ترنيمات

بقلم
أن تكون إنسانا
 لا يمكن للكعبة المشرّفة أن تختصر معاني الطّواف التي تغمر شعور المؤمن وخطاه، إذ ليس الطّواف هدفا في ذاته، ولكنّه انشداد إلى أفق البيت العتيق وتاريخيّته، في رؤية تحاول الارتقاء بالذّات من الأرض إلى السّماء، سموّا إلى قيم التّوحيد المطلق، وترفّعا عن مشغل اللّحظة الدّنيويّة العابرة. هي سباحة في فلك العبادة كسباحة سائر الكائنات وتسبيحها في أفلاكها، وهي تجسيد رمزيّ لصلة الخالق بعباده، كي لا يكون التّوحيد تجريدا نظريّا مسقطا. 
تذكير المؤمنين المسلمين الدّائم بإبراهيم الخليل، تحفيز للذّاكرة الإيمانيّة ولمسار عقيدة التّوحيد، في مشهد تتجسّد فيه كونيّة تلك العقيدة، من خلال تلبية الإنسان بألسنته وألوانه وأمصاره المختلفة، تحقيقا لوحدة الشّعور، وتأليفا لكيان الأمّة، كما تنفتح فيه التّجربة الدّينيّة على علاقات المسلم بذاته وبكلّ أبعاده وارتباطاته الاجتماعيّة. 
إنّ الرّمزية الماثلة في مناسك الحجّ، تعيد الإنسان إلى ذاته، كائنا عابرا للمسافات، متجرّدا من ارتباطاته الشكلية، مشدودا في مسيرته إلى منطلق وغاية، وإلى مبدأ ومصير، لتكون الدّنيا بذلك محطة في ذلك المسار، يجب ألا ينشغل بها الإنسان حدّ الغفلة والسهو. يستحضر المؤمن في كلّ المناسك مسؤوليته ووعية الذاتيّ ونباهته وحذره، وهو يواجه نفسه بتراكماتها وأمراضها، تحاول شدّه إلى العادة، ليخلد إلى الرّاحة قانعا بالحدّ الأدنى، ويواجه الشيطان بإغوائه وتزيينه وزخرفته، وهو يحاول خذلانه، بما يثير في فكره من وساوس شاغلة ومربكة. 
     في كلّ عبادة يقف الإنسان في المحراب، والمحراب من الحرب، إذ يستجمع المؤمن قواه وتركيزه لمواجهة الشّواغل، محاولا التّطهّر ممّا ران على قلبه ووجدانه وفكره، من رواسب الخمول والدّعة والتّيه، .. يقف إنسانا بكلّ مكوّناته وأبعاده الخَلقيّة والخُلقيّة، لا يطلب مقام الملائكة، ولكن يحاول الارتقاء في سلّم إنسانيّته، ذاكرا نبعه الرّوحي في النّفخة الرّبّانيّة، مهتديا بها إلى السّموّ الذّاتي والاجتماعي، مستعينا بها على همز الشّيطان وتلبيسه ومخاتلة النّفس الأمّارة بالسّوء، متوكّلا، واثقا من تأييد خالقه ومستخلِفه، في تجربة اجتماعيّة ينتصر فيها للحقّ وأعوانه، ويقف فيها ضدّ الباطل وأذنابه.