مصلحون

بقلم
فيصل العش
علي باش حانبة : « مسيرة نضال »

 ولد  علي بن أحمد بن الشريف علي باش حامبة بمدينة تونس عام 1876 من أسرة تركية الاصل من سكان الأناضـــول وكان والده من أعوان الوزير مصطفى بن اسماعيل، زاول تعليمه بالمدرسة الصادقيـــة بمدرســــة (سان شارل) الفرنسيـــة . وبعد حصوله على شهادة ختم الدراسة بتلك المدرسة وفي عام 1897، انتدبته الحكومة للترجمة بإدارة الاملاك العقارية، وكلفته بعد ذلك بوكالة أوقاف المدرسة الصادقية، وأثناء مباشرته لهذين العملين كان يتابع دروس الحقوق الفرنسيـــة. ثم انتقل إلى فرنسا ليواصـــــل دراستـــــه الجامعيــــة بجامعــــــــة «أكس ان بروفنس» ليتخرج منها سنة 1906 متحصلا على الاجــــازة ثم الدكتــــوراه في الحقوق التي خوّلت له الالتحاق بسلك المحاماة.

 
نشأ باش حانبة في جوّ فكري وسياسيى تميّز بظهور الحركة الاصلاحية بجامع الزيتونة المعمور بزعامة الشيخ سالم بوحاجب وداخل المدرسة الصادقية  بزعامة الطاهر صفر
 
تشبع هذا المناضل بالقيم والأفكار والاساليب الحديثة ومبــــادئ التونسيــــة ليتحــــول فــــي ظـــرف وجيز الى الشخصية الابـــــرز آنذاك في الحركة الوطنية بتونس إذ يعتبر باش حانبــة أحد رموز الحركة الوطنيـــــة التونسيـــة وشخصيــــة مناضلــة أثرت في المشهد السياسي والاجتماعي في تونس في الفترة ما بين 1905 و 1912 تاريخ نفيه من البلاد.
 
كان لعلي باش حانبه نشاط جمعياتي كبير حيث انخرط بالجمعية «الخلدونية» وساهم في تأسيس  «النادي التونسي» الذي أصبح منبرا للنخبة التونسية المتطلعة للرقي والتقدم ,والرافضة للهيمنة الاستعمارية  كما أسس مع بعض أصدقائه جمعية «قدماء المدرســــة الصادقيـــة» في سنة 1905 وكان نشاطها مستمدا من الأهداف التي رسمها مؤسس المدرسة المصلح خير الدين باشا التونسي . وبالرغم أن القانون الأساسي للجمعية ينص على عدم الخوض في المسائل الدينية والسياسية فقد كانت المحاضرات والمناقشات التي تليها تتناول العديد من المسائل السياسية مما ساهم في فتح الأذهان على عهد التنوير والمطالبة بوضع حد للسياسة الاستعمارية التي حولت معاهدة باردو من نظام حماية إلى استعمار مباشر كثرت فيه المظالم والتجاوزات على حساب المواطنين. 
 
تعرّف علي باش حانبه أثناء دراسته بالفوج الاول من خرّيجي »الصادقية «ومؤسسي »الجمعية الخلدونية.«  كما كانت اتصالاته متينة مع الشباب المدرسي المعاصر له في الصادقية أو جامع الزيتونة لذلك كان في تناغم مع العديد من الزيتونيين خاصة مؤسسي الجمعيّة الخلدونية حيث كان يشاركهم من خلال جمعيته «قدماء الصادقية» الأنشطة الثقافية والمحاضرات والندوات الفكرية  وكان بالرغم من ثقافته الفرنسية العليا وانتسابه إلى الجامعة الفرنسية وإيمانه بضرورة تعصير التعليم على غرار ما فعله خير الدين عند بعثه للمعهد الصادقي وضرورة تدريس جميع العلوم الحديثة كما يحدث في فرنسا، يدافع على مطالب  شريحة من الزيتونيين وباعثي الكتاتيب العصرية على شرط ان ترتقي بالتعليم وبالمتعلم في تونس الى مصاف التعليم العصري وتضعه على طريق النهضة.
 
ويرتبط اسم بــــــاش حانبـــــة أساسـا بـ «حركة الشباب التونسـي»  أو حركة تونس الفتاة، وهي أول حركة وطنية تونسية تأسست  في تونس خلال فترة الإستعمار لتكون صـــوت التونسيين في مواجهة المستعمر الفرنسي، و الحاملة لقضايا و مطالب الشعب. و تكونت هذه الحركة سنة 1907 من نخبة مثقفة  من خريجي المدرسة الصادقية و الكليات الفرنسية، و فـــــي مقدمتهم علـــــي باش حامبه و البشير صفـــــر و عبد الجليـــــل الزاوش و خير الله بن مصطفى ثم التحق بهم بعض الزيتونيين من أمثال عبد العزيـــــز الثعالبـي وقد تأثر هؤلاء بحــــــزب تركيــا الفتــــــاة الذي كان وراء العديد من المتغيرات التي حصلت في تركيا في بداية القرن العشرين و بالفكر الإصلاحي التونسي فكانت بذلك امتدادا للحركــــــة الإصلاحيـــــة بتونس خلال القــــــرن 19 التي نشأت مع خير الديـــــن باشـــا و أحمد بن أبي الضياف و محمد بيرم و غيرهم ...
 
حملـت حركــــة الشبـــــاب التونســــي مطالــــب الشعـــب، و كانت ، قبل أن تصطدم بالمستعمر ، تنتهج سياسة إصلاحية تبنت مطالب اقتصادية واجتماعية كإجبارية التعليم الابتدائي ومجانيته و ارساء نظام تعليمي وقضائي عصري و ضمان تغطية اجتماعية وإصلاح هياكلها الاقتصادية وتحسين حال صغار المزارعين وصغار الصناعيين والمساواة بين الأجناس في الحقوق و الواجبات والغاء الضرائب ومطالب سياسية كضمان الحريات السياسية لكافة التونسيين كحق التعبير والنشر وحق التونسيين في انتخاب مجلس نيابي ومطالب ثقافية كتعصير التعليم ونشره وحق التمتع بالتعليم العالي وترسيخ الهوية الوطنية وذلك من أجــــل انتشــــال الشعب من المهانة وصيانة الشخصية التونسية العربية الإسلامية وتخليصها من أسباب الذوبان والمسخ .
 
لم يغفل  علي باش حانبه أهمية ودور الصحافة حيث كان يعتبر العمل الصحفي ركيزة اساسية وأداة ناجعة لبث الوعي في صفوف الأهالي وتفسير مواقف وآراء النخبة المثقفة إبان الاستعمار وابرازالجوانب السلبية لإدارة الحماية بالإضافة إلى المشاركة في الصراع الفكري والسياسي خاصة مع بروز ظاهرة انتشارا الصحف الاستعماريـــة و الوافـــــدة ، فأصــــدر فــــــي فيفــــــري 1907 جريـــدة «LE TUNISIEN» وهـــــي أول صحيفـــــة تونسيــــة تصدر باللغة الفرنسية وكانت ناطقة باسم حركة الشباب التونسي اتخذ منها باش حانبـــــه منبــــرا سياسيــــا للتعبيــــر عن أرائه ونقد الاستعمار وإلهاب روح المواطنين لمكافحته .
 
كانت هذه الجريدة احدى وسائل حركة الشباب التونسي والمعبرة علي برنامجها وقد لخص رئيس تحريرهــــا علـــي بــــاش حامبة في افتتاحية العدد الأول كل طلبات حركة الشباب التونسي المتمثلة في جعل التعليم إجباريا ومجانيا وضمان تغطية اجتماعية واسعة وإرساء نظام قضائي عصري وعادل وحياة سياسية تضمن لكافة التونسيين ممارسة حقوقهم بواسطة تمثيل شعبي منتخب وهياكل دستورية. 
 
وقد ساهمت هذه الصحيفة في التعريف بالحركة في الداخل والخارج وإعلاء صوتها .وأصبح باش حانبه يخصص الحيز الكبير من نشاطه وجهده في العمل الصحفي .و بعد نجاحه في ادارة هذه الجريدة اصدر في نوفمبر 1909 صحيفة اسبوعية اخرى ناطقة بالعربية وهي جريدة «التونسي» التي كان يشرف عليها الشيخ عبد العزيز الثعالبي .
 
ضلّت جهود باش حانبه من خلال حركة الشباب التونسي  مركزة على تنظيم و توعية التوانسه بشتى الوسائل الدعائية عن طريق الصحافة و الإجتماعات في المقاهي و المنتديات و النوادي الصيفية في ضواحي العاصمة و التواصل مع عامّة الشعب . 
 
إكتسبت حركة الشباب التونسي شعبية واسعة خاصة في العاصمة، و دخلة مرحلة جديدة تتمثل في التصيعد ضد المستعمر الفرنسي ، خاصة بعد أحداث الترامواي التي أدت إلى إضراب عام أطرته  قيادات حركة الشباب و كان علي باش حانبه رئيسا للجنة الإشراف على الإضراب .
 
أثار الإمتداد الشعبي لحركة الشباب التونسية قلق السلطات الإستعمارية الفرنسية، فبدأت بالتضييق على الحركة و قياداتها . 
و بلغ الصدام مع السلطات الإستعمارية ذروته في أحداث الجلاز الدامية الي شارك فيها قيادات من الحركة في 7 نوفمبر 1911، كانت نتيجة ملاحقة قيادات الحركة حيث داهم البوليس الفرنسي يوم 13 مارس 1912 منزل علــــي باش حامبة لإيقافــــه وحجز أوراقه وتم اقتياده إلي بنزرت ليوضع علــــى ظهــــر سفينـــة متجهـــة إلي مرسيليــــــا لمنفــــــاه ثمّ تـــــم إغــــلاق جريدتـــه بعد ذلك يوم 24 مارس 1912
لم تعمر حركة الشبان التونسيين أكثر من خمس أو ستّ سنوات لكنها جمعت نخبة تونسية تحملت مسؤولية النطق باسم الأهالي والتعبير عن مطالبهم الإصلاحية فعبدت بكتاباتها وأنشطتها وتضحياتها الطريق لتأسيس أول حزب سياسي بعد الحرب أخذ منها مشعل التحرر الوطني وهو الحزب الحر الدستوري التونسي بزعامة الشيخ عبد العزيز الثعالي الذي شاركت في تأسيسه ثلة من التونسيين كان جلهم ينتمي إلى حركة الشباب التونسي.
 
غادر باش حانبه تونس في اتجاه باريس بعد قرار نفيه من قبل السلطات الفرنسية ، حيث استقر رأيه على مواصلة كفاحه الشرعي فقام بنشر بعض المقالات التي دافع فيها عن نفسه داحضا الاتهامات الموجهة ضده وكانت هذه المقالات احد أسباب نفيه من جديد فانتقل إلى اسطنبول التي واصل فيها نضاله حيث كان ينسق عمل الوطنيين التونسيين في المهجر باعتباره رئيس لجنة المغرب العربي وأصبح أكثر راديكالية وحزم تجاه المستعمر الفرنسي وتحول من النضال المدني إلى محاولة النضال العسكري والمقاومة المسلّحة للمستعمر فاستغل علاقاته بالسلطات العثمانية وقام مع رفاقه المغاربة وبمساعدة معنوية ومادية من الدولة العثمانية بحملات ضد الاستعمار الفرنسي ووضع خطة حربية تقضي بالاتصال بالاسرى الأفارقة لدى المعسكرات الألمانية و العثمانية لحملهم على التطوع في الحركة المسلحة ضد الاستعمار و إرسالهم في غواصات عبر المتوسط بقيادته لتنفيذ عمليات عسكرية في ليبيا و جنوب تونس وذلك  في شتاء 1917 - 1918 ، لكن الخطة بائت بالبشل، نظرا للتدهور السريع للدولة العثمانية و إستســــلام ألمانيا و مرض علي باش حامبه 
 
 توفى علي باش حامبه في عزّ نضاله بعد فترة قصيــــرة نسبيـــا من لجوئه إلى إسطمبول بسبب اصابته بحمّى خطيرة ومفاجأة يوم 29 أكتوبر 1918  وهو في الثانية والاربعين  من العمر ودفن بمقبرة »باشيكتاش«  وبذلك تنتهي حياة رجل وطني سياسي مصلح مليئة بالنضال والبذل في تونس وفي منفاه الخارجي، مليئة بالأعمال الجليلة والأمل وبالألم والمرارة.