الافتتاحية

بقلم
فيصل العش
افتتاحيّة العدد 181
 مرّت علينا منذ ايام قلائل الذكرى 1444 لهجرة الرّسول ﷺ، وهي نقطة زمنيّة لا نودّع فيها عاما هجريّا قد ولّى ونستقبل آخر فقط، بل نقف عندها ونغتنمها، مستلهيمن منها الدّروس والعبر قصد تصحيح مسارنا ومواصلة رسالتنا التي آمنّا بها وعاهدنا عليها اللّه. وبهذه المناسبة تتقدّم أسرة مجلّة الإصلاح بالتّهاني إلى قرائها الأعزّاء أينما كانوا، راجية من اللّه العلّي القدير أن يبارك في هذا العام الجديد ويجعله منطلقا لتغيير ما بأنفسنا، حتّى يغيّر اللّه حالنا إلى أحسن حال.
لم تكن هجرة الرّسول ﷺ حدثا عاديّا، بل كانت من أضْخَم الأحداث في حركة التاريخ، إذ به تغيّر مجراه في الجزيرة العربيّة ومن ثمّ في العالم كلّه. فقد كانت الهجرة نقطة انطلاق لتأسيس مجتمع قوامه الحبّ والإخاء وحرّية العقيدة، وهيكلة أوّل دولة مدنيّة فى تاريخ المنطقة على أساس العدل السّياسى والاجتماعى ورفض الطبقيّة والعنصريّة، وتشييد حضارة تستقي رؤيتها للكون والحياة والإنسان من القيم الإلهيّة السّمحة، بمواصفات عقديّة وأخلاقيّة واجتماعيّة وحضاريّة غير مسبوقة، ترتكز على الكدّ والعمل والانتشار في الأرض خدمة للبشريّة وتبليغاً لرسالة خلاص الإنسان وتحريره من كلّ أشكال الإستعباد والإعاقة الحضاريّة.
وهكذا، كانت الهجرة مؤشّر قيامة الأمّة النّاهضة إلى مهام الاستخلاف في الأرض. ولهذا كانت مقياسَ «تقويم» المسلمين، فلم يؤرِّخ المسلمون بميلاد نبيهم، ولا بمبعثه، وإنّما أرَّخوا بهجرته، لما تحمله الهجرة من معانٍ، وتحدِّد من معالم، وتوضِّح من أهداف.
الهجرة نموذج قويّ للتدبّر في مسيرة كلّ مصلح، وما أحوجنا اليوم لتدبّر مختلف النّواحي العميقة المتجذّرة في مفهومها ومضمونها. فهي تجسيد لفلسفة رفض الجمود والدّعوة إلى الحركة والتجديد، والبحث الدّائم عن التّصويب والتّصحيح في المسيرة. وهي تعني بصورة دقيقة التّجديد في وسائل العمل، والتّجديد في الأساليب والطّرق، والتّجديد في البيئة الحاضنة.
وهي دعوة للأخذ بالأسباب الدّنيوبة البحتة في كلّ مرحلة من مراحل الإصلاح، فبالرّغم من أنّ الرّسول ﷺ، كان أقوى النّاس على وجه الأرض إيمانا واعتقادا بقدرة اللّه على كلّ شيء، وبالرّغم من التّأييد الربّاني له، فإنّه لم يعتمد على المعجزات ولا على الغيبيّات، وارتكز في تنظيم هجرته وتنفيذها على الأسباب المنطقيّة المتاحة في المقام الأول، منعا للتّواكل، وتكريسا للتوكّل على اللّه.
هل بقيت هجرة الآن؟ مع أنّ الرّسول ﷺ ذكر أنّه لا هجرة بعد الفتح، كالهجرة من مكة إلى المدينة؟ الجواب: نعم.  فالهجرة حدث متواصل، وأسلوب حياة. ونحن مطالبون بالهجرة في كلّ وقت وحين، هجرة من الرّكود والكسل إلى العمل  والبذل والعطاء، ومن الأنانيّة وحبّ الذّات إلى الإيثار وحبّ الآخرين. وهجرة من الاستبداد إلى الحرّية، ومن الخرافة إلى العقل والعلم، وهجرة من التناحر والخصام إلى الحبّ والتآخي ومن الحرب والدّمار إلى السّلم وبناء الأوطان. نحن مطالبون بأن نهاجر إلى ما يحيينا، فنهجر الأفكار وأساليب العمل البالية ونبحث عن أساليب ومضامين جديدة، لعلّنا نحقّق أهدافنا وننجح في مهامنا.