet, Daniel, Thin, «L’école au cœur de la question sociale. Entre altération des solidarités sociales et nouvelles affectations institutionnelles», in : Paugam Serge (dir), Repenser la solidarité (Paris, PUF, 2015).u 
(17) (Obin, Jean-Paul, La crise de l’organisation scolaire (Paris, Ha éd ,1993
 
(18) UNESCO (2010), En finir avec la violence à l’école, Guide à l’intention des enseignants, at : https://bit.ly/3kK2pzo
(19) حسب تعريف منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي .