الأولى

بقلم
فيصل العش
الشّعوب العربيّة ومسؤوليّة الفشل
 علّمنا التاريخ أنّ الثّورات لا تحدث من فراغ وإنّما نتيجة تراكمات عديدة وتوفّر أسباب اندلاعها، كما علّمنا أنّ نجاحها في تحقيق أهدافها مرتبط أساسا بتوفّر عناصر النّجاح، وإلاّ فإنّ مآلها الفشل والانتكاسة. لهذا ليس من العجب أن تفشل ثورات الرّبيع العربي التي أصبح أعداؤها ينعتونها بصوت عال وبكل وقاحة وتشفّ بالخريف العبري. وليس غريبا أن تطوى صفحاتها من دون تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها، بل ربّما كانت نتائجها عكسيّة زادت في تأزّم الأوضاع والظّروف، وكان الخاسر الأكبر فيها أولئك الذين أشعلوا فتيلها وضحّوا بالغالي والنّفيس من أجل إندلاعها واستمرار وهجها. 
العوامل التي أدّت إلى هذا الفشل عديدة منها الدّاخلي ومنها الخارجي ولكن أهمّها أنّها حدثت في ظرف كانت فيه الدّول العربيّة تعيش تصحّرا ثقافيّا كبيرا وتقلّصا لنسبة المثقّفين مقارنة بعموم الشّعب، ولم تكن فيه النّخبة بجميع حساسياتها الفكريّة والسياسيّة مستعدّة لاحتضانها وبلورة أهدافها ومن ثمّ العمل على تحقيقها، وعوضا عن تكاثف الجهود لوضع خطط وبرامج وطنيّة مشتركة لوضع قطار التّنمية على السكّة، اتّجه كلّ طرف إلى تصفية حساباته الفكريّة والسّياسيّة مع بقيّة الأطراف محاولا الاستحواذ على السّلطة، لتحقيق ما يمكن تحقيقه من مآرب فئويّة ضيّقة، فاستحضرت من الماضي صراعات خلنا نهايتها ولكنّها عادت لتطفو من جديد على السّطح، فحدث الانحراف وانتهينا إلى ما نحن عليه اليوم.
ليس هناك ما يجعلنا نخجل من القول أنّ قوس ثورات الرّبيع العربي قد أغلق من دون تفتّح أزهارها ونضج ثمارها، فذلك مآل أغلب الثّورات التي حدثت في التّاريخ. فالعيب ليس في الفشل ولكن في عدم الاعتراف به والاستمرار في إقناع الآخرين بأنّ الثّورة مستمرّة وأنّ ما يحدث ليس إلاّ عثرة يمكن تجاوزها. العيب كلّ العيب في الاستمرار بنفس الآليّات التي أدّت إلى الفشل من دون التوقّف لفترة نراجع فيها أنفسنا كنخب، فننجز نقدا علميّا ذاتيّا لطريقة عملنا وتفكيرنا.
(2)
الكثير من المثقّفين يتمسّكون ببراءتهم ممّا تعيشه مجتمعاتهم من فشل، تمسّك الذّئب ببراءته من دمّ يوسف، ويحمّلون المسؤوليّة إلى شعوبهم أوّلا وإلى الواقفين على أرضيّة تختلف عن أرضيتهم ثانيا، متّهمينهم تارة بالفساد وتارة بالرّجعيّة وطورا بالعمالة والتّآمر على الوطن. المشكل أنّ هذه التّهم بجميع أصنافها يتمّ إستغلالها من هذا الفريق أو ذاك لغاية إقصاء الفرق الأخرى. فهل تتحمّل الشّعوب  مسؤوليّة الفشل في تحقيق أهداف الثّورات أو ما يسمّى بالعمليّات الإصلاحيّة التي يزعم المثقّفون أنّهم روّادها؟
في الظّاهر نعم، لأنّ الشّعوب هي التي تختار حكّامها إذا كان النّظام ديمقراطيّا، والتّجارب الدّيمقراطيّة في العالم العربي على قلّتها أثبتت فشل الشّعوب في اختيار من يمثّلها في الحكم ولم تنجح في اختيار الرّجل المناسب ووضعه في المكان المناسب، ولنا في برلمانات تونس ولبنان ومصر خير مثال خاصّة في العشريّة الأخيرة. وتلك الشّعوب هي نفسها التي تتلاءم مع الاستبداد وتكون لها قابليّة الاستعباد إذا ما غابت الدّيمقراطيّة وحضرت الدّكتاتوريّة وحضر معها المتملّقون من مثقفين وصحفيين ورجال أعمال. 
ولكن إذا نظرنا في المسألة بعمق ومن زوايا مختلفة (سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة) وتصفّحنا دفاتر التّاريخ، آخذين بعين الاعتبار قوانين الإجتماع وأسباب نهوض الدّول أوسقوطها، فإنّنا سنكتشف أنّ المسؤوليّة تعود بالأساس إلى الحكّام والمثقّفين المحيطين بهم (فرعون وملؤه)، أمّا العامّة من النّاس فهي في غالب الأمر مفعول به وليس فاعلا خاصّة وأنّ الحكام والمثقّفين يمتلكون أدوات السّيطرة على عقول الشّعوب ومُقَدَّراتها وأموالها، وبالتّالي توجيه سُلوكهم والسّيطرة على أفعالهم والتحكّم في اختياراتهم. وعادة ما يتمّ إثارة عاطفة الشّعوب أكثر من عقولهم حتّى يتحرّك الشُّعور اللَّاواعي، فيتمّ بذلك وَأْد التَّفْكير العقلاني والانتقادي، ويُجَمِّد التَّفكير لِيَتم تسليمه بدون تفكير إلى حُكْم العاطفة.
هذا ما حدث طيلة قرون طويلة، لم تعرف خلالها دول العالم العربي والإسلامي إلاّ الاستبداد والحكم العضوض. ولم يتجاوز مفهوم  السّياسة اغتصاب كرسيّ الحكم ومواقع النّفوذ من طرف شخص أو قبيلة أو مجموعة ايديولوجيّة لتحقيق أكبر قدر ممكن من الامتيازات العينيّة والمعنويّة وتوسيع رقعة ممتلكات العائلة الحاكمة وحواشيها من الذين كرّسوا حياتهم لخدمة الحاكم والتّمعش من سلطانه ونفوذه. والحكم عند هؤلاء غنيمة، والسّياسة هي البحث عن السّبل النّاجحة للسّيطرة على مراكز النّفوذ حتّى يتسنّى التحكّم في الشّعب والاستفادة من ثرواته. ومن أهمّ هذه السّبل دمغجة المحكومين واستمالة تأييدهم سواء عبر وسائل الإعلام التي كانت حكرا على الحاكم أو عبر ماكينة رجال الدّين. 
فإذا تعرّضت الشّعوب إلى القمع لفترة طويلة، فإنّ أغلب شرائحها الاجتماعيّة تتجه إلى الاستكانة لتنحصر مطالبها في لقمة العيش والحصول على الدّواء والكهرباء والماء وتفادي الوقوع في براثن المرض والموت اليومي، وهي بذلك لا تحتاج إلى الحرّية ولا تفكّر فيها، وهي في سعيها للبحث عن القوت تتأقلم مع الاستبداد، وتتعايش معه لفترة طويلة. غير أنّ نسبة الشّباب التي كانت عالية في المجتمعات العربيّة وفيها نسبة محترمة قارئة ومتأثرة بما يكتبه مفكرون عرب رافضون لواقع الاستكانة والتخلّف استطاعت خرق جميع أشكال الرّقابة السّلطويّة التّقليديّة جرّاء ثورة الاتصالات ووسائل الإعلام الإخباريّة الفضائيّة، وانتفضت ضدّ نظام الهيمنة والاستبداد، يدفعها في ذلك حلم بشغل وعيش كريم وواقع جديد يضمن الحرّية، فكانت الثورات العربيّة التي انطلقت من تونس وبدأت في الانتشار في العديد من الأقطار العربيّة.
 (3)
الشّباب الذي قام بالثّورة وأسقط الطّغاة، والنّخب التي تسلّمت المشعل من بعد ذلك وحكمت البلاد ليسوا أولياء ولا قدّيسين، فهم قبل كلّ شيء نتاج ثقافة نظام الاستبداد وقيمه السّائدة(1). وتحدّي هؤلاء الاستبدادَ لا يعني بالضّرورة نشوء أخلاق وقيم جديدة. لهذا كان لزاما القيام بنقد للثّقافة والقيم السّائدة والعمل على نشر ثقافة بديلة وتأصيلها في المجتمع حتّى لا تنتكس الثّورة، وهذا ما لم يحصل بالطّبع خلال العشريّة الفائتة، إذ هرول الجميع إلى السّياسة وتركوا الثّقافة جانبا، ولم يبال أحد بالمثقّفين وبرجال التّعليم، فغدت السّاحة مرتعا لقوى فكريّة سلفيّة متطرفة بشقّيها الدّيني والعلماني المتغرّب، فاحتلت المشهد الثّقافي والفكري وحوّلته إلى ميدان صراع وعراك بينها. إنّ الاستبداد ثقافة والدّيمقراطيّة والمواطنة ثقافة، فكيف يمكن أن نمرّ بسلام من ثقافة الاستبداد التي كبّلت العقول والأيدي إلى ثقافة المواطنة التي تحرّر الإنسان وتجعله سيد نفسه وتدفعه نحو الإبداع من دون ثورة ثقافيّة؟. لهذا مثّل غياب المشروع الثّقافي معول هدم للثّورة وعامل فشل لعمليّة التغيير.
(4)
عندما تُضيع الجماهير البوصلة تتحوّل إلى قنبلة موقوتة، وتفرّخ ما نراه اليوم من تطرّف وعنف ودمار، وتتحوّل إلى كتل بشريّة يحرّكها من يتحكّم في أدوات ومؤثّرات تجييشها ومن يتوجّه إلى عاطفتها وليس إلى عقلها(2). ففي الحالة الجماهيريّة العاديّة تنخفض طاقة التّفكير، وتنعدم الرّغبة في استيعاب الحجج العقليّة، وتطغى الخصائص التي تصدر عن اللاّوعي أهمّّها سرعة الانفعال والتّأثر والتّعصب، فما بالك بجماهير قد أضاعت بوصلتها وتحكّمت فيها قوى الردّة والعمالة والاستبداد التي فقهت نقاط ضعفها وقوّتها وهي بصدد استغلالها لترويضها من جديد ودفن الحلم العربي في التّنمية والنّهضة.
قد يغلق قوس الثّورة لفترة قد تطول وقد تقصر، لكنّ حلم تغيير واقعنا إلى الأفضل يبقى حلما مشروعا ولكنّه أمر في غاية الصّعوبة والتّعقيد ويتطلّب فهما عميقا لطبيعة مجتمعاتنا وللعوامل الدّاخليّة والخارجيّة المؤثّرة فيها. ولأنّ ثقافة الشّعوب هي التي تحدّد قابليتها للتّطور وقدرتها أو عجزها على استيعاب ما يحدث من حولها من تغيّرات ومن ثمّ التفاعل معها والتأثير فيها، فإنّ ما نعيشه اليوم في البلاد العربيّة وما نلمسه من تحوّلات محلّية ودوليّة يدعو إلى ضرورة إحداث تغيير كبير في ثقافة هذه المجتمعات حتّى تتحرّر من العوامل المكبّلة لعمليّة نهوضها وتنميتها. فالمسألة الثّقافيّة كما يقول رضوان السّيد «تقوم أساسا على البنية الثّقافية للمجتمع حيث تحدّد هذه البنية إلى درجة كبيرة واقع ومستقبل المجتمعات العربيّة والاسلاميّة بل أن معظم الإشكالات تعود أساسا إلى أسباب ثقافيّة بالدّرجة الأولى»(3). فلا مجال لحدوث نقلة اقتصاديّة واجتماعيّة معتبرة للشّعوب العربيّة تحرّرها من التبعيّة وتضمن لها موقع الفاعل في الحضارة بدل المفعول به من دون إيلاء المسألة الثّقافية الاهتمام اللاّزم والانطلاق في إصلاح ثقافي عميق يشمل تغييرا في السّلوك والاتجاه والقيم ومفاهيمنا للعمل، والوقت، والنظام، والسّلطة، والمؤسّسات. لكن هذا الإصلاح الثقافي لا يمكن أن يتحقّق بين عشيّة وضحاها، فتغيير الثّقافات ليس بالأمر الهيّن ويتطلب كثيرا من الجهد والصّبر ‏والتّخطيط المحكم وتكاتف جهود السّياسيين والمثقفين الوطنيين بمختلف ‏مشاربهم الفكريّة، لخلق جوّ من الحوار والتّقارب وترسيخ عقليّة احترام الآخر وتكريس مبدأ التّنوع.
الهوامش
(1) في تونس مثلا، لم تشهد الثقافة تصحّرا وتهميشا مثل ما شهدته مع بن علي وعصابته، فقد تمّ إقصاء المثقفين بمختلف مشاربهم الفكريّة وتمّ مقابل ذلك التسويق لثقافة الإستحمار بالاستعانة بثلّة من أشباه المثقفين الذين باعوا أنفسهم للسّلطان. وعمدوا إلى التعليم، فأفرغوه من كلّ محتوى ومضمون وحاربوا كلّ أشكال التديّن والالتزام بالهوية العربيّة الإسلامية. وفي ظلّ هذا التصحّر الثقافي والمعرفي، انتشرت ثقافة الفساد والرّشوة والانتهازية وعدم المبالاة وحبّ المال وكره العمل وانتشرت الجريمة والرّذيلة وفساد الأخلاق. 
(2) هذا ما يبرر ارتفاع أسهم الفئات التي تدّعي تمثيل الجماهير عبر الخطاب الشّعبوي، والتي تؤسّس في غياب ثقافة الحوار لتكون الناطقة باسم الشعب، وتدّعي الوصاية عليه والأخطر من ذلك أنّها تؤدّي في الغالب إلى الانزلاق نحو الفوضى وبالتّالي خلق مزاج الخوف من انعدام الأمن لدى عموم الناس فيجعلهم يحنّون من جديد إلى الدكتاتوريّة.
(3) د. رضوان السيد، المسألة الثقافية في العالم العربي الإسلامي، دار الفكر المعاصر بيروت - ص 12